مازلت مصرا (وأقولها دائما لأصدقائي) أن صوتها ليس أرضيا.. إنه يتنزّل من السماوات العلى، أو لعله يأتي من جهات خفية في الكون، يأتي من تلك الجهات المسكونة بالألغاز والسحر واللامسمى... وأقول لأصدقائي هل تتصوّرون هذه الدنيا بدون فيروز؟ بدون حضورها الطاغي فينا كالخبز والماء والشجر وشدو الطير عند أول الصباح؟؟ هي جارة القمر، ولحن حزين في حنجرة عصفورة الشجن، هي ناي الغناء الذي لا يمل والبحر الأوسع من حب مكين. هي الأصياف والشتاءات والأعلى من كل الفصول، نار القرى، غضب الفقراء في ليل الثورة، هي أم هذا الفقدان.. ما زالت تحفر فينا ولا نصل إلى غير هذا الفيض الذي لا حد لموجه المستعاد في الذكريات.. فيروز من أبد تدلنا على النسخ الجاري في شجر الروح، على مطر خجول في غيمة القلب، لا نسميها، إذ لا لغة يمكنها تسييج الحالة، كل ما هناك روائح وعطور وإشارات غامضة ولذيذة.. هي الموعودة لترميم كل هذا الخراب المحيط بنا.. وهي الناجزة وعدها.. كل أغنية معمار يعيد ما درس من أطلال الزمن إلى بهائه الأول بأنفاس أرق من هيول الولادة وأحد من حشرجة الموت. هي هذا وأكثر، في قلب الشعر ولحائه الصافي تسكن بكل جلال القديسات، وهيلمان ملكات العهد القديم، حتى الوصف قاصر هنا، كل ما هناك أني أشد على قلبي خوف أن نفقدها وهي التي ملأت الدنيا بحضورها لأكثر من نصف قرن.. أشد على قلبي لأخسر أكثر مما خسرت.. أتأمل.. كل خساراتي بهدوء، ولا مفر من الوصف.. هي الأمل الأخير، الأمل المنتصر على كل اليأس المتربص بنا في كوابيس لا جنس لها ولا اسم.. وهي أمّ الشعراء من المتنبي إلى نزار قباني ومن أبي فراس الحمداني، إلى بشارة الخوري ومن زجّال أندلسي إلى جبران خليل جبران.. في صوتها بينت أرز لبنان أخضر، وتولد ريح بأجنحة تواهم الغيب.. في صوتها رغي أطفال وثغاء نعاج في سهل البقاع.. حفيف شجر في غابات غريبة.. خرير سواق، وهدير موج.. في صوتها كل الطبيعة تتكلم بأصواتها.. وهنا أحاول أن أصف، وأن أسمي، لكني عاجز.. في صوتها أيضا لغو القرويات، وهمة البحارين.. أجراس كنائس، وتهجد قانت درين في صومعة مسجد. في صوتها انبثاق الله بردا وسلاما في قلب متعبد خاشع في دير أو جامع أو في صحراء الأبدية. في حروب لبنان الطاحنة كان المتقاتلون على الجبهتين يأخذون استراحتهم، يشعلون سيجارة ويريحون الأسلحة، ويشغلون مذياعهم المتقاتل بالبيانات، لكن البيانات كلها كانت تتخشب هنا وهناك، ويعلو صوت فيروز هنا وهناك.. وهناك في كل الدنيا في غنائها تضع الحروب أوزارها ويلتقي المتقاتلون على كأس شاي ويمرحون كالأطفال.. عندما تغني فيروز تتحول القنابل إلى ورود، ويعود الإنسان.. إلى إنسانيته حتى الضحية والجلاد يتصالحان، غناء فيروز هدنة حرب تعاد كلما علا صوتها. بعد كل هذا العمر وبعد كل الحروب، هاهي فيروز تفاجئنا بالغناء الجديد في ألبومها الجديد عن الأمل، مجددا، وبعبقرية ثمرة رحمها زياد الذي تغذى من صوتها وهو مضغة في جسمها، والذي رضع كل الأحاسيس التي زرعتها فينا من ثديها.. هاهي تعود بالألق الأول وبالروح الخالدة لتزيد من حيرتنا الجميلة.. بينها وبين زياد ماهو أكبر من تصنيفه، ما لا يقال، كالسرّ الخالد في جينات لا يستطيع العلم تفسيرها. أكتب عن فيروز وفي دمي يسري صوتها من أول الصوت إلى أكبر طبقات الصوت، من النأمة الأولى إلى أعلى درجات السلم الموسيقي.. أكتب عنها لأخفف من خوفي عليها، من خوفي على فقدانها وهي أم كل هذا الفقدان.