سؤال استفزازي صعب، يتجنب طرحه المصريون وغير المصريين، ليس لأنه يطال مصر وحسب، بل لأنه يطال أيضاً مستقبل القارتين، إفريقيا وآسيا، بالإضافة إلى أهم صفحات الحضارة في العالم القديم.. ولكنه سؤال يطرح نفسه بقوة هذه الأيام على المصرين وغير المصريين. وأريد في البدء أن أؤكد هنا أنني لا أصدق حرفاً واحداً مما قاله ''شهود آخر زمن'' من أن مصر لم تقدم شيئاً لمساعدة الثورة الجزائرية، وأن استخبارات عبد الناصر كانت تتآمر على الثورة.. إلى ما ذلك من كلام تطوع به هؤلاء وافتروا به على الحقيقة التاريخية، خدمة منهم للحقيقة الماثلة وهي التآمر على مصر والجزائر معاً. ولكني أؤمن أن مصر لم تصنع أهميتها عربياً وإسلامياً ودوليا، من ثروتها ولا من قوتها العسكرية، فلم تكن في مصر في أي يوم من الأيام ثروة خارقة للعادة، فهي كما يقول البعض هبة نهر النيل الذي لا ينبع من أراضيها.'' ولم تقدم مصر عبر تاريخها أي اختراع عسكري أو سلاح يقلب الموازين في الحروب.. حتى في عهد الفراعنة.. فقد كانت تعتمد على صبر مقاتليها وحسن إرادة فراعنتها لمعاركهم. فلماذا احتلت مصر هذه المكانة العالمية حتى قيل ولا يزال يقال ''مصر أم الدنيا؟''. قوة مصر، في اعتقادي، تكمن في قوة دورها، فلها دور حضاري بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، دور في الاتصال والمواصلات، دور في الثقافة، دور في الفكر، دور في الدين، دور في العروبة ودور في الإسلام. وهو دور عبر عنه جمال عبد الناصر في كتابه ''فلسفة الثورة'' حين تحدث عن دوائر مصر الثلاث وموقعها كجسر.. وعليها أن تحذر من أن تتقاتل هذه الدوائر فوق هذا الجسر لكن الحركة الصهيونية والسياسة الدولية المعاصرة، تطرح إسرائيل لهذا الدور. فلا بد من إلغاء دور مصر- فمعروف أن بريطانيا احتلت مصر لتأمين طريق الهند، وحين خسرت مصر خسرت الهند وإفريقيا كلها، وأما نابليون فرنسا فقد خسر الشرق كله حين انهزم في مصر، وحين أيدت مصر ثورة الجزائر خسرت فرنسا إفريقية، لأن مصر تلعب دورها لحسابها، بينما تلعب إسرائيل الدور لحساب الحضارة الغربية، فإذا كان لدى اليهود كتاب مقدس يرجعون إليه، فليس لديهم حضارة يدافعون عنها.. بل إن فكرة التوحيد التي يفاخر اليهود بها هي صدى لأفكار الفرعون المصري ''أخناتون'' أول من قال بالتوحيد على وجه الأرض. وعلى ذلك كان هدف الصهيونية دائماً هو إلغاء دور مصر، ولهذا السبب بالذات شنت عليها حروبها الثقافية والإعلامية والسياسية والعسكرية. وكان النصر الحاسم الذي حققته إسرائيل يكمن في معاهدات كامب ديفيد الشهيرة، فقد أنهت هذه المعاهدات دور مصر العربي، واعتقد السادات أنه بالدور العالمي الذي وعد به، سيعوض كل ثلاثة كتب من تأليف كتاب لا شك في مصريتهم، بل في تعصبهم لمصر. وهم طه حسين وكتابه مستقبل الثقافة في مصر وجمال العقيد وروايته: يحدث في بر مصر وجمال أبو حمدان وكتابه شخصية مصر ففي هذه الكتب ما يكفي لفهم مصر وعالمها واستنباط الحلول لمشكلاتها واستعادة دورها.. ولكن ساسة مصر الماثلون أمامنا لن يفعلوا ذلك.. فهم في معظمهم أبناء مؤسسات تحظر على منتسبيها قراءة ما هو خارج تقاريرها أو التنفس خارج التعليمات.. فقد قال بوتفليقة ذات يوم للحكام العرب إجتمعوا واتفقوا قبل أن تأتي التعليمات، فمن هو المسؤول العربي من مصر أو غيرها من يجرؤ على مخالفة قائمة التعليمات والتي ليس من بين بنودها قراءة كتب المثقفين الوطنيين- من؟.