تمرّ بالإنسان حالات من الضيق والغربة فتضيق الأمور عليه وتكاد تأخذ بخناقه، مما يجعلُ صدره ضيقاً حرجا، وتتغيّر عليه الأرض برحابها وتتبدل في عينيه، وهنا تستبد به المشاعر وتنداح في هامته الخواطر وتتقاذفه أمواج من الحيرة، وبينما هو يفكِّر يلحظ أن الثقة بدأت تتسرب من نفسه مرتحلة، لتجعله بعد ذلك خاوي الوفاض من كل أمر راشد، كل ذلك يحدث في بواكير المحن والهموم التي تصيب الإنسان، وهي تعظم وتأخذ بُعداً مبالغاً فيه بسبب الشيطان، حيث ينفخ فيها من روحه ويجعل منها سبيلا لزحزحة الإنسان عن إيمانه بقدر الله سبحانه وتعالى، والحقيقة أنه "لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"، وكم ارتكس في هذا الأمر من إنسان فخسر الدنيا والآخرة، ولو تفكر الإنسان في الهموم وما يصيبه من كدر لوجد أنها إما حسرة على أمر فات وإما على أمر لا زال في علم الغيب، لا يدرى ما الله فاعل فيه، وبالتالي لا يجني من ذلك إلا الحُزن والخوف. إن ما مضى لا يعيد إليك الحُزن شيئًا من فائِتِه، ولو أسبلتَ عليه ماء الشؤون وأَتْبَعتَ النفس حسراتٍ عليه، وما هو آتٍ من الهموم والأكدار لن تدفعه تلك الزفرات والأنات، وقد ثبت في عرف الحكماء أن جُلَّ ما يتخوف منه الإنسان لا يقع وإن وقع فالخطب منه لا خطر له، فما يفعله الإنسان من حزن وخوف، لا يعدو أن يكون عبثًا منافيًا للحكمة، لأنك قد أنزلت حزنك وخوفك في غير مواضعه، حيث لا جدوى، ووَضْعُ الشيء في غير مواضعه منافٍ للحكمة، كما أن الحكمة أن تضع الشيء موضعه اللائق. الأنبياء أشد الناس بلاءً عندما تضرب الهموم والأحزان بأطنابها وتَنصِب رُوَاقها، تقذف في الرُّوع أن المصاب هو المصاب وأن ما أصابك لم يُصَبْ أحد بمثله، ولو تفكرت وأبصرتَ لرأيت أنه ما من إنسان إلا وله نصيبه من الهم والحزن، وهو لا ريب لاحِقٌ به، لا فرق في ذلك بين غني أو فقير أو ملكٍ أو حقير، لأنهم من أبناء الدنيا، وسنن الدنيا ماضيةٌ فيهم ولازمة لهم وآخذةٌ بحُجَزهِم، ولن يكونوا عنها بمحيص، كما لم يكن لأسلافهم ذلك، وحتى خِيرةُ الله من خلقه لم يكونوا خِلوًا من محن الدنيا ومواطن الأحزان، فكم عانى الأنبياء والمرسلون من لأْوَاء الدنيا، وكم تكبدوا من غُصَصِهَا، حتى إنهم في ذلك على الضِّعْفِ منك ألما وكدرا، لتُضَاعف لهم الحسنات، كما ضُوعِفت لهم المنغصات، قال النبي صلى الله عليه وسلم "أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ"، وقد كانت مرارة البلاء عند هؤلاء الصالحين حلاوةً تستعذبها أفواههم، لأنهم خلطوا تلك المرارة بحلاوة الإيمان والتسليم والرضا، فغلبتْ حلاوة الرضا مرارةَ الشقاء. تمام الرضا.. "لا يرد القدرَ إلا الدعاء" قد يتساءل البعض كيف بَلَغَتْ هذه النفوس المطمئنة تلك المنازل وكيف بوأت نفسَها تلك المكانة الرفيعة من الرضا؟ ولا شك أنَّ السبيلَ إلى ذلك كان التسليمُ لأقدار الله تعالى، وما أُصِيبَ من أصيب في دينه قَبْلَ دنياه إلا لغياب ذلك المفهوم عنهم، وأولئك الرهط وإنْ جَعَلُوا من القدر تُكَأةً للتسليم، إلا أنه تسليم إيجابي، لذا نراهم يحاولون دفع المقدور بالقدر نفسه، بفعل الأسباب التي تخفف عنهم وطأة ذلك المقدور، ويجلبون لتلك الأسباب ما يبعث فيها البركة من دعوة صادقة ومقولة مأثورة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يرد القدرَ إلا الدعاء"، وكم للدعاء من أثر على مقدور الله، فربما ارتفع الدعاء ونزل القدر، فرفع الدعاءُ القدرَ فمنع وقوعه، وربما كانا في منزلة واحدة من القوة، فحينها يعتلجان إلى قيام الأشهاد، فلا القدر ينزل ولا الدعاءُ يرفعه، وربما كان الدعاء من الضعف بمنزلة فينزل القدر، ولكن يبقى للدعاء أثره في تخفيف المقدور. الذّكر يُذهب الهمّ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم إلى المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له «أبو أمامة»، فقال "يا أبا أمامة: ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟"، قال "همومٌ لزمتني وديون يا رسول الله"، قال "أفلا أعلمك كلامًا إذا أنتَ قُلْتَهُ أذهب الله عزَّ وجلَّ همك وقضى عنك دَيْنَكَ؟"، قال قلت: بلى يا رسول الله، قال "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال"، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عز وجل همي وقضي عني دَيْني. الذلّ لله غنيمة آجلة أم عاجة حين يستفرغ المسلم جَهْدَهُ دعاءً لربه ولياذاً بجانبه، صادقاً موقناً بالإجابة، لا شك أنه ينتظر الفرج وموعودَ الله بإجابةِ دعاء مَنْ دعاه، ولا شك أن انتظار الفرج عبادةٌ من العبادات، لأن العبد إذ ذاك في قُرْبٍ من مولاه، وعلى تَعَلُّقٍ بجنابه في ذلة وافتقار، وهذه منزلةٌ قل أن يصل إليها العباد، ولو لم تكن تلك البلية التي أحاطت بك، ما ذقت لها طعما، ولربما خرجتَ من الدنيا ولم تنل منها حظك، فانظر كيف أتتْ هذه المحنة بتلك المنحة، قال تعالى "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون".