على مقربة من جامع بايازيد الثاني، تلك التحفة التي تتوسط شارع لاليلي الأنيق، بأرصفته الشفافة وواجهاته الأوروبية والمترو الذي يتلصص ما بين العمارات والآثار، يقابلك قسم الآداب، في وسط المدينة تماما. العمارة قديمة ظاهريا، مثل أغلب عمارات إسطنبول ومساجدها التي تمّ ترميمها بعناية فائقة حفاظا على الذاكرة، على تاريخ تركيا وهويتها. منظر رائق شبيه بجامعة السوربون وهيئة الحي اللاتيني الذي يشبه جان فالجان. لا يمكن الدخول إلى الجامعة بسهولة، الحراسة مشدّدة ويجب تقديم بطاقة الإنتساب، لا أحد يفهم العربية، ولا الفرنسية. يجب التعامل بالتركية أو الإنجليزية إلى حدّ ما، قد يصبح الإنسان جاهلا في بعض السياقات، أميا ممتازا لا تنفعه أنظمة العلامات لتمرير فكرة صغيرة بحجم خنصر. سيشعر في تلك اللحظات بالعجز والغربة لأنه لم يتعلم لغات الناس، لأنّه ضيع وقتا كبيرا في اللاجدوى. لم يفهم أحد ما كتب على بطاقتي المهنية، ولا على التكليف بمهمة الذي منحته لي الجريدة لكتابة شيء ما عن الجامعة وعن هذا البلد الذي نصفه أوروبي ونصفه آسيوي، المتعدّد الديانات واللغات والقوميات. ثمّ عليك أن تذكر أسباب الزيارة واسم الأستاذ الذي تريد ملاقاته أو محاورته، اسم المسؤول والإدارة. الأسباب واضحة والجامعة تبحث عن أمنها وأمن إطاراتها وطلبتها. وهناك سمعتها وموقعها على المستوى الدولي. بعد لأي اتفقنا. تمّ الاتصال بالأستاذ الدكتور حسين ياجيسي، رئيس قسم الأدب ومؤلف كتاب ''تحدّث اللغة التركية''، إضافة إلى كتاب حول الأدب العربي ودراسات في هذا الشأن. رحّب بي في مكتبه بالطابق الثالث رفقة زملاء له. انكسر الحاجز اللساني. الأساتذة يتحدثون العربية جيدا، مضيافون وعمليون رغم قلّتهم، ثمانية أساتذة دائمون يضمنون تدريس النحو والصرف، الأدب العربي القديم، الأدب العربي الحديث، البلاغة، الترجمة من العربية إلى التركية ومن التركية إلى العربية، الإنشاء، لغة الصحافة والثقافة العربية. المكاتب بسيطة ومجهزة بالحواسيب، وأغلب الأساتذة باحثون يتعذر مصادفتهم في الأروقة. ثمة انضباط واضح مردّه الاهتمامات الأكاديمية التي تعكس قرونا من التاريخ والطموحات، لذلك وصلت تركيا. الدكتور حسين ياجيسي مستاء من المواقف العربية، لا يرى فيها مروءة، عكس مواقف أردوغان التي أعادت إلى الإسلام بعض ألقه، وإلى العرب بعض كرامتهم التي أضاعها حكام ليسوا أهلا للثقة، صورة العربي مهزوزة، مشوّهة ومظلمة، خاصة في السنين الأخيرة التي شهدت انكسارات متتالية في ظل غياب النخبة المقهورة التي لم تجد سبيلا إلى نفسها. لم يتم تصدير سوى الجانب السيّء، وبإلحاح متزايد. إضاءات، أنشأ قسم الأدب العربي الأستاذ الدكتور هيلموت ريتر (1971-1892) عام .1936 وهو يضم أربعمئة طالب، أي بمعدل أربعين طالبا في السنة، وهو أمر مقبول بالنسبة إلى المشرفين على القسم. أمّا خيار الطلبة فقد عرف تموّجات وتردّدات وكثيرا من الإحجام بسبب ما لصق بالعربية من صدوع في الحقبة الأخيرة، وتحديدا بعد الحادي عشر من سبتمبر. لم يتم تلميع الصورة أو تبييضها بالطريقة المثلى التي تعيد إلى العربية شعريتها وأناقتها وموضوعاتها وانفتاحها. ما زال الإسلام السياسي مهيمنا، وما زال الأساتذة الأتراك والطلبة يشتكون من النصوص الموجهة التي تأتيهم من الهيئات العربية، على قلّتها وضعف استراتيجية عملها، من الناحية التعليمية ومن الناحية الأكاديمية، الكتب المسوّقة إلى الجامعة التركية مليئة بأفعال من نوع: أتوضأ، أصلّي، أحجّ، والطلبة يتساءلون: ألا توجد في اللغة العربية سوى هذه الأفعال؟ هل هذه هي العربية؟ الأتراك مسلمون، وعدد المساجد الموزعة في إسطنبول عدد مدهش، أصوات الآذان منتشرة في كل مكان والجوامع مملوءة، لكنّ الجيل الجديد يريد تعليما آخر بفعل خصوصيته، لا يرغب كثيرا في تقنينه وفق مناهج تعليمية صنمية تقف وراءها سياسات غامضة. ما يعني أنّ على الهيئات العربية إعادة النظر في هذه الطرائق، كما يفعل المشرفون على نشر الفارسية بأدوات أكثر ملاءمة. الكتب الجديدة نادرة جدا في هذا القسم، وأغلب ما في المكتبة عبارة عن أرشيف ومخطوطات مهمّة وعناوين لكتّاب عرب مكرّسين عالميا. أمّا الأسماء الجديدة فلا أثر لها. ما عدا ما تقدّمه مكتبة البحوث الإسلامية، أو ما يتم الحصول عليه بطرق خاصة في غياب الهيئات المعنية بتوزيع الكتاب العربي. لا يكفي المجهود المصري والمشرقي، على ضآلته. أمّا الحالة الجزائرية فأمر آخر يحتاج إلى اهتمام خاص وخطّة للتعريف بالجزائر وكتابها وشعرائها وعلمائها، في تركيا وفي غيرها من بلدان العالم الذي لا يعرف عنّا سوى أننا دهاة قردة من السنّ الثالثة، كما قال الأديب الفرنسي جي دو موباسان. الجزائريون في الخارج لا يقدّمون سوى أنفسهم، لا يريدون خيرا لأبناء بلدهم، وهو أمر لا يختلف فيه إثنان. يختصرون جمهورية الأدب في رواياتهم أو في أشعارهم وترجماتهم، لا غير. لا شيء قبلهم ومعهم وبعدهم. أمّا إذا حدث أن تكرّموا خطأ بتقديم أسماء فإنهم يقدّمون الأسماء الأقلّ حضورا، والأقلّ تمثيلا، والأقل بهاء واجتهادا، وذاك ما لاحظته في قسم الأدب العربي بجامعة إسطنبول، وفي جامعات أخرى كثيرة. أساتذة وطلبة تكوّن بعض الأساتذة الأتراك في بلدان مشرقية، وهم يجيدون العربية بإتقان ومهارة بحيث يتعذّر معرفة إن كانوا ليسوا عربا ولدوا في بيئة لا تفقه سوى العربية. مستواهم مدهش لأنهم عادوا إلى الأصول. الدكتور عمر إسحاق أوغلو أحد هذه الأسماء التي كالقطن. درس في دمشق وقدّم أطروحة دكتوراه دولة حول الحركة الأدبية في سوريا في القرن التاسع عشر. يحب الأدب العربي ويراه أصيلا وعريقا وله آثاره في الأدب التركي وفي الآداب الفارسية. وكان الأتراك يؤلفون بالعربية أحيانا، تقديرا لهذه اللغة وحضارتها، وكانوا يرون أن الكتابة بهذه اللغة فخر لهم (كاتب شلبي ومؤلّفه كشف الظنون على سبيل التمثيل). الأستاذ ابراهيم شعبان، كما الآخرين، ينطق العربية بطلاقة، بفصاحة لا متناهية، وهو يحضر، في بغداد، دكتوراه دولة حول الحركة الأدبية والثقافية في العراق في القرن التاسع عشر -إلى غاية917 1- يشرف حاليا على رئاسة تحرير مجلة شرقيات مجموعة (المجموعة الشرقية) التي يديرها الأستاذ عابد بشار قوشاق تحت رعاية قسم الآداب واللغات الشرقية، لكنه مستاء من طرق الاستقبال في البلدان العربية، ومن انعدام المراجع الجديدة والأعمال الإبداعية في الجامعة، وإذا كانت الآداب المصرية والعراقية واللبنانية والسورية معروفة إلى حدّ ما، فإنّ الأدب الجزائري لاحظّ له. ثمة فجوة وجب ترميمها. طلبة قسم الأدب يصبحون بعد التخرج معلّمين أو باحثين أو أساتذة أو مترجمين في هيئات مختلفة، أو في مؤسسات وسفارات وقنصليات. وإذا كانت لهم تعقيدات كثيرة في تعلّم العربية فلأن الوسائل المتوفّرة لا تفي بالغرض. أمّا البلدان العربية فلها انشغالات أخرى. حال العربية من حال أهلها تحيل الحمولة الحالية للعربية المسوّقة إلى جامعة إسطنبول على أحادية متناقضة مع طبيعة المرحلة، وهي إذ تركز على موضوعات مخصوصة فإنما تنقل بيئة حصرية إلى بيئة مختلفة التوجهات والأهداف، وإذا كان هناك فشل ما فلأن العاملين عليها شحنوها بقضايا ليست من اهتمامات الجيل الجديد الذي يسعى إلى تنويعات معرفية تؤهله إلى حياة مهنية، وليس إلى آفاق مؤدلجة. ينضاف إلى ذلك ما علق بالعربية من تشوّه في الأعوام الأخيرة: العربية مساوية للإسلام المتطرف وبن لادن وأحداث العنف. تلك الصورة المتواترة حاليا، وأغلب الطلبة يؤمنون بها. كما يؤمنون بأن حظّ العربية في القرآن الكريم، ولولاه لانمحت نهائيا بسبب ناسها وحكوماتها. أضواء أخرى ينظّم مركز البحوث الشرقية مع قسم اللغة العربية ملتقيات تهتم باللغة والفكر الإسلامي ومسائل الحضارة، ومن الندوات الماضية: الشرق في نظر الغرب، فكر محمد إقبال. يصدر مركز البحوث الشرقية مجلة فصلية محكمة تهتم بالأدب والفكر، وهي مفتوحة لكل الأكاديميين في تركيا وخارجها، كما أنّها تصدر بعدة لغات. رواق القسم مزين بصوّر الأساتذة الذين مرّوا من هناك وقدّموا للقسم خدمات جليلة عبر تاريخه الطويل 5)7 سنة). يقع قسم الأدب في قلب المدينة بالنظر إلى أهميته، كما يحدث في كثير من الدول الأوروبية التي تولي أهمية لموقع هذه الأقسام. التقفيلة إن ذهبتم إلى جامعة إسطنبول خذوا معكم عناوين كتب جزائرية، وذلك أضعف الإيمان. صدقة جارية إن شاء الله. وهناك دائما منفعة ما لا يمكن حصرها. لكنها قائمة.