انتشرت في الفترة الأخيرة العديد من مراكز التنمية البشرية، مركز الراشد، صناع الحياة، الارتقاء، الذكاء··· وغيرها من المراكز التي باتت تجد في هذا المجال فرصة واسعة للنشاط بالرغم من حداثة هذا العلم بالجزائر، إلا أنه نجح في أن يفرض نفسه في فترة وجيزة، وقد ساعدته القنوات الفضائية العربية على هذا الانتشار بعد الترويج الكبير لعدد من أسماء المدربين المشهورين عبر العالم من أمثال ابراهيم الفقي، فؤاد عطية، صالح الراشد··· وغيرهم· المثير أن الإقبال على هذه الدورات التدريبية بات مضمونا بالرغم من الأسعار الخيالية التي قد تتجاوز 10 آلاف دينار للدورة الواحدة، مع العلم أن مدتها لا تتجاوز يومين· وقد كانت لنا فرصة للحديث مع أحد أتباع التنمية البشرية، محمد الذي يعتقد أن مختلف الدروس التي تلقاها ساعدته على مواجهة الواقع من خلال إعادة النظر في حياته وترتيب أولوياته، بالإضافة إلى القدرة على فهم الذات والتخطيط للمستقبل· قد يبدو مثل هذا الكلام بسيطا، غير أن القدرة على تنفيذه تحتاج لكفاءة عالية، وهنا يأتي دور مراكز التدريب والتنمية البشرية التي تقوم بهذا الدور، مع العلم أن هذا العلم قادم من الولاياتالمتحدة التي اشتهرت بتنظيم دورات من أجل تأهيل اليد العاملة وحثها على تقديم خدمة إضافية ذات جودة في محيطها المهني، من هنا كان انتشار التنمية البشرية في الشركات والمؤسسات لينتقل فيما بعد للمجالات الفردية، لكل الراغبين في إعادة تخطيط حياتهم، وقد كانت بداية الانتشار في الجزائر مع الشركات سيما الخاصة والأجنبية التي كانت تقدم دورات لعمالها من أجل تحسين مستواهم في العلاقات الاجتماعية، ليصل الأمر إلى السياسيين الذين باتوا يأخذون دورات خاصة في منازلهم في سبيل تحسين قدراتهم في فنون الخطابة والإلقاء والتعامل مع الآخرين، حسب ما أكده مدير مركز ''الذكاء'' الذي أكد أن وجوه مهمة في السياسة في الجزائر باتت تحرص على متابعة دورات التنمية البشرية، ليتأكد مرة أخرى أن الجزائري في أمسّ الحاجة لإعادة التخطيط لحياته وإيجاد معالم باتت مفقودة في المجتمع· الدكتور محمد مايمون، المدير التنفيذي للأكاديمية العربية العالمية للتدريب وتنمية الموارد البشرية بدبي: ''لا يمكن الاستمرار في الاستثمار في الإسمنت دون التفكير في العنصر البشري'' يتحدث في هذا الحوار الدكتور محمد مايمون، المدير التنفيذي للأكاديمية العربية العالمية للتدريب وتنمية الموارد البشرية، عن التأخر الرهيب الذي باتت تسجله الجزائر في مجال التنمية البشرية، مؤكدا أن الميزانية الضخمة التي خصصت للتنمية الاقتصادية لم تعر أدنى اهتمام للعنصر البشري، ما يشكل خطرا ليس فقط على الاقتصاد الوطني وإنما على المجتمع ككل، الذي يقول عنه إنه بات يسير دون هدف محدد ما يجعله تائها وغير قادر على تقديم أي إضافة لا لأنفسهم ولا لمحيطهم، بما في ذلك المحيط المهني الذي بات يتأثر سلبا من حيث تراجع مردودية الأفراد بسبب غياب القدرة على التخطيط للمدى البعيد· تشرفون اليوم على تكوين بعض الشباب في كيفية التسطير لحياتهم المستقبلية، كيف ذلك؟ التخطيط الاستراتيجي الشخصي يعتبر بابا من الأبواب الكثيرة التي تدخل في تخصص الموارد البشرية، شأنه شأن التطوير الاقتصادي، السلامة والأمن، غير أن هذا التخصص يهتم بتطوير الذات، حيث يركز على تعليم الشباب كيفية وضع خطط لحياتهم خاصة الدراسات الحديثة التي أجرتها كل من جامعة ''هارفارد'' بنيويورك وكذا مركز الراشد العالمي، إلا أن 97 بالمائة من شعوب العالم لا يخططون لحياتهم، حيث أن تلك الدراسة شملت عينات مختلفة· في أي مرحلة يفترض البدء في وضع خطة للحياة؟ إن البداية السليمة لوضع الخطط الاستراتيجية لتسطير الأهداف والبحث عن طرق لتجسيدها، يجب أن تكون في سن ال ,14 حيث يعتبر هذا العمر أفضل بداية، لأن الطالب في تلك المرحلة يكون على مشارف اجتياز امتحان البكالوريا، ومن ثم اختيار التخصص الجامعي الذي سيتوقف عليه مستقبله، وبالتالي لابد من إدراك حتمية تعليم أطفالنا على صناعة رؤية، وكذا وضع نصب عينيه أهداف محددة والتخطيط على أساسها قصد بلوغها دون أي خسائر· كما أن ثاني أفضل وقت للتخطيط الشخصي هو بعد الأربعين سنة، حيث يستطيع الشخص وضع خطة مستقبلية لخمس سنوات لإعادة إحياء الأحلام· ألا ترى بأن سن 14 يتطلب مرافقة وتوجيه لا يتوفران عندنا في الجزائر؟ هنا يكمن الخلل في منظومتنا التربوية، فالقائمين على القطاع التربوي في الجزائر لا يدركون بعد بأن التعليم ليس معرفة ونظريات فقط بل هو إشراف ومتابعة في الحياة بالدرجة الأولى· فالكم الهائل من العلوم الذي يتلقاها التلميذ ابتداء من الطور الأول إلى الثالث دون وجود برنامج هادف لمرافقته تجعله في حيرة وتدفعه إلى التساؤل الدائم بخصوص ماذا سيفعل بتلك المعلومات، وبالتالي يخلق لديه حالة من الفوضى، مما يؤثر على تحصيله العلمي· ففي دول الخليج -على سبيل المثال- يتم في مرحلة التعليم المتوسط تعليم برامج للتلاميذ تسمى ''إعداد القادة'' يقومون من خلالها بتكوين شخصية التلميذ كل واحد حسب إمكانياته من أجل حثهم على استغلالها تحت إشرافهم وبمرافقتهم، باعتبار أن شاب اليوم هو قائد الغد، لذلك فإنه من الضروري إعادة النظر في منظومتنا التربوية· على ذكر الدولة، كيف تقيّمون اهتمامها بالتنمية البشرية؟ ليس هناك اهتمام بالتنمية البشرية، فالجزائر كغيرها من الدول التي لا تعطي أي أهمية لتخصص الموارد البشرية رغم أهمية هذا الفرع· وبالاستناد إلى العديد من المؤشرات، يمكن القول بأن الجزائر متأخرة جدا في هذا الميدان حتى بمقارنتها مع الدول الشقيقة، باعتبار أن الجزائر احتلت المرتبة التسعين في مجال النمو البشري خلال دراسة سنوية أجرتها جامعة هارفرد الأمريكية، هو مؤشر يثير العديد من التساؤلات حول سبب هذا التأخر واللامبالاة· ما سبب هذا التأخر في الاهتمام بالموارد البشرية رغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة؟ في الحقيقة، هناك عدة أسباب وراء عدم اهتمام الجزائر بتخصصات الموارد البشرية ترتبط كلها بضعف الاستراتيجية المعتمدة التي أصبحت غير نافذة، لأن الشخص الذي لا يملك رؤية لنفسه من غير المعقول أن يملك رؤية أخرى للجميع، وهنا يكمن مربط الفرس، فالدولة تنفق أموالا ضخمة دون جدوى من خلال منظور بعض النافذين للتنمية البشرية وليس بمنظور المتخصصين، من جهة· ومن جهة أخرى، غياب آليات تدعم توجيه الحكومة إلى إعطاء أكبر اهتمام، خاصة وأن الجزائر تتوفر على العديد من مراكز التوجيه وكذا الموجهين، ما يساعدها على التقدم في هذا الميدان· ماذا تقترحون من أجل زيادة الاهتمام بالتنمية البشرية؟ أولا، يجب إعادة النظر في السياسات الحالية المعتمدة في هذا الميدان، إضافة إلى رصد مخصصات مالية لتمويل عمليات تطوير التنمية البشرية، لأنه من غير المعقول صرف أموال مهولة من أجل البنيات التحتية دون التفكير في بناء الإنسان، ففي اليابان مثلا قيمة العنصر البشري تأتي قبل الاقتصاد، زيادة على أن الاهتمام بالفرد تخلصنا من العديد من الظواهر والآفات الاجتماعية كالسرقة، المخدرات والتسرب المدرسي، لأن توجيه الفرد ومساعدته على تحقيق أحلامه بالطرق السليمة تعني مجتمعا متطورا سليما خاليا من جميع العقد والآفات، لذلك هناك العديد من الدول المتقدمة استحدثت وزارات متخصصة في الموارد البشرية، حيث تتكفل بتكوين الأشخاص في جميع القطاعات· ثانيا، لابد من إعداد دراسة لتحديد ما يحتاجه المجتمع الجزائري، من ثم الاستعانة بالمتخصصين في التنمية البشرية من أجل وضع خطة وطنية في سبيل تطوير كوادرنا البشرية أولا، ومؤسساتنا الاقتصادية التي تتخبط في متاعب يومية بالاعتماد على تجارب العديد من المؤسسات الاقتصادية العالمية بجانب التنمية البشرية، طبقتها ونجحت· من خلال احتكاكك بالشباب الجزائري، كيف تقيّم مدى استعداده لتقبل هذه البرامج؟ إن الشباب الجزائري يملك قوة وإرادة هائلة، لكن يلزمه التكوين والمرافقة، فالجزائر شأنها شأن العديد من الدول التي تعيش وضعا اجتماعيا صعبا، حيث تزيد حاجة التغيير والبحث عن الأحسن، الشباب الجزائري تائه لم يعد يجد المعايير ولا المعالم التي تقوده في حياته، فقد انصبت كل الاهتمامات في البحث عن الماديات فقط· ولعل احتكاكي بعينة من الشباب الجزائري ليومين كانت كافية للوقوف على مدى بساطة أحلامهم التي تتطلب بعض الرعاية فقط من المسؤولين·