يتحدث مدير البحث بالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، الدكتور رشدي رشاد ل ''الجزائر نيوز''، عن واقع تدريس العلوم الرياضية في الجامعات بالمجتمعات العربية التي لا تمنح للعلم قيمة اجتماعية، ويعدد أسباب جمود العرب وتخلّفهم في العلوم الرياضية، مشيرا إلى أنه لا يمكن البحث في تاريخ هذا العلم من منطق القومية الفارغة والادعاءات وإنما عن طريق التحليل· ورد موضوع المحاضرة التي قدمتموها في الجزائر مؤخرا تحت عنوان ''مساهمة الرياضيين العرب في تطوير علوم الرياضيات''، في البداية هل يمكن أن توضح ما الهدف من إثارة هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات؟ الهدف من التركيز على مساهمة الرياضيين العرب في تطوير علوم الرياضيات هو بيان أهمية معرفة تاريخ الرياضيات عند دراستها والبحث في هذا المجال، والتأكيد على أن الحضارة العربية لم تكن حضارة دين ولغة فحسب، ولكنها حضارة علم وبحث علمي متطور، وإن لم نفهم هذا لن نفهم الحضارة العربية الإسلامية، وأريد التأكيد أن المدينة الإسلامية لم تكن مدينة فقه وعبادات وإنما مدينة عقل، وليس هناك تعارض بين هذا وذاك، والهدف الأهم من هذه المحاضرة هو إبراز أن العمل في تاريخ العلوم عمل دقيق ومهني، ولا يمكن الحديث في هذا العلم بقومية فارغة وادعاءات، هذا ما يستدعي الدراسة والتحليل الدقيق وتهيئة الناس للاهتمام بعلوم الرياضيات· ما هو واقع تدريس علوم الرياضيات في البلدان العربية؟ للأسف الشديد، ليس هناك تعليم جاد لمادة للعلوم الرياضية أو لهذا الفرع ككل في أي بلد من البلدان العربية والإسلامية· فيما تكمن أسباب ذلك؟ سبب عدم جدية الدول العربية والإسلامية في تعليم هذه العلوم يعود إلى اللامبالاة، علاوة على وجود أسباب أخرى تتفاوت درجة أهميتها ومساهمتها في تراجع تعليم العلوم الرياضية والجمود الذي يميز تطور هذه العلوم في الدول العربية· هل يمكن أن توضح لنا هذه الأسباب؟ في حقيقة الأمر، ترتبط أسباب تخلف العرب في هذه العلوم بما يتضمنه التحليل السياسي والتاريخي للحضارة العربية الذي يثبت أن البلدان العربية كانت تحت ضغط الاستعمار في فترة من الفترات، ولم تتمكن إلى غاية يومنا هذا من التخلص من آثاره، حيث لا تزال الدول الاستعمارية تحكم سيطرتها على هذه البلدان في مختلف المجالات حتى في مجال العلوم· تصنف الدول العربية في ذيل الترتيب بحكم أنها تحتل المراتب الأخيرة في علوم الرياضيات مقارنة بالدول الأوروبية، والدليل على ذلك أنكم عددتم أسباب جمود هذه العلوم في البلدان العربية كمخصين، ماردكم على ذلك؟ في البداية، أريد التوضيح أن الدول العربية تصنف في أدنى المراتب في مختلف العلوم، وليس فقط في مجال علوم الرياضيات، لكن هذا لا يعني أننا لا نملك كفاءات علمية لها من الذكاء والفطنة ما يؤهلها لخلق التميز والإنتاج في هذه العلوم، لكن على ما أعتقد أن المشكل مرتبط بالإمكانيات كذلك، والدليل على ذلك أن نفس الباحثين لو التحقوا بدول أوروبية لاستطاعوا البروز في هذا المجال، والتقدم في هذه العلوم، إذن المشكلة تكمن في غياب الإحساس بأهمية البحث العلمي والوعي بجدية تعليم الرياضيات، وأقصد بهذا البحث العلمي الأساسي وليس فقط البحث العلمي التطبيقي فحسب، والوصول إلى هذا المستوى يرتبط بالتقدم الاقتصادي وتصنيع المجتمع وإدخال القيم العقلية في المجتمع كذلك وتركيبة المجتمع، وتحديدا القيم العلمية في المجتمع، فعندما يصبح العلم قيمة علمية اجتماعية عند إذن ستحل أغلب مشاكل البلدان العربية، غير أن الواقع يثبت عكس ذلك لأن العلم لا يعتبر قيمة اجتماعية في المجتمعات العربية، حتى في الجامعات تختلف تلك القيمة، لكن ما أريد تأكيده هو أن العلم ليس قيمة اجتماعية في المجتمعات العربية. هل نفهم من هذا أن مشكلة الباحثين الرياضيين تكمن في غياب الإمكانيات في الدول العربية؟ بالطبع، لكن لا يمكن القول إن جمود العرب في تطوير العلوم الرياضية يقتصر فقط على الإمكانيات، هناك بعض الدول العربية على غرار المملكة العربية السعودية لها من الإمكانيات ما يسمح للباحثين الرياضيين ببعث هذه العلوم، لكن المشكل الأساسي يكمن في التنوير العقلي بأهمية العلوم ذات الصلة بنمط العلاقات الاجتماعية السائدة في دولة عربية معينة، لأن العلم في هذه المجتمعات ليس قيمة اجتماعية، وهذا مرتبط بمفهوم الديمقراطية والحرية الفردية بها، هذا ما يحيلنا إلى الحديث أكثر عن الجانب السياسي بالبلدان العربية· أتقصدون بذلك أن هناك علاقة وثيقة بين تطور علوم الرياضيات والمجتمع؟ بالتأكيد، لا يمكن الفصل بين مختلف العلوم وليس علم الرياضيات فقط والمجتمع· عند الحديث عن علوم الرياضيات لدى العرب يتم الاستشهاد فقط بمساهمة العرب القدامى على غرار الخوارزمي وابن الهيثم والجبري وأمثالهم، وهنا يمكن الحديث عن عجز الرياضيين حاليا حتى عن فك بعض شفرات الرموز الرياضية، وهذا آمر خطير· لكن ما الذي جعل المستوى بهذا الشكل؟ معرفة تاريخ علم معين له أهداف تتمثل في فهم الأفكار وكيفية توارثها، وهذا مهم جدا وليس فقط التركيز على التقنيات، والهدف الآخر هو خلق قيم علمية، فعلى سبيل المثال الفائدة من معرفة حركة التحرر في الجزائر هي أن نعرف كيف تشكلت ولماذا، والشيء نفسه بالنسبة لتاريخ العلوم الرياضية·