في ثمانينيات القرن الماضي، عرفت قلم أمين الزاوي من خلال بعض كتاباته في جريدة الجمهورية الصادرة في وهران، حيث كان يصلني بين فترة وأخرى عدد من أعد ادها مع صديق مسافر من أو إلى الخليج· وفي التسعينيات أتيح لي أن أقرأ بعض رواياته، فعرفت فيه أديبا له أطروحة متكاملة قد لا تستوعبها الساحة الأدبية الجزائرية، التي لاتزال الدماء الجديدة فيها تعاني من التخثر الذي يشكله روائيون ونقاد ومهيمنون ثقافيون وسياسيون يريدون الحفاظ على مكتسباتهم، فجعلوا من أنفسهم قضاة، بل اشتغلوا قابلة توليد أو كما يقول المشارقة ''داية'' يقتلون كل وليد ليس على شاكلتهم، فهم يفرضون على المجتمع أن يعيد إنتاجهم وإلا فيحكمون عليه بالعقم، وكان أدب أمين الزاوي لا يشبههم، ولست أدري كيف (فلت) من بين براثن تلك (الداية). وفي التسعينيات شهدت الجزائر ما شهدت من أهوال، صنعتها أصلا حالة انغلاق الجدل بين الثقافي والسياسي، والغش الذي تمارسه تلك (الداية) الثقافية في الإبلاغ عن المواليد الجدد· فأعاد هذا الانغلاق إنتاج مرحلة منظمة الجيش السري الفرنسية التي تخصصت في تدمير المؤسسات النافعة للعقل التي يمكن أن تؤول إلى الجزائريين ويستفيدون منها، فدمرت من بين ما دمرت المكتبات وأحرقت الكتب، وقتلت من بين من قتلت المثقفين والكتاب··· وقد نجا أمين الزاوي من محاولة قتله بذلك الرصاص المنهمر من الدائرة المغلقة، فلا تعرف من أين يأتي، مما اضطره على الهجرة ردحا من الزمان·· إلى أن ناداه المكان وعاد. كنا نلتقي بهذه المناسبة أو تلك لقاءات قصيرة وعابرة، وإن ظللت أحاول تتبع نتاجاته الغزيرة··· ثم أتيح لي أن أتتبع نشاطاته وهو على رأس المكتبة الوطنية من مقهى أدبي إلى مقهى فلسفي إلى محاضرات وندوات·· فمرة يطلق اسم شاعر كبير جزائري كبير مثل الأخضر السائحي على إحدى قاعاتها ومرة يكرم أستاذ أدب عريق مثل عبد الله ركيبي·· فقد أعطى الزاوي بنشاطاته تلك مكتبتنا الوطنية هويتها الجزائرية وأطلق تصريحه الشهير بأنه لا يريد أن تكون المكتبة ضريحا للكتب، بل يريدها خلية عمل ثقافي، وهنا أشفقت على هذا الرجل فخبرتي في السلوك الإداري في مشرق الوطن العربي ومغربه علمتني إن الإدارة العربية فرعان لجذر واحد، أولهما فرع يسمح لك بالكلام دون العمل وهو الفرع الأقصر والأضعف، وثانيهما فرع لا يسمح لك لا بالكلام ولا بالعمل، ولا بأس أن تشطح وأن تنطح وأن تردح·· وهذا السلوك يتفق مع كل اليافطات المعلقة على رأس كل شارع عربي: أيها المواطن لا تفكر نحن نفكر لك·· فاذكر فضلنا وسبح بحمدنا·· أشفقت على الرجل من كل قلبي. وحين نشر لي الأديب رابح خدوسي، مشكورا، كتابين عن تاريخ الزواوة والشيخ طاهر الجزائري اصطحبني لتقديمها إلى مكتب مدير المكتبة الوطنية وقدمني إليه، وكانت صحتي قد اعتلت وأوضاعي قد (رشيت) فعرض عليّ الرجل وظيفة استشارية تتعلق بالنشاط الثقافي في المكتبة، فأعجبني العرض وشكرته كثيرا جدا. لكن في المسألة أمران، أولهما: أنني رجل بيني وبين العمل الإداري عداء قديم، لأحبه ولا أحب دهاليزه ولا صراعاته الوظيفية التافهة ولا مسح (الشيته) الذي يمتهنها الإداريون، ولا هو يحبني ولا يحب تمرداتي ولا سذاجتي وطفولتي وتعلقي بكتابة لا علاقة لها بالتقارير· وثانيهما أن اعتلال صحتي لن يسمح لي بالنشاط سواء كما أرغب أو كما يرغب أمين·· فعدت إليه لأقول له يا دكتور أنا رجل ليس بيني وبين الإدارة حائط عمار·· فقطع عليّ الطريق إذ قال سأعاملك معاملة مثقف. وكان ذلك بالفعل، فقد عاملني الرجل كما عاملني مساعدوه مثل الأخوة بوزيد والنجار معاملة جميلة·· لكن صحتي أبت وامتنعت رغم محاولتي إرغامها·· إلى أن اعتذرت واكتفيت بحضور بعض تلك النشاطات الثقافية·· فمقعد المتفرجين أكثر راحة من مقعد العاملين·· هكذا هي الدنيا.. وفجأة وفي شهر رمضان من العام 2006 أجده يقيم حفلا في المكتبة الوطنية لتكريمي، فدهشت للمبادرة ودهشت لعدد الحضور ونوعيته ودهشت للكلام الذي قيل· فنسيت تباريحي كلها· وبلسمت تلك الأمسية كل جروحي وبرهمت جميع قروحي. ولكن أمين الزاوي لم تتوقف مفاجآته الجميلة لي·· فحين قررت الهجرة إلى المشرق من جديد قبل أن يجدني الصحب متوسدا كتبي في ساحة بورسعيد، دعاني وسألني: ماذاعساي أن أقدم لك كفرد وكمؤسسة ولا ترحل؟ فقلت حكايتي بسيطة خلاصتها أني لا أملك في هذا الوطن سقفا ولا مساحة قبر، ولا أنت ولا المؤسسة لديكم مساكن توزعونها... كان أمين الزاوي بمواقفه الحانية بالنسبة لي وطنا وارفا وشجرة محبة فارهة ودالية كرامة إنسانية·· وليس خريطة جغرافية رسمت بقلم المصالح··· فليس عندي ما أقدمه للرجل شيئا· وتشاء الصدفة أن ازداد غرفا من حنانه فينحفر اسمه في شراييني·· إذ أخذتني نوبة هبوط سكر وأنا في مطار الدارالبيضاء في نوفمبر 2009 خلال ذلك الهيجان الكروي الذي تتذكرون ولم أستطع مد يدي بأوراقي إلى الموظفة·· لولا أن هبط عليّ من السماء الشاب عمر، ابن صديقنا الأديب رابح خدوسي الذي أوصلني إلى شرطي الجوازات وأنا في النفس الأخير، فتلقاني ذلك الشرطي الكريم بكأس ماء محلى إلى أن استعدت أنفاسي ومشيت كنملة منهكة إلى القاعة·· فإذا بأمين الزاوي يتلقاني ويظل يرعاني طوال ساعات الرحلة إلى دمشق·· وشعرت أني مدين له دينا لا تسدده السنون·· وكم كان فرحي كبيرا حين التقيته هذا الصيف مع أخي احميدة العياشي في الشام·· فرحت كما يفرح غائب بوطن وكما يفرح متعب بشجرة.