لم يكن أحد يتصور أن العهد الذي قطعه منظمو التظاهرات الشعبية المصرية، أول أمس، بتسيير وقفة مليونية في ميدان التحرير، يمكن أن يتحقق بذات العدد والإصرار، إلا أن الرد كان أكثر من المتوقع حين بلغ العدد أكثر من مليوني متظاهر·· الأمر الذي دفع بمصالح الرئاسة المصرية دعوة الرئيس إلى إلقاء خطاب جديد، يتجاوب ولو جزئيا مع التطورات التي نتجت عن الأسبوع العاصف بالمستجدات بشكل غير مسبوق· والواقع أن الخطاب الرئاسي الذي يرى فيه البعض بأنه حقق جزءا من المطالب التي يرفعها المتظاهرون، من حيث أنه قطع وعدا بعدم الترشح لولاية رئاسية جديدة، فضلا عن مطالبته بضرورة مراجعة المادتين الدستوريتين 76 و77 من قبل مجلس الشعب والشورى، فإن قراءة واعية ودقيقة لمضمون الخطاب تشير إلى أنه ''خطاب مفخخ'' يحمل الكثير من ''الألغام'' القابلة للتفجير، سيما وأن ''الشيطان غالبا ما يسكن في التفاصيل''. فمن ناحية لا يختلف إثنان عن ''أهمية'' تأكيد الرئيس ''عدم ترشحه لولاية جديدة'' وأن ذلك قد أراح الكثير من قوى المعارضة والمحتجين باعتباره جزءا من الطرح الذي تبنته الحركات الإحتجاجية في بدايتها، إلا أن الوقائع قد تجاوزت هذا الطرح من حيث ارتفاع سقف المطالب وتصعيده إلى مطلب رئيسي متمثل في ''رحيل الرئيس''، وبالتالي فإن الحديث عن إنهاء الفترة الرئاسية الحالية حسب رأي الكثيرين لا يستوعب الوقائع الجارية على الأرض·· وإن كان هؤلاء لا ينكرون أن تطورا نوعيا على مستوى الخطاب وتعبير عن ''التراجع'' بدأ يتبلور في خطاب الرئيس· ومن ناحية أخرى، فإن تأكيد ''الإعتداد بالأحكام القضائية'' الخاصة ببطلان نتائج بعض الدوائر الإنتخابية التي أفضت إلى ''فوز'' مرشحين تابعين للحزب الحاكم في الإنتخابات التشريعية الأخيرة، وبالرغم من أهمية تلبية هذا المطلب الذي ظلت تنادي به المعارض، فإن الأمر لا يعدو أكثر من كونه محاولة التفاف على شرعية المطلب وضرورته، حيث أن الطعون المقدمة من قبل المعارضة تتجاوز الأربعمائة طعن، ولم يتم البت إلا في عدد قليل منها، بينما تبقى الطعون الأخرى قيد الدراسة والبرمجة من قبل ''العدالة'' وأن البت فيها يتطلب وقتا إضافيا يتجاوز الفترة الرئاسية المتبقية للرئيس على سدة الحكم، إلا أن الأمر حسب الكثيرين لا يتوقف عند هذا الحد، بل هو ذو ارتباط مباشر مع النقطة الثالثة المتعلقة بتعديل الدستور الذي حدد الرئيس أنها ستكون ضمن مناقشات مجلس الشعب والشورى، وتحديدا في ما يتعلق بمادتي 77 و76 الخاصتين بالترشح لرئاسة الجمهورية· والقارئ الجيد لهذه النقطة يدرك جيدا أنها تنطوي على ''عقد مركبة'' الأولى دستورية من حيث أن التعديل وفقا للدستور الحالي يحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء المجلسين لتحقيقه، والوقائع أن المجلس الحالي لا يتوافر على ثلث واحد من تلك الأصوات، ناهيك عن ثلثي الأعضاء، حيث يسيطر الحزب الوطني على %98 من عضوية مجلس الشعب ونسبة مقاربة له في مجلس الشورى· أما العقدة الثانية، فتتعلق بالشرعية، حيث أن المجلسين في الأساس ناتجين عن انتخابات شهدت (وفق المراقبين والمعارضة فضلا عن الأحكام القضائية) عمليات تزوير شاملة، وبالتالي فهما فاقدين للشرعية الشعبية والتمثيلية ولا يمكن الإعتداد بهما كهيئتين تشريعيتين يمكن أن ينتج عنهما ''التعديل المرتقب''، وبالتالي فإن ما ينبغي التفكير فيه هو حل المجلسين والذهاب إلى ''جمعية تأسيسية'' من أجل دستور جديد للبلاد يتم إقراره من خلال استفتاء شعبي وليس عبر مناقشة في مجلسين لا يختلف إثنان على عدم أهليتهما القانونية· أما الغائب الأكبر في هذا الخطاب فهي المادة ''''77 من الدستور الخاصة بالإشراف القضائي على الإنتخابات لضمان عدم تدخل الإدارة في تزييف إرادة الناخب، حيث في غياب هذا الضمان لا يمكن الحديث عن انتخابات نزيهة، وبالتالي فإن هذا الخطاب الذي بدأ من حيث الشكل، خطابا متجاوبا مع الشارع، ويتبنى مطالبه، فهو في الآن نفسه ينطوي على تفاصيل مفخخة ومتخمة بالألغام التي يمكن أن تنفجر أمام من يعتقد بسذاجة أن الرئيس قد قدم ''هدايا'' للمتظاهرين عبر هذه الإطلالة الثانية على الشاشة·