الأستاذ : عبد الحميد مهري التاريخ هو عنوان وجود وخلود الأمم والشعوب الحية على وجه البسيطة، وهو لا يأنس إلا إذا شيّد له قصر مشيد في بؤرة القلب يحرسه بؤبؤ العين، والتاريخ ثورة ثمينة لا تضاهيها الثروات المدفونة في بواطن الأرض، ولا تدانيها غلال أديمها اعتبارا وقيمة وإن ضاقت بها أجوافها وحقولها ذرعا، وعجزت عن احتضانها، والشعوب التي قحلت دفاتر مسيرتها من سطور تروي أمجاد تاريخها هي شعوب مخذولة الحظوظ، فلا ترى إلا حانية الرؤوس تشكو المذلة والاذلال، أو جاثية على ركبتها تبث معزوفة السخط والنقمة الحزينة، وإن حاولت الوقوف، شوهدت مذعنة وصاغرة مشلولة السواعد، ذابلة الأجفان، مرتجفة الاوصال بلهاء الفكر لأن أجيالها الغابرة زهدت وتقشفت في نقش موروث تاريخي على واجهة رقيمها يشفع لها يوم التباهي، ولكن، ما قيمة التاريخ في البدء والختم، إذا نقل للأسلاف معكرا ومغشوشا أو مشوها نتيجة المزاعم والتقولات المغلفة بغلالة تخفي رواسب أفكار مضللة، بعد أن تحرف الكلم من مواضعه علنا واستبطانا لسبي العقول، وكبح التفكير؟ وما مقدار الفائدة التي تسطع منه إذا لم يستثمر متداولا كما تستثمر الأموال الحلال ليعم نفعها وخيرها؟، ما أروع قراءة أوراق أو حتى قصاصات التاريخ بعد أن يكتب لها المرور على مصفاة فكر نهم ومهيأ ومتأهب وموهوب ومستوعب، يجنح إلى غربلة ما يمكث بين الناس عن الزبد الطافي المهجور لخفة وزنه، ويترجمه في رأي عميق ومدلول جميل، ونظرة جديدة كفكر الأستاذ الكبير عبد الحميد مهري، أطال الله أنفاسه، وما يغريك أكثر، كقارئ إيجابي أو، كمستمع متلهف، وهو أن قلم أو لسان الأستاذ عبد الحميد مهري كلما حام على موقف من مواقف ثورتنا التحريرية، التي ماتزال مضربا رائعا للمثل على ألسنة المعترفين، إلا وحوله إلى »أيقونة« مذهبة تصلح لأن تكون وساما للافتخار يتزين به صدر كل جزائري، وكل عربي، وكل مسلم، بل وكل شريف في أركان العالم الأربعة فهو محلل متحلل من النظرات التشكيكية التي تبخس أشياء الآخرين، والتي تنبعث عن خداع بصري يضيق من ذكر محاسنهم وأفضالهم تحت دواعي »الواقعية التاريخية« المزيفة للحقائق وهو مثقف حاذق وكيّس وفطن، يحسن توزيع العلامات الجيدة والملاحظات الظريفة على أصحاب الفضل، ولقد قرأت له مرة جوابا لم ينقض فيه غزل أحد من المختلف عليهم عند غيره انتقاما أو إنكارا وجحودا قابل به سؤالا ذا مقصد تقويمي، فحواه كما يلي: )... إن نوفمبر يجب ما قبله بالنسبة لعباس فرحات وإن ماضي مصالي الحاج لا يمحوه مستقبله، وأما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فتؤلف حالة خاصة في الحركة الوطنية ومدرسة في التسيير الديمقراطي(، والحدث التاريخي في نظر الأستاذ عبد الحميد مهري، وسواء أكان جليلا أم بسيطا، فإنه يتتاءم سببا ونتيجة في توافق مع بعديه الزماني والمكاني إلا مؤامرة ما سمي ب »العملية العلمية« والواقعين فيها، وعلى خلاف من يجادلون في التاريخ بغير علم في وجد صوفي، أو يتعاطونه بنية التدليس، فإنه لا يجيز لنفسه أخذ النتائج المحصلة من الوقائع التاريخية بمقياس العواطف التي تقزم عظائم الأشياء، وتصنع هالات منفوشة لصغائرها وحقائرها، إن ملتقى الطرق الذي تلتقي فيه ذخائر تاريخنا الوطني مع فكر الأستاذ عبد الحميد مهري هي نقطة تتحول فيه كل ذرة من ذرات هذا التاريخ إلى قطرات مسك فواحة ومتطايرة نتيجة تغليبه المناهج التحليلية المتزنة، والمدججة ببعد النظر، والتي تسكن إليها نفسه ويرتضيها ضميره على المسالك السردية والحكائية المملة، تفوز مفاهيم مبحث التاريخ بحظوة مفرطة لما يستدعيها الأستاذ عبد الحميد مهري، وخاصة طائفة المفاهيم التي يجتهد في ابتداعها ونحتها وصقلها وحسن إعادة تبيئتها والتي لا تقل قيمة عن تلك المفاهيم التي وضعها مفكر الحضارة الأستاذ مالك بن نبي - رحمه الله - وتكمن قيمتها في قدرته على جعلها مفاتيح لا غنى عنها في الإحاطة المركزة بمضامين فقرات كتاباته، هذا من جهة أولى ومن جهة ثانية، فهي عنده كائنات لغوية طافحة المعاني، ومحفزة لقدرات المتلقي في سبيل إجهاد نفسه للاستزادة المعرفية، وإن كانت واخزة كالأسنة الحادة في بعض الأحيان، وبعد قراءة النص اللاحق المستنسخ من حوار إذاعي شارك فيه الأستاذ عبد الحميد مهري قراءة ممعنة ومتبصرة، ندرك - متى ما تسلحنا بالانصاف - أن صدق مواقف الإنسان وقوتها تندفع وثابة من حصافة أفكاره، وأما الهراء والثرثرة والجدل العقيم فيظل صاحبها ملتصقا بالأرض يدور تائها في حلقة مفرغة، أو زاحفا على بطنه• النص بزغ شعاع ثورة »أول نوفمبر« كنتيجة لمخاض تاريخي طويل وعسير دب في كيان الشعب الجزائري وأول مصدر ومنبع لهذه الثورة هو أطوار المقاومة التي قام بها الشعب الجزائري عبر العصور، وخاصة منذ أن وطأت اقدام الاستعمار الفرنسي أرض الجزائر، وولدت هذه المقاومة، التي لم تنقطع، في فكره ووجدانه ثقافة عميقة، يمكن أن ندعوها:»ثقافة المقاومة« لأننا نصادفها ماثلة أمام الأعين في مختلف المستويات ونجدها حتى في المستويات الشعبية مصوغة في شكل قصائد شعرية ونظم جزلي، وفي صورة تنبؤات، فهذا هو المصدر الأول لثورة »أول نوفمبر«، وأما مصدرها الثاني ، فهو الحركة الوطنية الحديثة التي نظمت على أساس عصري في هيئة أحزاب سياسية، وعلى وجه الخصوص، " حزب الشعب الجزائري" الذي استطاع أن يقرن بين الأصالة في التوجه والطرح المستيقن لقضية الاستقلال، والنظرة السديدة لإشكالية التحرر من ربقة الاستعمار عن طريق الثورة المسلحة، وأضيف إلى المصدرين السابقين الممهدين للثورة عنصر الوعي الوطني العام الذي شاركت في عجنه وتشكيله حركات كثيرة خلال فترات التاريخ في العصر الحديث، وأما الذي تشرّف ببلورة خمائر هذه الإسهامات، فهو شباب »حزب الشعب الجزائري« الذي تكوّن في »المنظمة الخاصة«، لقد أهلت مدرسة »حزب الشعب الجزائري« جميع المناضلين المنضوين في صفوفها لتقبل فكرة الثورة المسلحة، المبشر بها، ولكنها أحاطت »المنظمة الخاصة« باهتمام فريد، وشكلت هذه المنظمة التي انتقت عناصرها فردا فردا، من أجل تهيئتهم للعمل المباشر، والقيام بالفعل التقني والمسلح، لا تتميز هذه المجموعة في شيء، من حيث توجهاتها العامة، عن بقية المناضلين الذين كانوا على التحام بجماهير الشعب واستطاعوا أن يبثوا فكرة النهوض المجسدة في ثورة مسلحة ضد كيان الاستعمار الفرنسي في كل ربوع القطر الجزائري، وفي الأرياف أكثر من المدن، وما ميز هذه المجموعة أولا هو إعدادها التقني لهذا العمل الجبار، وثانيا، وهو انفرادها بثقافة سياسية راسخة، إلى درجة أنها استطاعت استقراء الأحداث بشكل سليم، وتمكنت من تكييف سلوكها على هدي هذا الاستقراء، في الواقع، ومتى ما أردنا دراسة قرار الانتقال إلى الكفاح المسلح، فإننا نجده قرارا سياسيا في المقام الأول، وحينما نقرأ بيان »أول نوفمبر« يستوقفنا طغيان وسيادة التحليل السياسي على توجهات معدّيه، وفي المقابل، فإن نفرا من السياسيين الذين شرعوا يفكرون في الثورة تفكيرا عسكريا، كانوا ينتمون في نهاية المطاف إلى التردد، وإلى الشك، بل حتى إلى معارضة المرور إلى الكفاح المسلح، ومن المفارقات التي تستوقفنا في هذا الشأن، هي أن الذين فجروا ثورة »أول نوفمبر« وضعوا المشكلة في إطار سياسي، بيد أن أولئك المترددين في السير على خط هذا المنحى، ما انفكوا يحاولون التفكير تفكيرا عسكريا في أمر تنظيم الثورة، ولهذا أعتقد أن هذه المجموعة كسبت الامتياز، لا لسبب سوى لرسوخ ثقافتها وسلامة قراءتها للأحداث وجودة إعدادها الإعداد الشامل لتنظيم الثورة، ومواصلة ما أنجزته من أعمال في ظل »المنظمة الخاصة«، كانت أطياف الحركة الوطنية تعبر، في مجموعها، عن نفسها في صورة فصائل وتوجهات وتنظيمات وجمعيات مختلفة، ويتهيأ لي، أن كل التنظيمات المنتمية إلى الحركة الوطنية الجزائرية :»جمعية العلماء المسلمين الجزائريين«، »الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري« الذي يتزعمه المرحوم فرحات عباس » الحزب الشيوعي« وأقصد فصيلا من مناضلي هذا الحزب، ممن مروا ب »حزب الشعب الجزائري« هؤلاء كلهم انشغلوا بالقضية الوطنية التي سكنتهم بصفة عامة وساهموا في شحن وشحذ الوعي الوطني على اختلاف مشاربهم وقناعاتهم إلا أن الذي هيأ للثورة وباشرها هي مدرسة »حزب الشعب الجزائري«، لا شك أن كل حركة فازت بنصيب من الفضل في إيقاظ الوعي الوطني وإذكائه، وفي جعل الشعب الجزائري متحسسا لعنفوان زحف موجة التحرر التي ما فتئت تشق العالم، إلا أن مدرسة »حزب الشعب الجزائري« استولت على قصب السبق في تصور الثورة، وفي تنفيذها وهذه المدرسة التي عبرت عنها المجموعة التي فجرت الثورة انتبهت إلى ضرورة الانفتاح على غيرها، وعلى إثر ذلك، غادرت شرنقة الإطار الحزبي الضيقة، والمحفوفة بالرؤى الحزبية المحضة إلى إطار وطني عام رحيب، وقامت تنادي كل الجزائريين على تباين انتماءاتهم للانضمام إلى موكب الثورة وبهذا التصرف، سدت الطريق في وجه خطأ وقصور طابع المقاومات الشعبية المختلفة التي قامت بعد الغزو الفرنسي، ولو أنها كانت محدودة جغرافيا ومحصورة بشريا وبذلك أصبح الانتماء لمحفل الثورة حتمية ضرورية، إن الذين بادروا بالفعل الثوري باسم الشعب الجزائري، نادوا هذا الشعب حيصه وبيصه للانحياز إليها، وبعد أن تجردوا من رواسب وضواغط المدرسة التي تكونوا فيها وكانت بصائرهم النفاذة تعرف أن جسامة المهمة تتطلب إشراك ودمج كل الجزائريين، كانت ردود الفعل الأولى الداخلية التي رافقت الثورة مزيجا من الغبطة المشفوعة بالحيطة والحذر خوفا من أن تكون الثورة، هذه المرة، مجرد طفرة لن يكتب لها الاستمرار وبسبب ذلك، تحركت جماهير الشعب ببطء وتوأدة للالتفاف حولها، ولا شك أن صمود الطلائع الأولى للثورة في معاقلهم، وخاصة في »الأوراس« وجبال »القبائل« والانجاز العبقري للشهيد زيروت يوسف في هجوم 20 أوت 1955م كانت اسبابا وصاحبة منة كبرى في اقناع الشعب الجزائري برمته وفي إقناع طائفة كبرى من النخبة على أن هذا الفجر صادق، وأن هذه الثورة ستواصل شق طريقها، وأما التريث الذي ألزم به الشعب نفسه حتى موعد حلول عمليات 20 أوت من سنة 1955م، فيعد بحق دليل نضج وعلامة حكمة، طفت أولى ردود الفعل الخارجية في فرنسا، وانعكست نتائجها على جناحي المغرب العربي: تونس والمغرب الأقصى، وقد عجل قيام الثورة في الجزائر باستقلال القطرين الشقيقين، ومنذ الوهلة الأولى، أدرك الفرنسيون أن اندلاع الثورة في ساحة المغرب العربي، يعني بالنسبة إليهم كارثة مقعدة، وهذه هي أولى ثمرات الثورة التحريرية ومن بعدها نسجل تحرك الوفد الجزائري الموجود في الخارج والذي بنى نشاطه مستثمرا التراث التليد الذي صاغه »حزب الشعب الجزائري« فلكم كانت لهذا الحزب سياسة خارجية نشطة، وكم كان يتبنى مواقف أساسية في القضايا الكبرى: معضلات السلم والحرب، قضية بروز التكتلات، حركة عدم الانحياز، إبرام التحالفات...، وأذكر أنه حينما شارك الأخوان محمد يزيد - رحمه الله - وحسين آيت أحمد - أطال اللّه عمره - في مؤتمر »باندونغ«، لم يكونا يمثلان دولة قائمة بأركانها، ولكن وبفضل رجاحة ونفاسة أفكارهما، نافسا كفردين مستويات بقية الدول، فلقد كانا مزودين بذخيرة التجربة التي خاضها »حزب الشعب الجزائري« ضد إقحام الجزائر في طوابير الحلف الأطلسي بداية من سنة 1947، ومنذ أن قدم هذا الحزب وبمشاركة حزب »الإستقلال المغربي« أول مذكرة إلى اجتماع الديبلوماسيين الأمريكيين الذين التقوا في مدرسة »طنجة« برياسة نائب وزير الخارجية الأمريكية، وهذه المذكرة التي حوت إعلانا يفيد أن الشعب الجزائري لن يشارك في الحرب كطعم للمدافع مرة أخرى، كما جرى في الحروب السابقة، وذكروا في ذات المذكرة أنه في حال نشوب حرب كونية ثالثة سيلتزمون»الحياد الإيجابي« اليقظ، ومن الواضح أن فكرة »الحياد الإيجابي« قد ساهم »حزب الشعب الجزائري« في بلورتها منذ مراحلها الجنينية الأولى، كما أنه شارك في إرساء قواعد حركة السلم التي يتصدر قيادتها المعسكر الاشتراكي، وكانوا يرددون على الأسماع أن تبسيط الخيار بين السلم والحرب رأي غير صائب إطلاقا: لأن الاستعمار ما هو سوى »حرب مزمنة«، وأن من أوكد الواجبات البدء بمقاومة "الحرب المزمنة" قبل مقاومة »الحرب المحتملة«، جاء التئام »مؤتمر الصومام« كنتيجة طبيعية بتطور مسار الثورة، فمن المعروف أن الطليعة التي فجرتها والقيادة السداسية التي أشرفت على انطلاقتها، كانوا ينوون الالتقاء مرة أخرى بعد مضي فترة ما لإتمام ما شرعوا فيه، إلا أن نشوء ظروف مانعة بعد إطلاق الرصاصة الأولى جعلت انعقاد هذا اللقاء على درجة بالغة من الصعوبة والتعذر، ومن جراء ذلك من تطور عنفوان الثورة مرهونا باجتهادات المناطق التي شرعت في الشكوى من غياب التنسيق لعدم قدرة القيادة المنبثقة عن اجتماع الإثني والعشرين )22( من الالتقاء ولعب دوررها المنوط بها في التدبير والترشيد، وبهذا المعنى، فإن »مؤتمر الصومام« كان استجابة لحاجة ملحة من أجل هيكلة قيادة تنسجم مع متطلبات المرحلة وبالطبع، فإن هناك عوامل كثيرة تدفع إلى إتيان مثل هذا العمل وفي المقابل، فقد برزت تحفظات عند الذين نالوا شرف المبادرة التاريخية لإعلان الثورة على هذا المؤتمر تقديري، إن وجهتي نظر كلا الفريقين يمكن تبريرها ولكن ومع تعاقب الأيام، اقتضى التطور الطبيعي للأحداث توسيع الثورة والقيادة كليهما، وبناء صيغة أخرى بدياة وأكثر تعبيرا عن الساحة السياسية بمختلف عائلاتها، وهذا ما حصل في فضاء »مؤتمر الصومام«• إن التفسير الذي أعطى لمبدأي »أولوية السياسي على العسكري« وأسبقية الداخل عن الخارج" وشكل أخص للمبدأ الثاني، كان تفسيرا خاطئا، نظرا للملابسات التي كانت قائمة إذاك، فالتعبير الفرنسي الذي ينص على:La primaute du politique sur le militaire والذي تصدق عليه الترجمة العربية التالية )أولوية القرار السياسي على القرار العسكري( قد فهم عند الكثيرين من المناضلين أنها تعني: )أولوية السياسيين على العسكريين( وتغذى هذا الفهم من كدر الخلافات التي كانت قائمة قبيل انطلاق الثورة والواقع الانطباعي فيه محاولة للنحو بالثورة نحو نفس المنحى الذي سرى في تونس والمغرب، وذلك بجعل الطبقة السياسية تتنكر للمقاومة المسلحة وهذا ما يستشف من موقف »بورقيبة« في تونس وموقف السلطان في المغرب، واختصارا وتحصيلا، فإن ملابسات وظروفا تسببت في جعل مبدإ صالح يفهم فهما خاطئا ومشوها، نظرا لظروف المحيط السائدة وقتذاك، وللخلافات الرائجة قبل الثورة بين »مصالي الحاج« و»للجنة المركزية«، وبين مناضلي »المنظمة الخاصة« و»اللجنة المركزية«، فضلا عن التهم التي كانت تلاحق كل من يتردد في السير صوب الكفاح المسلح وأحسب، أن هذا المناخ استمر لفترة طويلة يعبىء أفكارا مسبقة، ويرفد شكوكا، ويسقي ظنونا في التوجه الصحيح نحو الثورة المسلحة، كان اجتماع المؤتمر الوطني للثورة سنة 1957 في القاهرة بغرض علاج ورتق فجوة الخلاف الذي ظل مثارا حول قرارات »مؤتمر الصومام«، ولئن كانت التفاصيل كثيرة، فإنه يمكن اختصارها في ميل مساعي بعض رجال الثورة التاريخيين إلى نسف كل ما أنجبه »مؤتمر الصومام« من قرارات، ولكن وبعد نقاش طويل استقر الرأي على إبقاء المؤسسات القيادية: لأنها كانت تؤلف نواة الدولة الجزائرية، والمحافظة على الانفتاح على العائلات السياسية دون مفاضلة، واستبعاد مبدأ: »أسبقية الداخل عن الخارج«: لأنه كان مصدر التباس مثير، وأرى من وجهة نظري الخاصة، أن مبدأ: »أسبقية الداخل عن الخارج« يحتاج إلى نقاش أكثر عمقا مقارنة بمبدأ »أولوية السياسي على العسكري«: ذلك لأن الظروف الجغرافية، واستراتيجية الثورة التي نشأت على أسلوب معاد للتسيير المركزي جعلت من الصعوبة بما كان إنبعاث قيادة في الداخل تستطيع الاتصال والتنسيق بين مختلف القطاعات، وأكرر قولي مجددا، إن مبدأ: »أسبقية الداخل عن الخارج كان أجدر بالنقاش الثري من قرينه الآخر«، قيل عن حادثة اختطاف طائرة الزعماء المعروفة إن التصرف كان تجاوزا من قبل القيادة العسكرية المقيمة في الجزائر، وأن الحكومة الفرنسية لم تكن على علم بما جرى، لكن الوثائق التي نشرت في ما بعد، أثبتت أن الحكومة الفرنسية سنت خطة عامة رسمتها لجنة وزارية مصغرة، وأسدت تعليمات صارمة لتطبيق عملية أسمتها: »Mettre hors – jeu«، وتعني القضاء على قادة الثورة بكل الوسائل ولما كانت هذه التعليمات بين أيدي أفراد الجيش الفرنسي الموجودين على أرض الجزائر، فإنهم لم يترددوا في تطبيقها بحذافيرها، وبناء على ذلك، فإن العملية لم تكن عملا طائشا ومعزولا، وإنما كانت ممارسة تطبيقية لسياسة فرنسية تتسم بالشمولية وترمي إلى القضاء على قادة الثورة، وفي نفس الإطار، تدرج محاولة اغتيال »لابن بلة« في طرابلس، ومحاولة تفجير مكتب »الصادقية« في تونس ومحاولة نسف مبنى مكتب المغرب العربي في القاهرة، وكذلك محاولة الغدر ببعض قادة الثورة في أرض المغرب... الخ، إذن فإن هذه الفعلة هي عملية قرصنة مخطط لها، ومنفذة في جوهر سياسة عامة وعارمة انتهجتها فرنسا، ينضوي إضراب الأيام الثمانية الذي شرع فيه يوم 28 جانفي 1957م، ينضوي في نطاق تجنيد الشعب الجزائري، واستنهاضه للانخراط في ثورة كليا نية إن جاز التعبير، أو ما يدعى ب »العصيان العام«، L'insurrection generale، كما كان يهدف إلى دعم موقف الجزائر في دورة هيئة الأممالمتحدة التي كان انعقادها وشيك الحدوث، ويبدو لي أن هذا الاضراب كان محصلة لزخم ثوري غزير ومائج، وتعبيرا عن احتضان فلول الشعب للثورة، وقد حاولت القيادة توظيف هذا الالتحام، واستغلال التأييد الشعبي في صبغة إجرائية تمنح الثورة الجزائرية بعدا دوليا متعاظما، ولا ريب، أن الفرنسيين أدركوا الخطر الذي أصبح يهددهم، وقابلوا ذلك برد فعل عنيف تحللوا فيه من ربقة كل القيود القانونية وقد خسرت الثورة كثيرا، ولا سيما في الجزائر العاصمة وفي بعض المدن الكبرى، ومن جهتنا حاولنا اتقاء وتلافي سلبيات الاضراب المذكور في ما بعد، ومهما كان واقع الحال، فإن اضراب الأيام الثمانية سيبقى معلما بارزا من معالم الثورة الجزائرية، ودليل إثبات قطعي عن تعلق الشعب الجزائري بها، انعكس مجيء الجنرال »دوغول« إلى سدة الحكم في ميدانين اثنين هما: الميدان الأول: وهو الميدان العسكري، إذ اعتبر أن كل ما قامت به فرنسا في سابق الأوان وقبل مجيئه، هو مجرد تخبطات عشوائية، ولذلك أعطى تعليماته لقادة الجيش الفرنسي في جملة واحدة فحواها: )عقلنوا هذه الحرب( ومنذ مقدمه، أصبح العمل العسكري الفرنسي منظما وشاملا وعنيفا، فالجنرال »دوغول« - وهو رجل عسكري في المقام الأول - لم يغفل هذه الناحية، وتصدى للثورة الجزائرية تصديا فضا ومريعا في المجال العسكري، وأما الميدان الثاني: فهو الميدان السياسي، ولقد حاول قصارى جهده تطويق الثورة، وبتر وتقليم كل صلاتها بمؤيديها في رقعة المغرب العربي، وفي العالم العرب يعلى امتداده، وحتى في العالم أجمع، وسخر لهذا الغرض حركة ديبلوماسية واسعة، وقام بمبادرات عديدة لتنفيذ خطته السياسية، وكان هدفه متضمنا في عبارته التي تنطق بما يلي: )إنني أسعى لحل أقرب حل لمصالح فرنسا(، لا يملك »دوغول« حدودا في حقل التفكير، فلو استطاع أن يجعل الثورة تقبل بالقليل، ما كان ليوهبها الكثير، ولو اهتدى إلى أن يفرض على الثورة الجزائرية حلا يكون فيه وضع الجزائر متصدرا من قبل المصلحة الفرنسية العليا، فلم يكن يحجم عن قبوله أبدا، ولكن تقدير كل ذلك ظل متروكا بين أيدي قيادة الثورة وأساليب تعاملها في الميادين: العسكري والديبلوماسي والسياسي.