نظريا، كان ''من الطبيعي''، من جهة الحدس التاريخي العامّ، أن تحدث ثورة في تونس، يوما ما. لكن ما حدث، كما حدث، لم يتوقّعْه أحد: لا محمد بوعزيزي، شرارتُه ورمزُه، ولا الجماهيرُ المتوالدةُ مطالبُها، ولا النخبُ الملتحقةُ بها، ولا المحلِّلون القابعون على سطح الظواهر، خوفًا أو عجزَ تحليل. أن تخترقَ البلادَ، أفقيًا وعموديًا، جغرافيًا واجتماعيًا، ثورةٌ شعبيّةٌ بهذه التلقائيّة، خارج كل تأطير، وبهذه السرعة في الحركة، وبهذا الإصرار في طلب الأقصى، فذلك ما لم يكن متوقّعًا قبل يوم من حدوثه، لا في الداخل ولا في الخارج. وما دام التوقّعُ من الواقع، فالواقع كانت تسدُّ آفاقَه، من الداخل، تضاريسُ القوّة، وترسم آفاقَه، من الخارج، مصالحُ آمنةٌ. هكذا فوجئ الداخلُ والخارجُ باليأس يتحوّل رمادُه إلى لحظةٍ مؤسِّسةٍ لتاريخٍ جديدٍ. اعتاد واقعُ البعض، واعتادت تحاليلُهم، وجودَ أو إيجادَ ''أطرافٍ خارجيّة''، مثَلهم مثَل منِ اعتادوا وجودَ أو إيجادَ مَن ''يقف وراء'' ما يحدث. هؤلاء، خصوصًا في المشرق العربيّ، لم يستسيغوا القولَ بتلقائيّة الثورة الشعبيّة في تونس. نتفهّم الاستغرابَ؛ فالظاهرة هنا غيرُ مسبوقة عربيًا: أن لا تكون، لا أمام الشعب الثائر ولا وراءه، قياداتٌ داخليّةٌ أو قوًى خارجيّة. وإذا كان لا بدّ من أن يكون ذلك، فوراء الشعب الثائر شعبٌ ثائرٌ، وأمامه ''فايسبوك''! قوّةُ التلقائيّة في ما لا يُنتظر، في ما يُباغِت: إنّه لا يترك متّسعًا لردّة الفعل، إذا اتّسع وتسارع مثلما حدث في تونس. ماذا كان يكون لو تحوّل الشعبُ إلى ''جماهير'' لها قياداتٌ تجتمع وتناقش وتختلف وتفاوض؟ ماذا كان يكون لو تنبّأتْ قوى الخارج المتربّصة بكلّ نبضٍ شعبيّ فتهيّأتْ لإسكاته؟ لا ندري على وجه التحديد، ولكنّ من الصعب تصوّر ''القُصوويّة'' تأخذ مداها إلى هذا الحدّ: لا تتوقّف، لا تتراجع، لا تتنازل، وخصوصًا لا تفاوض. في التفاوض شبحُ ''الإجهاض'' يُربك القياداتِ بتُهمتِه. بعضُها فهم، بدءًا أو متأخّرًا، خوف الناس من التأطير والتمثيل: تحوّل إلى ''واحدٍ منهم''. لقد عاين أنّ ''جماهيره'' لم تخرجْ من النصوص هذه المرّة، وأنها سبقتْ قياداتها، حدسًا وتحرّكًا ومطلبًا. عاينَ كيف ركضت النخبُ وراءها، وكيف لاح منها، في بعض المحطّات، ضيقُ نفسٍ، إذ هي لم تتوقّعْ منها أن تذهب إلى أقاصي مطالبها وأن لا تَرضى بحلولٍ وسطى أو موقتة، قد يُفضي إليها التفاوض. عاين، ميدانيًا، كيف أنّ ''تفاؤل الإرادة'' يواجه ''تشاؤم العقل''، على حد تعبير غرامشي. الثورة تلقائية. لكنّ القول بتلقائيّتها يصبح جهلاً أو حيفًا إذا قلّل من دور القيادات في الحدث قبل حدوثه. تغييبُ المفاجأة للقيادات، ميدانيًا، لا يعني غيابَ تأثيرها: فما استبطنه الشعبُ الثائرُ من أفكارها ونضالها، وما تراكم من ذلك في وعيها ووجدانها، هو فاعلٌ في الحدث، بصورٍ مختلفة، منها الظاهرُ ومنها الباطن، منها المباشرُ ومنها غيرُ المباشر. لا حاجة للتذكير هنا بنضال الحركات والأحزاب والمنظّمات والاتّحادات وأصناف المثقفين والمبدعين فهذا، في تونس، قديمٌ ومألوفٌ ومعروف. مثالٌ واحد: الجامعة التونسيّة حافظتْ، نسبيًا، على بعض حصانتها، فأتاحت لبعض أساتذتها أن تساهم دروسُهم في تعميق الرؤية والوعي بوجهة التاريخ والظواهر، لدى طلابهم الثائرين اليوم. هذا، أيضا، فعل في الحدث، من حيث يدري الأستاذ ولا يدري. وللمناسبة، فإنّ ما حدث في تونس هو أكبر من أن يُترك للسياسيين، يختزلون أبعاده، في خطبهم وإجراءاتهم. إنه، في العمق، إبداع متعدد الأبعاد، يستنهض الفاعل، فرداً وجماعةً، في كل مجال. قد تكون التلقائية أعادت من السماء ما ذهب إليها من مطالب الأرض، ولكنها ليست وحيا. هي انفجار رصيد مكبوت. لهذا فإن ما حدث هو فرصة لإعادة النظر في مقولاتنا التقليدية حول القيادة، والمتحفّظة، تقليديًا، على دور التلقائي في التاريخ. وهو أيضا يدعو إلى سؤال نظري وعملي في آن واحد: أين ينتهي التلقائي، وأين تنتهي نتائجه؟ في وقت ما، في مكان ما، يتوقف التحرك الشعبي، ميدانيا، وتبدأ الوساطة النخبوية. هذا مبدأ ''إجرائي'' عام في كل الثورات: يضع ''الشعب'' حزمة مطالبه بين أيدي ''ممثليه''. يتغيّر إيقاع الزمن، ويرتفع شعارُ ''الصّبر والحكمة''، باعتبار أن المطالب لا تتحوّل من القوّة إلى الفعل إلا بالتدبير، وأن للتدبير أجلاً لا يحسبه الثائرون: فلا وقت للثائرين لاستقراء التاريخ وعلوم السياسة، ولا للنظر في انتقال الاقتصاد إلى اقتصاد سياسي؛ ولا وقت عندهم للتمييز بين ما يحصل بمجرد الحدث، وما لا يحصل إلا بالتراكم في المدى الطويل. ومهما كان استعجالهم لنتائج ثورتهم، فهذا لا يعفيهم، كما جرت به عادة الثورات، من قبول ''التريّث'': يضغطون، يتابعون، يراقبون، في مرحلة أولى. في مرحلة ثانية، ينتظرون نتائج التدبير. في مرحلة ثالثة، تتسع الوساطة وتتفرّع فتحوّلهم، كما في المسرح، إلى ملقِّنين أو متفرجين. في مرحلة لاحقة، أغلب الأحيان، وفي زمن يقْصر أو يطول، يحسون بأن مطالبهم حُوّلتْ، عُدّلتْ، شُوِّهتْ أو ضاعت. يحسّون بأن آليات السياسة صَبّت المطلقَ من مطالبهم في قنوات النسبيّ التي يصْنعها التحكّم. هذه ترسيمةٌ عامةٌ مرّت بها، أو ببعضها، ثوراتٌ كبرى في التاريخ. المرحلة المعاصرة من تاريخ العالم زادتها اختزالاً وحدّةً: أصبحتْ خلاصتُها النيوليبيراليّة تثبيتًا لمبدأ إعطاء الأقلّ للأكثر. هذا الأقلّ هو، في تونس وحتى الآن، كسبٌ كبيرٌ، لا في المطلق وإنما باعتباره لم يكن منتظرًا، خارجَ الحلم، بهذا الحجم وهذه السرعة: الإطاحة بنظامٍ قاهر، والإعداد لدولة القانون، وإطلاق الحريّات العامة ومعها مساجين الرأي، ومحاربة الفساد، إلخ... وتحويل كلّ هذا، في الإعلام، إلى حديثٍ علنيّ، يكاد يبدو ''سرياليًا''. فوق هذا إحساس بأنْ لا رجعة فيه، على الأقل في المدى المنظور. أقول ''في المدى المنظور'' لأن كل الثورات المعروفة انتهت بأكل أقرب أولادها إليها وأكثرهم حميمية؛ والأولاد بشر وأفكار ومطالب بعيدة. هذا طال الزمن بالثورة أم قصر. أحيانا، أكلت ذاتها، عندما تجاوزت تلقائية المطلب موضوعية الممكن، وواجهت الإرادوية احتمالين يتربصان بها: فوضى شعبوية أو قمعا جديدا. إلى هذا نبّه الكثيرون من أبناء الثورات الكبرى: الشاعر بول فاليري رأى أن ''الثورة تنجِز، في يومين، عمَلَ مائة سنة، وتخْسر، في سنتين، إنجازَ خمسة قرون''. الفيلسوف رينان كان أكثر إنذارًا: ''الحكومة التي تنقذ شعبها من خطر كبير تجعله يدفع ثمن ذلك غاليا في وقت لاحق''. الثورة صيرورة مركبة يحمل زمنها الاجتماعي ما يتراكم، في اتجاه أهدافها. ولأنها مركبة، فإن أصعبَ ما فيها إعادة البناء. الصعوبة مأتاها مطلبُ القطيعة: هو مطلبٌ شرعيّ، اجتماعيًا وسياسيًا وأخلاقيًا، ولكنّ حدوده متحرّكة. سيتّضح هذا عند المرور من الإطاحة برأسٍ ضاع بين المطارات إلى تفكيك نظامٍ نسج سلطتَه بخيوطٍ وعيونٍ من حديدٍ مصهور، واحتضن مافيا سوقيّة لم يكن لها ذكاءُ ولا دهاءُ سِتْر فسادِها. وستتّضح انزلاقاتُه الممكنة، أيضًا، إذا تُرجمت القطيعةُ بتصفية حساباتٍ جماعيةٍ أو صِنفيّة. في رأس القائمة حزبٌ حرٌّ تحريري في صيغته الأولى، ومشخْصنٌ قمعيٌّ في صيغٍ تاليةٍ صَنعتْ لهيمنته الإيديولوجيّة آليّاتٍ اجتماعية وسياسيّة واقتصادية وأمنية وثقافية (بل ذوقية أيضًا، جعلت الناسَ لا يروْن الأرض والسماء إلا في لون البنفسج!). حزب تسرّب إلى خلايا المجتمع كلّها، يراقب حركاتِها وسكناتِها، لا يقبل منها فرقًا بين استقلال الفرد وعداوته، ويُوشي بكل إشارة أو فكرة لا تعني امتثالاً، ولو كانت لا تزال في الخاطر: فالعقابُ استباقيّ، كبقْر البطونِ، خوفًا من ميلاد كافر! من المنطقيّ، والحالُ هذه، أن يثور الشعبُ ضدّ حزبٍ قهره إلى هذا الحدّ. ومن المبرّر، والحالُ هذه، مطالبُ فصلِ الحزب عن الدولة، وغلقِ خلاياه في فضاءاتها، وتحييدِ رموزه، ومحاسبةِ فاسديه، واسترجاعِ الدولة ما أخذه منها أو سخّره لعمله؛ ومبرَّرٌ كلُّ ما جرى هذا المجرى. لا لُبس في هذا، فهو من قبيل القضاء والإجراء. لكنّ المسألة تصبح أكثر تعقيدًا والتباسًا عندما تتصل بما يسمّى ''قواعدَ حزبيّة'': فهذا الحزب، باستثناء رموزه ومرْضاه، لا تجْمع بين أعضائه عقيدةٌ، بقدْر ما تجْمع بينهم مصالحُ، أغلبُها خدماتٌ، لهم الحقُّ فيها، بلا واسطةٍ حزبيّة، لو كانت الدولةُ دولةَ قانون. ''الأعضاء''، خصوصًا الفقراءُ والمحتاجون، هم، في الغالب، رهائن. صحيح أنّ الرهينة قد تتعلّق بمن يختطفها، وقد تعشقه. في كلّ الحالات، هي تحتاج إلى ''مخارج طوارئ''، لا أكثر. ليس من صالح الثورة، ولا من صالح التماسك الاجتماعي، أن تحوِّل الملاحقةُ هذه الرهينةَ إلى طريدة. هذا، على الأقلّ، لسببين: الأول أن طريق الثورة طويلة، وأنّ الطريدة هي الأكثر تهيُّؤًا للارتداد فيها. والثاني احتمالُ أن يتحوّل المظلومُ إلى ظالم. مهما مالت الدلالةُ اللسانيّةُ للفظ ''الثورة''، في العربيّة، إلى معنى الهبَّة أو الانتفاضة، ومهما فاحت منها رائحةُ الياسمين، فهي تبقى، في حالة تونس، ثورةً وشعبيّة. هل فيها دروس؟ فيها دروس، أوّلُها الإمكانُ: إمكانُ الثورة ''حتى في البلاد العربيّة''، كما كتبتْ، بتعجّبٍ عنصريٍّ، صحيفةٌ فرنسيّة. الثاني أنّ الدكتاتوريّات أكثرُ هشاشةً ممّا يُخيَّل، في الغالب، للرازحين تحتها: فبقدْرِ ما تبدو صلابتُها، أثناء حكمها، يتضح ضعفُها عند سقوطها وهو سقوط مفاجئٌ، وسريعٌ، ومُهين. لا تقاليدَ للتونسيين في إلقاءِ الدروس على غيرهم. ليس من تقاليدهم تصديرُ إيديولوجيّاتهم، ولا أرى مِن مشاغلهم، اليوم، تصديرُ ثورتهم. أن تسري، عربيًا، رمزيّةُ محمد بوعزيزي، أن يتحوّلَ إلى إيقونة، أن يُعادَ مشهدُه، أن تُستحضَر شعاراتُ ''ثورته''، أن يُرفع العلمُ التونسي، فهذا كلّه، بلا شكّ، مؤشّرُ تماهٍ وتحذير، يبدو أنه أُخذ مأخذَ الجدّ. ومع هذا، فمن التسرّع استخلاصُ أنه يكفي أن يُحرِقَ شخصٌ نفسَه، في ''ظروفٍ مماثلة''، ليُشعِل، في بلاده، ثورةً. هناك، دائمًا، سياقٌ، ولتونس سياقُها الذي جعل الثورة ممكنةً، وبالطريقة التي اندلعتْ بها. هو سياقٌ أوسعُ ممّا رأى فيه المعلّقون: حرماناً في ظلّ دكتاتوريّة. هذان العاملان أقدمُ وأشدُّ ترابطًا في بلدانٍ أخرى من العالم، ولا ثورةَ. السياق التونسيّ سياقٌ تاريخيّ اجتماعيّ، وسَمَتْه تقاليدُ نضاليّةٌ، وتعليمٌ واسعٌ، ونخبٌ فكريّةٌ وسياسيّةٌ مثقّفةٌ ومنفتحة (حتى في جهاز الدولة، في مرحلةٍ أولى، حيث الوزراءُ كتّابٌ، قبل أن يسحب الجهازُ مسدّساتِه على مشتقّات ''ثَقِفَ''!)، وقيمُ مجتمعٍ متجانسٍ إلى حدّ كبير، وجيشٌ ''مدنيّ'' لا ينقلب، الخ... الثورة بنجاحها. إنْ لم تنجحْ أصبحتْ حجّةً قمعيّةً، في بلادها وفي غير بلادها. كلُّ من هي على حسابه هو ضدّها. وإذا كانت ضدّيّةُ الداخل معروفةَ المواقع والمسالك، فإنّ لقوى الخارج من القنوات والأشكال والصيغ، ومن حقٍّ أُريد به باطل، ما يحتاج إلى التفطّن والحذر. المبدأ هو أنه لا وجود لقوةٍ خارجيّةٍ ''تساند'' ثورةً لا تساند مصالحَها. لا رهان على غير ما حمل الثورةَ، حتى الآن، من ذكاءٍ جماعيٍّ ووعيٍ سياسيٍّ وحسٍّ مدنيّ. في دراسةٍ سابقة (1992) تساءلتُ: ''هل الديمقرطيّة مطلبٌ اجتماعيّ؟'' وذهبتُ إلى أنّ التاريخ العربيّ الإسلاميّ لم يقدرْ على تحويل الديمقراطيّة إلى مطلبٍ تحْمله الحركاتُ الاجتماعيّةُ وتضمن له التراكمَ والاستمرارَ. لم أقتنعْ بالردود القافزة، هنا وهناك، إلى لحظاتِ استنارةٍ تاريخيّةٍ عابرة، محاها الاستبدادُ، سريعًا، كلّ مرة. الآن فقط، أعدّل من رأيي، لا بما مضى وإنّما بالحاضر والآتي، آملاً أن تتحوّل الديمقراطيّة، فعلاً، إلى مطلبٍ اجتماعيٍّ لا ينتكس. آمل أن نقطع، نهائيًا، مع مقولةٍ شهيرةٍ تناقلتها أزمنةُ التخلّف: ''ستّون سنةً من إمامٍ جائرٍ أصلحُ من ليلةٍ بلا سلطان''.