لا شك أن ''الثورة الشعبية'' في تونس قد حركت الكثير من الراكد تحت جسور الأنظمة والمجتمعات العربية، وأثارت كثيرا من الغيرة والتطلع لدى قلوب وعقول الشباب العربي من المحيط للخليج، وهو ما دفع بالأنظمة إلى تبني تدابير تعتقد أنها يمكن أن تخفف من حدة الاحتقان القائم كنتيجة لانسداد الأفق الاجتماعي والسياسي. بل إن تقريرا صادرا عن اجتماع لمجلس الوزراء المصري أشار إلى صدور تعليمات بضرورة عدم استفزاز المواطنين من قبل المسؤولين المحليين خاصة بعد تنامي ثقافة ''الانتحار حرقا'' على الطريقة البوعزيزية في أكثر من موقع وولاية. وهو ما يطرح عدة أسئلة بعضها يتعلق بالنموذج الجديد ''للمقاومة'' التي يمارسها الشباب أمام بيروقراطية الأنظمة، وبعضها الآخر يشير إلى التدابير العملية التي أضحت تتبعها الأنظمة لاحتواء الغضب الشعبي الناتج عن فشل السياسات خلال عدة عقود انعدم فيها التداول الحقيقي والسلمي للسلطة، سيما وأن هناك نموذجا صارخا زلزل المعادلة التي ظلت سائدة. لقد سقطت نظرية ''الكل الأمني'' وبرزت ثقافة جديدة مبتكرة، فلم يعد أمام ''العروش'' إلا التعاطي بمنطق وثقافة جديدة في أكثر من قطر عربي. ففي مصر التي مارست فيها ''النخب'' قبل النظام، ازدراء واضحا للأجيال الحديثة بذريعة أنها أجيال ''لا تثور ولا تبالي'' لم يعد سراً اليوم أنها بدأت تصحوا على حركة الشارع الواقعي قبل الافتراضي (على شبكات الأنترنت ) متجاوزة ''تنظير النخب''، وقمع النظام للاحتجاجات.. حيث أصبح الصوت اليوم للشارع، لا للنخب ولا للنظام والأجهزة الأمنية. لم يكن الأمر محض تقليد ''للثقافة الجديدة'' التي كرستها ''عملية البوعزيزي'' في تونس، بل لأن كافة المكتسبات التي حققتها البلاد خلال الفترة الماضية من ''حرية التعبير'' إلى مناهضة مشروع ''التوريث'' لم تأت بحركة نخبوية أو سياسية تقودها الأحزاب والجبهات المعارضة بل جاءت نتيجة الحراك الشعبي في الشارع بدءا بحركة ''كفاية'' ووصولا إلى ''نداء'' الاحتجاج الذي أعلنته مجموعة 6 أبريل على الفيسبوك، ثم حركات أخرى تشكلت في الشارع منها ''مصريون ضد الفساد - ومصريون ضد التوريث'' إلى غيرها من الحركات الاحتجاجية التي انتقلت من الصدور والفضاءات الافتراضية إلى الواقع بفعل الحراك الشعبي غير المؤدلج. وما فعلته ''الثورة التونسية'' الأخيرة أنها أعادت الروح وبعثت الغيرة في تلك الأجسام لتعود إلى نشاطها بعد فترات جمود وتكلس وربما يأس نتيجة عدم قدرتها على بلوغ المرمى الأساسي. غدا سيتحرك الشارع المصري عبر إعادة بعث المشاريع المؤجلة، لكن بروح وثقافة جديدة.. ومن يدري قد ينجح هذه المرة في تحقيق مطالبه الأساسية.