كيف كانت علاقة المثقف بالثورة، هناك مقطع من نص مطول ''عن المثقفين والثورة الجزائرية'' لقد كانت نسبة المثقفين الجزائريين، سنة ,1954 ضئيلة لدرجة تحد من قدرتها على إحلال التوازن في حالة اندلاع ثورة شعبية. فقد كانت نسبة الجزائريين المتعلمين تقارب 14 بالمائة من مجموع السكان قبيل الثورة التحريرية. حيث أن النخبة الجزائرية في الفترة الاستعمارية تمثلت عددا في 165 طبيب و354 محامي و350 موظف ومائة ضابط في الجيش الفرنسي، إضافة إلى ما يقارب 30 مهندسا، وهذا مع وجود 500 طالب مسجل في جامعة الجزائر آنذاك، وكذا ألف طالب جامعي موزعين على كل من الجامعات الفرنسية وجامعات الشرق الأوسط. وبالرغم من أن هذه المعطيات كانت توحي بهشاشة تأثير هذه الطبقة على المجتمع الجزائري، فقد استطاعت أن تحقق الاستقلال عن جدارة واستحقاق. فعجلة التاريخ لم تنتظر تشكل طبقة بورجوازية تكون بمثابة الجبهة الرئيسية للكفاح. كما أن السياسة الاستعمارية تكون قد مهدت الطريق أمام الثورة الشعبية بتكوينها لنخبة جزائرية خالصة. ولكن من هؤلاء ''الناشطين'' أو بالأحرى صناع الثورة التحريرية؟ هؤلاء هم الأعضاء السابقون في المنظمة السرية وهم أصلا مناضلون في حزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية، إذ تربوا ونهلوا من مبادئ هذا الحزب التاريخي. فلم يكن بن بولعيد وبن مهيدي وبوضياف وديدوش وكريم بلقاسم ورابح بيطاط مجرد همجيين بل كانوا رجالا مسؤولين يقومون بمهمات على المستوى الوطني والإقليمي. كما أن لجنة ''''22 ضمت مثقفة على أعلى مستوى على غرار باجي مختار (مستوى بكالوريا) وسويداني بوجمعة وكذا بن عبد المالك رمضان. كما تجدر بنا الإشارة إلى الدور الأيديولوجي الذي قام به بوضياف الذي كان على دراية كبيرة بالأمور السياسية والأيديولوجية، وهذا ما سيجعل الثورة الجزائرية تخرج عن الطابع التقليدي لتنتقل الثروة من شيوخ القبائل وشيوخ الزوايا إلى أشخاص يحترفون العمل السري والتنظيم الثوري ويحملون إيديولوجية متينة، وإن كانت فتية آنذاك تقوم على الاستقلال والعدالة الاجتماعية التي ستنمو بعد ذلك لتصبح هدفا موحدا تلتف حوله الإرادة الشعبية. إن الخلاف الذي دار بين ''الناشطين السياسيين'' والمثقفين على مستوى اللجنة المركزية الذي كان في مضمونه خلافا إيديولوجيا أكثر منه تكتيكي (الاعتماد المباشر والعاجل على الكفاح المسلح من عدمه)، والاتهامات الموجهة للإدارة بشأن اعتناقها التدريجي للبرجوازية التي كانت في محلها، إضافة إلى الرفض والتنديد بالانفراد بالحكم والمطالبة بالقيادة الجماعية كلها عوامل عجلت بظهور حزب جبهة التحرير الوطني. لتشهد الموجة النضالية الجديدة تدفقا غير مسبوق من قبل المناضلين المثقفين على غرار عبان رمضان وبن يوسف بن خدة وسعد دحلب ومحمد يزيد الذين استغلوا خبراتهم النضالية في إعداد الإستراتيجية والتنظيم وكذا الاستعلامات. ليساهموا بعدها في إنشاء إدارة تتكفل بالنظام والتنسيق والأوامر ومنها تصدر الخطوط العريضة للسياسة المنتهجة. وهنا يجدر بنا أن نشير إلى الدور الهام الذي قام به عبان رمضان والمتمثل في مظهرين إثنين: - توحيد القوى الثورية وتنظيمها في إطار متناسق يخضع لأوامر قيادة مركزية موحدة، بالإضافة إلى تأسيس لجان تسيير. - فتح أبواب حزب جبهة التحرير الوطني أمام كل المناضلين وخاصة المناضلين المنتمين إلى منضمات وأحزاب أخرى على غرار جمعية العلماء المسلمين والحزب الشيوعي الجزائري، وذلك لتكوين جبهة موحدة تمثل الأفالان الذي يمثل بدوره الأمة بكل مكوناتها وخصوصياتها، وبهذا يكون عبان رمضان قد وضع حدا للطابع الفوضوي الذي ميز العمل النضالي، وهذا بالرغم من تحفظات بن بلة وزيغود يوسف. ومما لا شك فيه أن مؤتمر الصومام كان بمثابة المرحلة المهمة في مسار حزب جبهة التحرير الوطني، إذ خرج بقرارات تاريخية أعطت للكفاح نفسا جديدا، الأمر الذي جعلها نقطة ائتلاف بين جميع المناضلين المثقفين. ليتواصل المد الثوري ليضم طلبة الجامعات وطلبة الثانويات الذين انخرطوا في صفوف جيش التحرير. ولكن في ماذا تمثلت أدوارهم؟ لقد تكفل عدد منهم بالمهام الآتية: أمناء ولايات وأمناء دوائر كما تكلف البعض منهم بمهمة الإعلام على مستوى الجيش، كما تقلد عدد منهم مناصب حساسة على غرار المفتشين السياسيين. أما البعض الآخر فقد أوكلت له مناصب تقنية محضة بالأخص المهام الطبية، حيث استشهد الكثير من الأطباء وهم يؤدون واجبهم النضالي، نذكر منهم الشهيد ابن باديس عبد الكريم (الولاية 1) ومحمد تومي (الولاية 2) كما شغل المناضلون المثقفون مهام دبلوماسية وإعلامية على المستوى الخارجي، وهما القطاعان الحساسان اللذان يلعبان دورا هاما في معركة الرأي العام العالمي، حيث تمكن مثقفونا من إيصال صوت الجزائر، وذلك من خلال الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين. إن الهدف الرئيسي لجبهة التحرير الوطني التي استقرت بالخارج عام 1957 لم تكن مقتصرة فقط على التعريف بالقضية فحسب، وإنما تعدتها إلى أدوار أخرى تتعلق في الأساس في التحليل والتوضيح ومواجهة المسائل التي كانت تعترض سبيل كفاح الأمة آنذاك. ومن هنا طرحت الإشكالية التالية: هل حربنا ضد الاستعمار كانت فقط مجرد حرب تحريرية أم كانت بالفعل ثورة حقيقية وشاملة؟ فالبرعم من أن قرارات الصومام أجابت بوضوح على هذه الإشكالية إلا أن ذلك لم يمنع جريدة المجاهد من التشكيك في مصداقية الثورة الشاملة التي أقرها عبان رمضان وأقرها مؤتمر الصومام، ومع هذا فإن إعادة النظر التي حركتها الثورة لكل ما يتعلق بالنظام الاستعماري وكذا النظام الاجتماعي التقليدي صبّ في صالح رؤية عبان رمضان لتتضح بعد ذلك معالم الأيديولوجية الجديدة والبديلة من خلال برنامج طرابلس. ولكن هل هذا يعني بأن الأفكار الثورية تأقلمت مع المعالم الثابتة للمذهب الجديد؟ من الواجب أن نؤكد هنا على أن هذه الأفكار التحريرية لم تكن سوى قيما معنوية سمحت للأمة بإيجاد نفسها شيئا فشيئا لتسجل بعد ذلك حضورها ومصيرها في القرن العشرين، الأمر الذي يؤكد بأن الثورة التحريرية ضد الاستعمار لم تكن مجرد استمرارية وحتمية بقدر ما كانت تنم عن استراتيجية وإيديولوجية ناشئة ارتبطت بالخبرة المكتسبة خلال الفترات المتقطعة من النضال لتفسح المجال أمام المبادرات التي تهدف إلى تأسيس مجتمع. وبتفحصنا المشاكل التي عرفتها البلاد في فترة ما بعد الاستقلال التي ندفع ثمنها حاليا من خلال نظرة نقدية يمكننا التوصل إلى الملاحظات التالية: - النظرة الآلية للسلطة تجاه الإيديولوجية، وهي نظرة متعنتة خاضعة للإرادة السياسية التي تتعامل مع الأيديولوجية على أنها سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب. - الانغلاق السياسي: بعكس ما تنادي به الأفكار الثورية من معايشة للأحداث والتطورات، فإن الواقع المعيش على المستوى السياسي في حقبة الحزب الواحد كان يجري عكس التيار، حيث طغت السلطة السياسية على الأيديولوجية مما أدى إلى فقدان التفكير وإلى الجمود الفعلي على مستوى التمثيل السياسي، الأمر الذي انعكس على المجتمع ككل. - وأخيرا الارتجالية السياسية التي تعتبر مثالا واضحا عن الفوضى السائدة خاصة على مستوى الدراسة والتخطيط والتحضير الاستراتيجي للمشاريع الاجتماعية الهامة. - فكيف يمكن إطلاق ثورة زراعية على سبيل المثال من دون دراسة مستفيضة، وعلى المدى البعيد والمرتبطة بتوعية وتحسيس الفلاحين وكذا التحضير الجاد لمناخ الملائم، وفي ما تمثل دور المثقف منذ 1962؟ - المثقف الجزائري مهمش سياسيا، بالرغم من مساهمته الفعالة في بناء الدولة وفي التطوير الاقتصادي والاجتماعي، ولهذا لم يستطع الخروج من قوقعته. وحتى المشاكل التي يعاني منها حاليا حزب جبهة التحرير الوطني ترجع في الأساس لعدم إشراك المثقفين من باحثين ومسيرين واقتصاديين رغم قدرتهم على حل هذه المشاكل. إن نظرة الساسة للمثقف لن تتغير، وسيبقى في نظرهم غير قادر على التسيير والسياسة، فمع تزايد عدد النخبة المثقفة الجزائرية تقل فرصها في المشاركة السياسية. وفي ظل هذا الوضع لم يبق أمام المثقف سوى المطالبة بحقه في التسيير ودورها التنمية والبناء.