يتفق المؤرخون المهتمون بالجزائر بصورة عامة وبالثورة التحريرية والحركة الوطنية بشكل خاص أن أزمة الحركة الوطنية كانت السبب المباشر في اندلاع الثورة التحريرية. إلا المتمعن في الأزمة في حد ذاتها يصطدم بجملة من التساؤلات المثيرة للاهتمام والمتحدية للأذهان، ولعل أهمها : هل الخلاف الذي برز قبيل اندلاع الثورة كان نتاج اللحظة أم أن ظهوره نتيجة لتراكمات كثيرة كانت تنتظر الوقت المناسب لانفجارها؟ وهل كان بالامكان تجنبها أو على الأقل تأجيلها؟ وأخيرا هل هي أزمة قيادة كما صورها البعض أم أن الأمر أخطر من ذلك وبالتالي فهي نتيجة لفشل مناهج وعجزها عن تحقيق الهدف من تكوينها وكان لابد من تجاوز ذلك والبحث عن طريق اللاعودة؟. هذا ما تحاول هذه الدراسة الإجابة عنه والتي لا ترصد دور أشخاص وإنما مسيرة شعب وحركته. - المقصود بالحركة الوطنية قد يبدو التساؤل عن مفهوم الحركة الوطنية من باب الترف الفكري لدى البعض، إذ أن الحركة الوطنية حسب هؤلاء تشمل مجمل التيارات السياسية والدينية التي كانت تؤطر الشعب الجزائري وتمثله في مختلف مناحي الحياة، إذ كانت تقوده وترفع مطالبه للسلطات الفرنسية الاستعمارية وتوجهه. رغم أن هناك العديد من هذه الحركات من كان في فترة من الفترات لا يعتبر الوجود الفرنسي في الجزائر استعمارا وانظم إلى الرأي الذي أصبح متداولا لدى سلطات الاستعمار ومنظريه والقائل بان البحر الأبيض المتوسط يقسم فرنسا الى قسمين كما يقسم نهر السين باريس الى شطرين. كما أن البعض اهتم بصورة مباشرة بالعمل على توطيد أقدام الفرنسيين في الجزائر، ووصل الأمر بهؤلاء الى وصف الحكومة الفرنسية بأنها تلك الحكومة القرآنية الراشدة التي يجب على الجزائريين طاعتها وخدمتها. كما عمل العديد منهم في خدمة الإدارة الاستعمارية سواء كنواب منتخبين بالتزوير أو كقياد وغير ذلك كثير. وبهذا فان تحديد مفهوم دقيق للحركة الوطنية يعد أكثر من ضرورة ابستمولوجية، وإحقاق حقائق تاريخة رغم أن الحديث عن الحقيقة في التاريخ يثير كثير من الإشكالات المنهجية والمعرفية، وبهذا فان تحديد هذا المفهوم من شأنه أن يضع خطا فاصلا بين المناضلين من اجل الجزائر والمناضلين بالجزائر، المناضلين من اجل الحقوق الوطنية والمناضلين بالحقوق الوطنية. أقصد بين اؤلائك الذين عملوا على تحرير الجزائر فبذلو لذلك النفس والنفيس، فسجنوا وصودرت ممتلكاتهم، وطردوا من وظائفهم، واستشهد الكثير منهم في سبيل القضية التي يدافعون عنها، وبين الذين تاجروا بهذه الحقوق فتولوا المناصب لا لخدمة بلدهم وشعبهم الذي يرضخ تحت سلطة الاستعمار، وإنما لتحقيق أغراض خاصة وآنية فقبلوا بأن يكونوا ألعوبة يستخدمها الفرنسيون كلما احتاجوا لها. كما لابد هنا أن نميز بين المتعاطفين مع القضية الوطنية من الأوربيين المستعمرين وبين المدافعين عن الجزائر من أبنائها الأصليين ومعنى هذا تلافيا للبس الذي قد يتبادر إلى الأذهان والعقول من أن كل من ولد في الجزائر أو وفد إليها أثناء المرحلة الاستعمارية جزائريا بغض النظر إن كان أوربيا مسيحيا أو يهوديا أو حتى من القلائل الذين اعتنقوا الإسلام من الذين تأثروا بحب الجزائر وسحرتهم فكتبوا عنها، أو وصفوها في رحلاتهم أو خلدوها في لوحاتهم الفنية وأوصوا بدفنهم بها بعد وفاتهم. ونتيجة لكل ما سبقت الإشارة إليه فان تحديد المقصود بالحركة الوطنية يعد أكثر من ضرورة فماذا يقصد بذلك؟ الإجابة نجدها عند المهتمين بهذه المسألة من مؤرخين وباحثين بصورة خاصة رغم أن القضية تتعدى اهتمام هؤلاء إلى رجال السياسة وبل حتى إلى الأناس العاديين من الذين يهمهم معرفة تاريخ بلادهم، إذ لكل واحد من الذين اشرنا إليهم غاية يسعى للوصول إليها. يحدد محمد العربي الزبيري في كتابه الثورة الجزائرية في عامها الأول زعامة الحركة الوطنية في مصالي الحاج دون غيره من السياسيين أو رجال الإصلاح بقوله : " وتجسدت هذه النزعة الجديدة لدى زعيم الحركة الوطنية في إنشاء أحباب الأمة وهي أشبه بجمعية خيرية التي سوف يبنى على أساسها حزب الشعب الجزائري. أما المرحوم بشير خلدون فيقول صراحة : " يقتصر مصطلح الحركة الوطنية الجزائرية على حزب الشعب ( حركة الانتصار)، بالنظر إلى برنامجها ومطالبها ونشاطها خاصة وان مفجري الثورة كلهم من الحركة... فالحركة الوطنية هي الحركة التي رفضت الاندماج والذوبان في الكيان الأجنبي وطالبت بالحرية والاستقلال التام والانفصال عن فرنسا في إطار السيادة الوطنية أما غيرها فهي تنظيمات سياسية أو ثقافية، وربما أخذت طابعا مذهبيا أو طرقيا لكن يمكن إدراجها ضمن منظور الحركة الوطنية . إلى هذا الموقف هذا أيضا يذهب رابح بلعيد عندما ينقل عن مصالي قوله في رسالة له إلى مناضليه : " نظموا صفوفكم واتحدوا وواصلوا نشاطاتكم في النضال في انتظار توجيهات جديدة لتقويم الحركة الوطنية، واعتمدوا على الله وعلى أنفسكم وعلى أنا - مصالي الحاج - رئيس الحركة الوطنية" . 2 - أهداف الحركة الوطنية ووسائلها بعد أن حددنا بدقة المقصود بالحركة الوطنية، يتبادر إلى أذهاننا تساؤل آخر، ولكن هذه المرة حول ماهية الأهداف التي كانت الحركة الوطنية والوسائل المستخدمة للوصول إليها. هذا التساؤل يستمد مشروعيته من الفعل الإنساني في حقيقته فعلا مختلفا عن السلوك الحيواني، فهذا الأخير يتسم بالغريزية كما انه يتصف بالثبات، فرغم أن النحل مثلا يؤدي دوره بإتقان قلما نجد نظيرا له حتى عند الكثير من البشر إلا أن هذا السلوك الغريزي واحد عند جميع خلايا النحل في مختلف العصور والأماكن، كما أنه يمتاز بالنوعية فهو واحد عند جميع افرد النوع الذي هنا هو النحل. وهو ما نجده يختلف عما يتصف به الفعل الإنساني الذي يمتاز بأنه فعل متغير ومختلف بمعنى أن ما قام به فرد أو حتى جماعة في فترة من الفترات وتحت ظرف من الظروف يختلف اختلافا من حيث الشكل والمضمون عما يقوم شخص أخر أو جماعة أخرى تحت نفس الظروف،بل أن الاختلاف يكون داخل النوع الإنساني عند الشخص الواحد أو الجماعة نفسها إذا ما تغيرت الظروف أو الأهداف. من هنا كان لابد وان نطرح السؤل التالي: ماهي أهداف الحركة الوطنية؟ خاصة وأن هذه الأخيرة كانت مكونة من أكثر من فصيل أو جماعة، كما أنها لم تتكون دفعة واحدة وإنما تكون كل جناح منها وفق ظروف خاصة أوبالا حرى ليست بالضرورة هي نفسها التي تكون فيها غيره، فضلا على أن هناك اختلاف في درجة الوعي بين مكونيها من جهة وبين أتباعها من جهة أخرى بل أن الاختلاف في درجة الوعي كان بين زعمائها ونخبتها أنفسهم. إذا كان اختلاف الأهداف بالضرورة يقود إلى اختلاف الوسائل، فان تعدد الفصائل والاتجاهات يقود حتما إلى تنوع الوسائل، وهذا بحسب الدواعي والصوارف، ومن هن لابد وان نتساءل عن الوسائل المستخدمة من قبل الحركة الوطنية، وهل هذه الوسائل كانت تتناسب والظروف الداخلية والخارجية التي كانت تمر بها الجزائرالمحتلة بخاصة وفرنسا والعلم بصورة عامة؟، أم أن الحركة الوطنية كانت أسيرة سبل ومناهج تجاوزها الزمن لا يرجى من ورائها أمل؟ الواقع أن الإجابة عن هذه التساؤلات نجد عند المتتبعين لهذه المسألة باعتبار ذلك يدخل في صميم اهتماماتهم،كما نجد أسرارها مفصلة في ما كتبه رجالتها بوجه خاص باعتبارهم صانعي الكثير من هذه المناهج والاحداث وفي أسوء الأحوال شهود على صنعها العديد من رفقاؤهم الذين ماتوا او استشهدوا أو حتى من الذين لم تسعفهم الظروف لتدوينها لسبب أو لغيره. من هنا يمكن الحديث عن وسائل متعددة عملت الحركة الوطنية على الاستعانة بها كوسائل لتحقيق أهدافها الآنية والمستقبلية بمعنى أنها كانت تتكيف حسب الظروف السياسية والاجتماعية، الداخلية والخارجية مما جعلها تتحالف أحيان مع بقية الاحزاب والنخب الوطنية الجزائرية الاخرى كما عملت في الكثير من الاحيان على تأطير الشعب الجزائري والخروج به في مظاهرات مطلبيه، كما شاركت في مؤتمرات دولية لنصرة القضايا العدالة، اما في أحيان كثيرة فقد اعتمدت السرية منهجا وأسلوبا. 3 الاستعمار في فلسفة الحركة الوطنية يقول محمد قنانش في كتابه الحركة الاستقلالية في الجزائر بين الحربين 1939 - 1919 م أن :" احتلال مدينة الجزائر عملية سياسية، تستهدف التوسع الاقتصادي، نتيجة التصنيع والبحث عن المواد الاولية من ناحية، وتلهية الرأي العام الفرنسي عما يجري في بلاده من ثورة مضادة تتمثل في رجوع المكلية الى مقاليد الحكم من ناحية أخرى، وتكتسي الحملة صبغة صليبية لتعبئة الجماهير والزج بها في حرب استعمارية، كانت تدعي فيها تأديب القراصنة وقد مولت الحملة الغرفة التجارية لمدينة مرسيليا .. هذا من وجهة النظر الفرنسية كما جاء في رسالة الجنرال بيجو الى الجنرال أزان كما يؤكد على ذلك قنانش . بهذا فإن الهدف الفرنسي من احتلال الجزائر لم يكن يسعى لتأديب الداي كما أعلن غداة الحملة أولحماية الاوروبيين من هجمات القراصنة كما أبلغت فرنسا الاوروبيين في وقت سابق عن الحملة، وإنما كان يعمل على استغلال الجزائر وخيراتها من جهة وتأمين الجبهة الاجتماعية وإلهائها عما يدور في فرنسا من جهة أخرى. أما من وجهة النظر الجزائرية : " فقد كانت صدمة لا مثيل لها، اذ لم يكن يتوقعها، لأن إدارة البلاد لم تكن بيده، وعلاقته بالسلطة لم تكن متينة وحينما آفاق من صدمته وجد نفسه وجها لوجه مع الاحتلال الذي اكن بالنسبة إليه مصيبة، فلم يجد أمامه الا المقاومة فاقتحمها بهذا الموقف المتوقع نتيجة الأكثر من سبب عملت الحركة الوطنية على مجابهة الفرنسيين بالأسلوب الممكن خاصة وأن المقاومة المسلحة التي عمت الوطن شرقه وغربه، شماله وجنوبه فشلت في إخراج الاستعمار، وتمكنت فرنسا من القضاء عليها لأسباب لايسعنا المجال لمناقشتها أو الحديث عنها هنا. لتكون المقاومة السياسية أكثر من ضرورة وعملت فصائلها المختلفة على القيام بواجباتها بالطرق والأساليب والامكانيات المتوفرة كل حسب قدرته، وبهذا فإن الحركة الوطنية بصورة دقيقة كانت تعتقد أن الفرنسيين مجرد محتلين ما هم الا مجرد امتداد لاسلافهم الرومان والوندال والبيزنطيين، لم يأتوا لتمدين الجزائريين وتحريرهم من استبداد العثمانيين كما أشاعوا عند دخولهم ارض الجزائر وإنما لاستعبادهم واستباحة أعراضهم وثرواتهم، كما عبر الفرنسيون أنفسهم عن هذا الموقف كما جاء في رسالة ليون روش الى الامير عبد القادر بقوله : " لله في خلقه شؤون فهو يسلط شعبا على آخر، وينتزع بلدا لمن يشاء من عباده، وقد كانت افريقيا ملكا لأجدادنا الى أن طردهم منها الاتراك وشاءت عناية الله أن نعود إليها عن جديد بعد أن آخرجنا منها قرونا عديدة ، فما عليك الا أن تذعن لمشيئة الله . بغض النظر عن الاخطاء التاريخية الواردة في هذه الرسالة كالقول بأن اجداد الفرنسيين كانوا هنا في وقت من الأوقات وهو ما يكذبه التاريخ اللهم الا اذا اعتبر هؤلاء الرومان، والوندال أو البيزنطيين أجدادا لهم دون الغالبين، وحتى في هذه الحالة فإن الذي اخرج هؤلاء من هذه البلاد هم الفاتحين العرب وليس الاتراك، ولم يأتي هؤلاء الى هنا الا مؤخرا ولأسباب ليس مجال ذكرهها هنا. 4 سياسات فرنسا في الجزائر لايخفي على كل باحث او متتبع لعقلية الاستعمار الحديث والقديم على حد سواء العقلية التسلطية على البلاد والعباد وكل مايقع تحت سلطته، بل أن الحيوان والنبات وحتى الجماد لم يسلموا من سطوته، كما امتد طمعه الى باطن الارض ظاهرها، فاستخرج الثروات والمعادن، وأجرى التجارب النووية على الحي والميت. يوضح عمار بوحوش هذه السياسة بدقة بقوله : "أنه من الواضح ان سياسة الاحتلال الفرنسي للجزائر التي انطلقت يوم 14 جوان 1830 حينما قامت القوات الفرنسية بانزال قواتها العسكرية في سيدي فرج... كانت تهدف الى بسط نفوذ فرنسا في منطقة شمال افريقيا والاستيلاء على خيرات وثروات هذه المنطقة... ولذلك عمد السياسيون الفرنسيون الى انتهاج سياسة الاندماج في الجزائر التي تجعل من الجزائريين رعايا أوروبيين يقيمون في بلد يخضع قانونيا للسيادة الفرنسية، لكنهم لا يتمتعون فيه بأية حقوق سياسية أو اجتماعية أو ثقافية وبعبارة أخرى، أنهم أداة الخدمة الغزاة الاوروبيين الذين استولوا على السلطة والثروة والجيش الفرنسي الذي يحميهم من أية ثورة شعبية أو مقاومة جماعية للتخلص من طغيانهم وجبروتهم. من هنا حاولت فرنسا وحسب الظروف انتهاج سياسات مرحلية تهدف في مجملها الى تثبيت وجودها، وبسط نفوذها كما تعمل على اعطاء مزيد من الامتيازات لما أطلق عليهم اسم المستوطنين الاوروبيين من خلال توزيع الاراضي عليهم وسلبها من أصحابها بقوة الحديد والنار وتحويلهم من أصحاب أملاك الى مجرد خدم، وحصرت الغالبية منهم في مناطق ريفية جبلية لا تسمح منتجاتها بتغطية أدنى الحاجيات كالغذاء والملبس مما قاد في العديد من المرات الى إصابة السكان بالمجاعة وأدى هذا - اضافة الى رفيق الفقرالدائم المتمثل في الامراض المختلفة - الى القضاء على ملايين الجزائريين وتهجير الكثير منهم الى المشرق العربي لتفريغ الارض والتخلص من المزعجين. اما في المجال السياسي فعملت سلطات الاحتلال على التفريق بين الجزائريين حتى تحكم قبضتها اكثر بالسماح بتجنيس من قبل بوجوده واعطائهم بعض الامتيازات التي تفرقهم وتضع حاجزا بينهم وبين بقية أبناء جلدتهم، دون أن تسمح لهم هذه الامتيازات بالمساواة مع الاوروبيين فضلا عن منافستهم. 5 بوادر الازمة لم يكف أبناء الجزائر يوما واحدا من مقاومة الاحتلال وصحيح أن هناك من البعض من الذين انخرطوا في اللعبة الفرنسية رغبة أو رهبة من أصحاب النفوس الضعيفة، أو من الذين اعتادوا على مهادنة الحاكم والتصفيق والتهليل لكل من يعطيهم بعض الفتات الذي يبقى من صحته أو حتى من كل ما تعافه نفسه. الا أن الغالبية العظمى قاومت ذلك، ولعل الحركة الوطنية باجنحتها المختلفة كانت في مقدمة هؤلاء جميعا كلما سنحت لها الظروف ووجدت في نفسها القدرة على التعبير عن مواقفها الرافضة للاحتلال وأطروحاته المختلفة. وقد كانت أحداث الثامن من ماي سنة 1945 م نقطة تحول كبيرة وحاسمة عند غالبية الجزائريين، فقد ولي ذلك الزمان الذي حلم فيه بعض المغرر بهم من امكانية الحصول على بعض الحقوق عن طريق الصدقة والاساليب السلمية بعدما حلموا بكثير منها، وبالتالي فإن تضحيات عشرات الاف من الجزائريين في سبيل تحرير فرنسا واستشهاد الكثير على أبواب باريس وليون وغيرها من مدن فرنسا لم يحمل السلطات الفرنسية وهي مدينة للجزائريين بحريتها، الا على توجيه البنادق لصدور الشعب الاعزل الذي لم يقم الا بالاحتفال باندحار النازية معتبرا نفسه من الشعوب التي تستحق الحرية مثله في ذلك مثل الشعب الفرنسي، وصدق الوعود التي كان قد تلقاها من قبل. ولا يهمنا في هذا الموقف الحديث بدقة وتفصيل عن ما وقع في هذا اليو م والأيام التي أعقبته وإنما الذي يهمنا الزلزال الذي وقع في عقول الكثير من رجالات النخبة الجزائرية بصورة عامة وترسخ قناعات الكفاح المسلح كطريق وحيد لتحقيق الاستقلال لدى جماعة مؤثرة وفصيل هام من فصائل الحركة الوطنية وأصبح شعار هؤلاء يتماشى وقول أحمد شوقي. وللحرية الحمراء باب***بكل يد مضرجة يدق صحيح أن هناك قليل من الجزائريين بالوراثة من استنكر خروج شعبهم للمطالبة بحقوقه ومعتبرين ذلك تمردا وعنفا وخروجا على القانون واستنكروه، بل وطالبوا السلطات الفرنسية عقوبات أكثر من تلك التي طبقتها وكأنما هناك أكثر منها كما طالبو بمعاقبة مدبريها ومنظريها من رجالات الجزائر ونخبتها الذين وقفوا مع شعبهم، وفي المقابل لم يطالبوا مطلقا من فرنسا رفع ظلمها والالتزام بوعدها. وإذا أردنا أن نقوم بتحليل هذه الموقف من وجهة نظر علم النفس بصورة عامة ومدرسة التحليل النفسي بشكل خاص فيمكن القول إن هذا السلوك الذي يبدوا شاذا وغريبا لدينا يعبر عن طبيعة مرضية لدى أصحابه يمكن أن نصفه بالمازوشية، فإذا كان المصابون بهذا الداء العقدة حسب فرويد لا يحصلون على لذتهم الجنسية إلا بعد أن يقوم الطرف الآخر بتعذيبهم تعذيبا شديدا، فإن هؤلاء يرون أن رضى السلطات الفرنسية عليهم وتحقيق أهدافهم لايمر إلا بالوقوف مع جلادي شعبهم. أما من وجهة علم السياسة وفلسفة التاريخ فإن هذا خطأ استراتيجي لايمكن معالجته أو حتى التبؤ بنتائجه إذ يضع حاجزا بين من اتخذه وبين غيرهم في الحاضر وبين غيرهم والمستقبل البعيد ومنه فلابد من تصليحه كظلما أتيحت الفرصة، أما الشعب والتاريخ فقد سجلها خيانة ولم يتقبل التبريرات التي جاءت تدافع عن هذا الموقف فيما بعد أو على الأقل تبرره. ومع كل ما حدث فقد بقى أيضا من المؤمنين بقضية شعبهم من يقوى بإمكانية العمل السياسي على الأقل في المرحلة الراهنة والقريبة لعل وعسى، معتبرين أنه لابد وان نسير في هذا النهج خصوصا إن بعض النخب الفرنسية يمكن أن يأتي منها ما يساعد على القضاء على الاستعمار، خصوصا أن هناك إمكانية لان يصل هؤلاء في يوم يمكن ان لا يكون بعيدا إلىمستوى يسمح لها بأن تصنع فيه القرار أو على الأقل يمكنها أن تساهم في التأثير على صانعيه مما ضاعف في أزمة الحركة الوطنية في هذه الفترة فشل الإصلاحات التي أرادت السلطات الفرنسية القيام بها نتيجة لضغوطات النخب الجزائرية. مرة أخرى كان الفشل في خدمة الاستراتيجية البعيدة للحركة الوطنية وسواء أعاد إلى فشل سياسة التجنيس لفئة قليلة نتيجة لمقاومة بعض الشرفاء الجزائرية لهذه السياسة أو لعدم وجود رغبة حقيقية عند السلطات الفرنسية أن يتقبلها المعمرون أيضا كما ان فرنسا الرسمية أرسلت من يأخذ باليمين وفي وضح حتى لعدم تقبل المعمرين للأمر فإن النتيجة واحدة وهي الفشل وبالتالي مزيد من الإحباط ومزيد من الصفعات لأصدقاء فرنسا. أما في المجال السياسي فقد فشلت أيضا الإصلاحات السياسية المحتشمة، ولم النهار ما أعطاء أصبع اليد الصغير بالشمال، فعينت حاكمنا زور الانتخابات والتف على الإصلاحات وهذه ثالثة الاثافي كما يقال والحقيقة فإن مزيد من الضغط لا يقود إلا مزيد من الانفجار وإذا كان باعث نهضة الشرق جمال الدين الأفغاني قد قال من قبل: "إن الأزمة تلد الهمة ولا يتسع الأمر إلا إذا ضاق، ولا يلوح الفجر إلا بعد ظلام دامس" فإن هذا ما يصدق بدقة عن رجالات الحركة الوطنية بخاصة. وإذا كان البعض يلوم الاستعمار على التصرفات الخاطئة والوعود الكاذبة وعدم اهتمامه بالجزائريين وتدمير اقتصادياتهم وتحطيم شخصيتهم المعنوية فإن هؤلاء يجهلون الطبيعة الغبية للاستعمار الذي لا يحسن فهم الرسائل ولا يتعلم من دروس الماضي ويعتقد أن القضاء على ثورات وانتفاضات والالتفاف على المطالب، وترهيب الناس وترغيبهم من شأنه أن يحافظ إلى الأبد على مكتسباته وإذا كان لابد وأن نقارن هنا بين الاستعمار الغربي القديم للجزائر وبين الاستعمار الجديد لنفس المكان فيمكننا القول ان التاريخ يكرر نفسه ويعيدها. النتيجة دائما واحدة هي الثورة والتضحية فالتحرير والانعتاق ومهما كانت المبررات التي يسوقها منظرو الاستعمار فإن فشل سياسات فرنسا، أعطى للحركة الوطنية بخاصة والحركة الثورية الممثلة لمختلف النخب السياسية الجزائرية المؤمنة ببلدها بعمامة جرعة أكسجين كبيرة أو ما يطلق عيله فلاسفة العصور الوسطى أكسير الحياة. من هذا المنطلق حدث التغير في المفاهيم والتصورات ويذهب محمد العربي الزبيري إلى القول أن "ما يسمى بالحركة الوطنية قد واصلت نشاطها إبتداء من سنة 1947 على أنواع ثلاثة: نشاط سياسي سري يقوم به حزب الشعب تحت إشراف السيد احمد بودة، نشاط سياسي علني أو شرعي كما كان يسمى بزعامة كل من السادة السعيد عمراني وشوقي مصطفاوي والحاج شرشالى أما النوع الثالث فهو نشاط استعدادي للثورة المسلحة تقوم به المنظمة الخاصة في جو تكتنفه السرية المطلقة، وفي مناطق جبلية معينة ومحددة . 6- اشكالية المنظمة السرية لن نتحدث هنا عن الظروف التي قادت التكوين ما عرف بالمنظمة السرية ولا عن الكيفية التي صفيت فيها وإنما رغبة في أن نبين أن انكشاف المنظمة السرية لم يقد كما يعتقد البعض تأجيل الثورة أو إلغائها في أسوء الحالات وإنما قاد إلى طريق اللاعودة خصوصا أن رجال الحزب تجاهلوا طلبات العودة للعمل السري الذي جاء من قبل اولائك الذين لم تستطع أيادي البوليس الفرنسي الوصول إليهم من أعضاء المنظمة السرية، معتبرين الانضمام إلى الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها والتي أسستها جمعية العلماء وسائر الأحزاب من شأنه أن يقود إلى تحقيق مطالبهم ولكن هذا عجل بضرورة اتخاذ القرار.