كنت قد قررت، أول أمس الإثنين، أن أقضي الست ساعات التي نضحي فيها أحرارا خارج قيود ''حظر التجوال'' الممتد من الثالثة ظهرا وحتى الثامنة صباحا من اليوم الثاني، أن أقضي الفترة الهاربة من هذا الوقت المقتطع في خوض تجربة كاملة مع المتظاهرين في ميدان ''التحرير'' بوسط القاهرة· كنت أحتاج إلى اصطحاب بعض الأصدقاء، لكن وحده شقيقي وصديق آخر من كانوا راغبين في مشاركتي التجربة، حيث أضحى الكل مشغولا في تلبية حاجياته الضرورية خلال فترات الصباح قبل أن يداهمه الظهر متأبطا محاذير تجواله وحركته· في الطريق إلى وسط البلد كانت المشاهد بالغة المعنى والروعة، شباب في عقدهم الثاني يقفون في الشوارع متطوعين ومتقمصين دور رجل المرور، لتنظيم الحركة، وآخرين على أطراف الطريق يقومون بمهمة كنس وتنظيف الشارع مما علق عليه خلال الفترة الماضية جراء عمليات التخريب الواسعة· في التاسعة تماما بلغنا مشارف الميدان الذي أضحى يعرف ب ''ميدان الحرية'' منذ الخامس والعشرين من جانفي الجاري، وعلى كافة المسالك المؤدية إليه كانت وحدات من القوات المسلحة المصرية، ترابط وتطلب من المنضمين إلى التظاهر إبراز بطاقاتهم الثبوتية· وفيما يشارك عدد من الناشطين الشباب في التأكد من الوثائق، أثار الأمر فضولي، خاصة وأن عدد المتظاهرين كان يتجاوز العشرين ألف متظاهر في تلك اللحظة المبكرة من الصباح، وتساءلت كيف يمكن لكل هذا العدد أن يمر عبر هذا الإجراء ولماذا؟ كانت الإجابة من أحد الناشطين بالقول: نريد فقط التأكد من أنكم لستم من عناصر الأمن المركزي أو الشرطة!! ثم أردف أنهم كناشطين في الحركات الاحتجاجية المنظمة للتظاهرات يتعاونون مع الجيش لإحباط المحاولات التي تقوم بها بعض العناصر الأمنية لإثارة الشغب داخل ميدان التظاهر! لم أستغرب كثيرا لأن تقارير عديدة ظلت توردها الصحف القاهرية عن تورط عناصر أمنية في عمليات النهب والشغب التي سادت خلال يومي الجمعة والسبت، قبل أن تحبطها اللجان الشعبية· بعد دقائق كنا في عمق ''المعمعة''·· أطياف عديدة من الناس تحمل شعارات متنوعة لا تتفق إلا في ''مطلب رحيل الرئيس''·· ونشاطات عدة تجري على قدم وساق مع رفع الشعارات وترديد الهتاف، عدد من الفنانين يرسمون لوحاتهم ويتبارون في إبراز الجانب الكاريكاتيري هنا، وبعض الخطاطين ينجزون شعارات جديدة في زاوية أخرى، بينما وجد بعض الباعة الجائلين ضالتهم في الموقع لضرب عصفورين بحجر واحد·· عدد آخر من الشباب يحملون زجاجات الماء يوزعونها مجانا على المتظاهرين، فيما ينشط آخرين في توزيع الشعارات المطبوعة لمن يبحث عنها· أما الحالة الأكثر إثارة فهي المتعلقة بالسيدات والفتيات المشاركات اللائي لم يستثنين من أي نشاط، ففيما ينشغل عدد منهن بالمشاركة مع عدد من الشباب في تنظيف الشارع، تفضّل أخريات في عرض مواهبهن الفريدة في مقاومة النظام القائم· انتحيت جانبا مع بعض المتحلقين حول إبريق الشاي، قدمت نفسي، وحاولت الدردشة بشكل تلقائي، كان رامي إيهاب أكثرهم جرأة وبراءة قال: ''إنها المظاهرة الأولى التي يشارك فيها، مؤكدا أنه لم يتصور يوما أنه يمكن أن يشارك في عمل كهذا''، وحول دواعي مشاركته يقول: ''لازلت طالبا في الجامعة وأهلي ميسوري الحال ولست في حاجة إلى فرصة عمل بعد تخرجي حيث أرغب في العمل بشركة والدي·· وكثيرا ما أضحك عندما أسمع الفضائيات تتحدث عن أن محرك التظاهرات هم ''البطالة''·· شخصيا أتظاهر من أجل استعادة الحرية·· أريد أن أنتمي إلى دولة ديمقراطية متحضرة''، قبل أن يضيف بأسى: ''أدرس في الجامعة الأمريكية وأغلب أصدقائي من الغربيين وكثيرا ما أشعر بدونية واضحة عند الحديث عن الحريات في بلدانهم وبلدي الذي يعيشون فيه''! يتفق ''سامو'' مع صديقه رامي، ويضيف: ''تصور إني ولدت وعشت وشارفت على التخرج من الجامعة في ظل نظام الرئيس مبارك! فيما رفاقنا الأمريكيين في الجامعة مثلا عاصروا على الأقل 4 أو 5 رؤساء خلال فترة مبارك''· تنبري صافيناز مقاطعة رفيقيها: ''المشكلة لا تتعلق بالأجانب وهذه المقارنات·· نحن نريد الحرية لأننا نستحقها·· ولأننا سئمنا العيش تحت القيود''· انتقلت إلى مجموعة أخرى منهمكة في كتابة الشعارات لليوم التالي أمس الثلاثاء سألت إحداهن قدمت نفسها ''أنا صفية بنت تراب مصر··'' ومنذ البدء لم أشك في شاعريتها، حيث لم يمض وقت كثير حتى أكدت لي أنها تكتب شعرا·· إلا أنها تضيف ''الحالة الوحيدة التي عجزت فيها عن الكتابة بدأت منذ الخامس والعشرين من الشهر الماضي''، وتضيف قائلة: ''ما جدوى الشعر عندما يتجاوزه الفعل؟!·· نعم، أحسست أنني عاجزة عن تصوير هذا المشهد·· وهي المرة الأولى التي أشعر فيها بهذا الفخر في الانتماء لدرجة العجز عن الكتابة'' تقول صفية وهي تعاند دمعة تداهم خدها· إلهام محمد، خريجة آداب عين شمس، تقول إنها تعمل كبائعة في محل أزياء براتب زهيد، لأنها لم تتوافر على فرصة عمل منذ تخرجها في العام .2006 إلهام تشارك في المظاهرة رفقة والدتها البالغة من العمر 65 عاما، وتبرر مشاركة والدتها بأنها ''تدافع عن حقها في الحياة الكريمة، في وطن أضحى لا يحتفي إلا برجال الأعمال''، تضيف ''عائدة'' والدة إلهام قائلة: ''عشت في فترة عبد الناصر ثم السادات بس قيمتنا قلّت أوي في عهد مبارك''· وبصوت فيه الكثير من الانفعال تضيف ''مابقهاش للمصري قيمة لا برا ولا جوا، بقينا متهانين بسبب سياسة حكومتنا'' وتسترجع ''عائدة'' ما تسميها سنوات العز المصري قائلة: ''زمان كنا فاكهة العرب بس ربنا يحاسب اللي كان السبب بقينا نحس دلوقتي بقلة القيمة''· كان الوقت يمر بسرعة فائقة وأمواج بشرية جديدة تنضم للميدان بين فترة وأخرى، فيما تغادر مجموعات أخرى نحو المنازل، لم أستشعر أن 5 ساعات من أصل الست ساعات المتاحة لي يوميا للاستمتاع بحرية الحركة قد انقضت فعليا، تحسست هاتفي الذي لم يكن يتوقف عن الرنين بين فترة وأخرى مقاطعا روعة المشهد، الساعة تشير إلى الثانية إلا ربع ظهرا·· تأبطت خيالا خصبا لمآلات هذه ''الثورة'' وانطلقت مع مرافقي (الإثنين) نحو البيت سعيا لتدارك الوقت، فيما لم يتوقف هاتف ''قاعة التحرير'' من الوصول إليّ بحثا عن المستجدات، فيما بدا عراكا بين الحظر والنشر·