هذه الرسالة وصلتني من الصديقة ''ربيعة جلطي'' التي أرفع لها وإلى كل عائلتها تعازي الخالصة إثر فقدان ابن أخيها ''حسني'' الذي تنعيه بكثير من الالم في هذه السطور··· تسعة عشر ربيعا كان عمره، وله ريعان الشباب، والأدب، والخلق الجميل والخلق· لم يكن ''حسني'' يعلم وهو يخرج عشية انتصار فريق الجزائر على فريق مصر، وهو يحمل الراية على دراجته النارية البسيطة، يجول بها في مفاصل مدينة ندرومة، أنه لن يعود إلى أهله· ارتطم رأسه الجميل بسيارة فخمة أرقدته في مستشفى تلمسان ستة عشر يوما وليلة، صارع فيها الموت إلى أن أسلم الروح الطاهرة· فتى مؤدب، تعلم من أمه الجميلة سليلة أهل ''تونان'' الكرام، الصبر والابتسام في وجه الصعاب· وتعلم من أبيه، محمد جلطي الزرهوني، سليل المجد وعزة النفس ألا تودد لأحد مهما كان قريبا في دمه، وألا يحني الرأس أبدا· وأن الفقر بكرم ونظافة أجمل من الغنى بذل ودنس، وأن العمل كرامة وأن عرق الجبين عطر الروح النادر· فتى أبكى فقدانه أهل المدينة·· سينام بجانب أجداده تحت أشجار الصنوبر الألفية العالية تخبئ أسرار ندرومة مدينة العلماء والأدباء والفقهاء، حاضرة الموحدين· ''حسني'' برعم من بين آلاف براعم وشباب مدينة ندرومة، ولأنهم مثل شبان العالم، هم أيضا، يحبون الحياة ويحبون الفرح ولكن الفرح نادر ولأن الفرح نادر جاء في ملعب كرة·· تنفلت فنلاحقها راكضين، قائمين واقعين· أفهمك يا صغيري· كان الفرح بالانتصار على الرتابة عارما حاصدا مفاجئا يا ''حسني''· ولأن الفرح قليل في البلد كان عليك أن تأخذه كله· لم تتعود أنت وأصدقاؤك ورفقاؤك في الحلم ونسغ الشباب على الفرح·· الفرح قليل أيها الفتيان يا عشاق المسرة والحياة، الفرح نادر·· جاء هذه المرة بثلاث ضربات قدم في الشباك·· لم يخطط لها أحد بمخطط رباعي أو خماسي ولم يؤسس لها بمرسوم· جاءت بغتة وشاعت بغتة في الناس المتعطشين إلى الفرح المهاجر منذ وقت· ولأن الفرح عملة صعبة في بلد هانت عملتها السهلة، كان عليك أنت وأصدقاؤك أن تتفتق أجسامكم الفتية وأحلامكم الهادرة كما الموج أو الشجر يغزو الشوارع بالاخضرار· أفهمك يا صغيري وأفهم أصدقاءك·· كان على الطاقة المكبوتة منذ ما يقرب من عشرين دورة كون، أن تنطلق·كان عليكم أن تشربوا من ينبوع الفرح الذي تفجر فجأة في عطش البلاد المزمن··· وأنت في ''ند روما''· وندرومة لا تشبه روما إلا في ما يتبجح به أبناؤها المارقون عن جغرافيتها أعرف مدنا أصغرمرتين من ندرومة وأقل أهمية تاريخية في العالم العربي والغرب أيضا ازدادت شساعتها في غضون عشريتين من الزمن ودخلت في ''ربرتوار'' المدن بالمقاييس الحضارية الجديدة ندرومة منسية صابرة هل لشباب ندرومة دار شباب؟ إنهم يجتمعون بمقربة من منسج الدراز أو بائع النعناع أو الإسكافي· أليست هي المدينة التي اختارها الأندلسيون الذين يفهمون بالإشارة والمريسكيون لمقامهم من بين أهم مدن المغرب العربي، كيف حالها؟ هل لمثقفيها دار ثقافة؟ نعلم أن بعض رجالها كمن في جمعية الموحدية يعملون ما في وسعهم من ضيق، لحماية ثقافة مدينة عبد المؤمن بن علي الكومي الندرومي· ندرومة تسكن الآثار قبل أن تسكنها، ألا يشبه الجامع الكبير فيها مساجد قرطبه ويقترب في بنيته من جامع دمشق العريق، ثم ماذا عن جامع سيدي منديل، وبني زيد؟ ولكنها بلا متاحف ولا سياحة ولا حتى مرشد وتخشى أن تنمحي معالم حسنها· هل لأبنائها الكثر من طلبة العلم جامعة؟ ومرضاها أقدرهم أن يحملوا ويتحملوا أوجاعهم مسافات قد تربطهم بمستشفيات مدن قريبة أو بعيدة ليست أكثر حظا منها· ندرومة بلا فنادق ولا مرافق ولا منتجعات ولا مسابح ولا ملاعب ولا مركبات· شكرا لمقاهي ''التربيعة'' التي لم تخن العهد وظلت كما كانت في ''الكارطبوستال'' منذ ما قبل الاستقلال وحدها تواسي العطشان والضائع وتشهد على رونق جلسات أجداد الأجداد إلى جدي العربي وإخوته وأبناء عمومته وأصدقائه وأصهاره وجيرانه ومعارفه من الغرباء عن المدينة، ومازالت متربعة على عرش تحاول شد ركائزه ولو في الخيال· أفهمك يا صغيري ''ياحسني'' وأفهم أصدقاءك الشباب·· الفرح جرعة جرعة وإلا·· فالفرح أيضا يقتل حين يجيء دفعة واحدة، كصدمة كهربائية· والفرح في مدننا قليل أو منعدم لذلك حين يجيء مثل الطوفان، فهو يقتل· أفهمك يا صغيري رغم أن الحزن عليك لا عقل له· أردتم أنت وأصدقاؤك أن تجذبوا طرفا من ثوب الفرح الملون لندرومة قلت وأصدقاءك: - لن نترك ندرومة عارية من الفرح·· والله سنأخذ لها حقها منه· ندرومة يا صغيري ''حسني'' تنام على صدر جبل حنون ينسيها جفاء أبنائها الذين نبتت لهم أجنحة فنسوا سماءها بالمرة، ولا يزورونها ولو في السنة مرة· سيسأل طريق تلمسان، أو طريق الرومي، الندروميين عن ''حسني''، لن يتوقف المنحدر إلى سيدي امحمد البجايي سؤال الناس الصاعدين والنازلين نحو سيدي يحي، سيأخذ ''تلابي'' أثوابهم و''حياك'' نسائهم يسألهم عن ذلك الفتى الحالم الوسيم· يسأل أصدقاءه الكثر عن ابتسامته المكابرة الجميلة· لماذا لم يعد ''حسني'' ينزل كل صباح وقد رتب هندامه كما يسمح به الحلم، يضع قليلا من ''الجال'' على شعره الفتي ويمتلئ بمياه الخيال لغد قادم قد يكون رحيما· كانت عيناه سماءين صافيتين تحلمان أن تشبك حبيبته يدها في يده ذات يوم، ويذهبان معا لاكتشاف مفاتن فنيسيا أو فيينا أويقتربان من أسرار الأهرامات، أو يتسليان كما يفعل الناس في ''والت ديزني'' بباريس أو يصعدان سور الصين العظيم حتى قمة التعب الجميل أو يدلفان إلى دوخة متحف اللوفر أو مزارع وحدائق جنيف التي تشبه العقيق أو يركبان طائرة تقلع نحو جزر لم تكتشف بعد· لم يختر ''حسني'' الموت حرافا في البحر، بل اختار الأمل الذي كثيرا ما يجازي بالخذلان· اختار رغم فتوته وصغر سنه أن يتعب في مدارج الإدارة الطرشاء المتوحشة، من أجل استخراج كومة من الأوراق تحلجه في ذهاب وإياب مثل ندف من الصوف الأبيض· اختار ''حسني'' أن يودع ملفه في أدراج مكاتب وكالة تشغيل الشباب دون أن يقصم الانتظار ظهر حلمه بمستقبل قد يكون أحسن· ملف ''حسني'' سينتظر سنة أو ربما ستة أشهر في العاصمة قبل أن تدرسه اللجنة المتخصصة ربما لن تفكر في فتحه أبدا، ربما وجب أن يخبرهم والده أن حسني ذهب في فرحته بانتصار الجزائر حاملا العلم، وعليهم أن ينحوا ملفه جانبا، أو يلغوه، أو يلقوا به حيث شاؤوا·· لم يعد ''حسني'' الفتى الغائب، ينتظر ردهم بالسلب غالبا أو الإيجاب· لم يفكر ''حسني'' مرة أن يشق البحر ولم يحرق، بل أشعل شمعة عند مروره بالنبي سيدي يوشع عليه السلام في تأمله المستديم للبحر الأبيض المتوسط، ولكن الملائكة رفعت ''حسني'' إلى السماء وهو في قمة فرحه بانتصار الجزائر، رفعته إلى السماء دون أن يلقي بالعلم على الأرض· سلام عليك ياصغيري، يا ابن أخي وحبيبي سلام لفرحتك النادرة المصبوبة في ندرة أفراح الوطن· سلام لابتسامتك بينما الملائكة يرافقونك مجنحا نحو ملكوت الله· سلام على اختيارك فرح الوطن شعاعا صاعدا للرحيل· سلام وصبر لأمك وأبيك وإخوتك وأصدقائك وعائلتنا، ولي· سلام عليك يا ''حسني'' يا صغيري، يا ابن أخي وحبيبي· عمتك التي تحبك كثيرا ربيعة جلطي