تنفتح رواية ''الزيني بركات'' للروائي المصري جمال الغيطاني، على مصر المملوكية، ببصاصيها ومستبديها، وتقول ما فيه من استبداد وعنف سياسي، لكنها تصل تلميحا إلى مصر ما بعد ثورة الضباط الأحرار، وبالخصوص فترة الرئيس جمال عبد الناصر وأجهزته القمعية. لا يمكن قراءة الرواية، كرواية تاريخية، بل كرواية ضد قمع السياسي، وقمع الإنسان حيثما وجد. قامت باستعارة التاريخ للنظر في العلاقة القائمة بين المتسلط والمحكوم. وهي رواية ذات منظور معماري دائري مغلق يخضع للتوتر والدرامية، ويهيمن فيها السرد والمونولوج على حساب الحوار. تدور أحداث الرواية في القاهرة المملوكية، في زمن يعاني فيه الشعب المصري ويحوم حوله المصير المهول من شدة الظلم. ويريد الغيطاني من خلال روايته أن يقول إن الاستبداد يولد الهزيمة والمأساة، بعد أن انهزم المماليك أمام العثمانيين بسبب الفساد، وكذلك انهزام مصر الناصرية أمام إسرائيل بسبب الفساد ذاته. تنبني الرواية على تعدد الأصوات، ويروي أحداثها ثلاثة أشخاص هم الرحالة الإيطالي فياسكونتي جانتي، الكاتب، وزكريا بن راضي. وتبدأ بالجملة التالية: ''تضطرب أحوال الديار المصرية هذه الأيام، وجه القاهرة غريب عني ليس ما عرفته في رحلاتي السابقة، أحاديث الناس تغيرت، أعرف لغة البلاد ولهجاتها، أرى وجه المدينة مريض يوشك على البكاء، امرأة مذعورة تخشى اغتصابها آخر الليل حتى السماء نحيلة زرقاء، صفاؤها به كدر، مغطاة بضباب قادم من بلاد بعيدة''. تداخل الأزمنة في رواية ''الزيني بركات'' بشكل مثير وعجيب. تبدأ بالهزيمة، وتنهي بهزيمة أخرى. صحيح أنها رواية عن آخر أيام المماليك في مصر، لكنها في الوقت نفسه رواية عن مصر الحديثة، فالفصل بين الماضي والحاضر يصبح ضرب من الخيال. فزمن الرواية هو القرن العاشر، (من 912 ه إلى 923 ه )، لكن دلالتها تمس الأزمنة الحديثة (النظام الناصري). تبدأ الرواية باستهلال خارجي على لسان الرحالة الإيطالي البندقي فياسكونتي جانتي يصف فيه مشاهداته للقاهرة في فترة حكام المماليك المستبدين في القرن العاشر الهجري الموافق للقرن السادس عشر الميلادي، حيث تبدلت أحوال القاهرة، وتغيرت ملامحها بسبب الجفاف، وانتشار وباء الطاعون، وخطر العثمانيين على السلطان الغوري، وفي هذا الظرف العصيب اختفى والي الحسبة الزيني بركات، عن أنظار الناس. تنقل الرواية تعفن السلطة، واقتراب زوال دولة المماليك بسبب صراع الأمراء حول السلطة واعتمادهم على أسلوب ''البصاصة'' على الرعية والسلطان لصالح الأتراك، وتهافتهم على جمع الكسب المادي، واحتكار الاقتصاد وتقوية جهاز ''البصاصة'' لخدمة السلطة الجائرة، والتحكم في رقاب الشعب بممارسة الاستبداد والقمع والعنف السياسي. اختار جمال الغيطاني ''الزيني بركات'' لإدانة أجهزة القمع والاستبداد في العهد المملوكي التي تماثل أجهزة المخابرات المصرية في حاضر الغيطاني في مصر الستينيات، مصر الناصرية ونكسة حزيران 1967 أمام الاحتياج الإسرائيلي لأراضي مصر. قبل قبوله المنصب المقترح عليه، قصد الزيني بركات السلطان متضرعا، باكيا، وراجيا إعفاءه، لما في منصبه من مسؤولية لا يقدر عليها، فهو عبد ضعيف وفقير لا يطيق الوصاية على إنسان. تردد الزيتي بركات عن قبول المنصب جعل كبير البصاصين الشهاب زكريا بن راضي يقع في الشك والارتباك، فهو يعلم أن الزيني بركات دفع ثلاثة آلاف دينار إلى الأمير قاني كي يشتري المنصب. وتزداد حيرة كبير البصاصين عندما لا يعثر في أرشيفه عن معلومات كافية حول بركات بن موسى. وكل ما وجده هو ما يلي: ''بركات بن موسى، له مقدرة الاطلاع على النجوم. أمه اسمها عنق''. شاع بين الناس رفض بركات بن موسى للمنصب الجديد. فتعجبوا لأمره، وانتشرت أحاديثهم بين الحارات، فتحركوا في اتجاه شيخ الأزهر، طالبين منه الضغط على بركات بن موسى لقبول المنصب المقترح عليه من قبل السلطان. وتوجه بركات إلى السلطان ثانية، فوقف أمامه متذللا، وقابلا بتولي مسؤولية الحسبة الشريفة إرضاء لجماهير الشعب. فتنفس الناس الصعداء، وأملوا بداية عهد مجيد كله عدل ورخاء، وأصبح كبير البصاصين الشهاب زكريا نائبا له. دشن الزيني بركات عهده بإنصاف المظلومين وإحقاق الحق، وإلغاء الاحتكار، والحد من ظلم رجال الأمراء المماليك للعامة من الناس، وفتح بيته لتلقي المظالم من الناس. ولم يكن من السلطان ''قانصوة الغوري'' إلا أن زاده تشريفا وقرر تعيينه واليا للقاهرة محتفظا بمنصب الحسبة الشريفة للقاهرة والوجهين القبلي والبحري. وبغرض تجميل صورته بين أهل القاهرة، تظاهر الزيني بركات بتعلقه بعمل الخير، مثلما تظاهر برفض المسؤولية، فشرع في تعليق الفوانيس وتسعير البضائع، والقضاء على شوكة المحتكرين وضرب الوسطاء في الأسواق، وإزالة الضرائب وتثبيت الاستقرار والأمن، حتى اعتبره أهل القاهرة شخصية أسطورية خارقة ومثالية. لكنه سرعان ما انقلبت إلى الشر والظلم والإيذاء، وتخريب بيوت الأبرياء وتعذيب الفلاحين ونشر الرعب والخوف بين الناس بجهازه الخطير في البصاصة، وقمع المثقفين (سعيد الجهيني) والتنكيل بالمظلومين دون قضاء ولا محاسبة، فأصبح يرمز للسلطة القمعية والإرهاب السياسي والعنف والطغيان والاستبداد والتضحية بالشعب من أجل خدمة السلطة والمصالح الشخصية. ولاحتواء تحركات كبير البصاصين الشهاب زكريا، وتقوية سلطانه وتحكمه، قام الزيني بركات بإحاطة ديوانه بجيش من البصاصين يتبع له مباشرة، وأعطى توجيهات لزكريا بأن يبدأ في فتح ملف لكل شخص في السلطنة منذ ولادته. وجاء قرار الزيني بركات في الوقت الذي تنامى فيه خطر العثمانيين على مصر. وتتوالى أحداث الرواية بشكل درامي، عنيف، فتتزايد مظالم الزيني بركات وقمعه للرعية لإرضاء السلطان والأمراء. ثم تحدث هزيمة السلطان الغوري أمام السلطان سليم قائد الجيش العثماني، فيصبح الزيني بركات مواليا للعثمانيين، ومساندا للأمير خايربك خائن سلطان المماليك والخروج عن طاعة الأمير طومانباي. وتعيين الزيني بركات بن موسى محتسبا للقاهرة من جديد في عهد الدولة العثمانية. وينهي الكاتب روايته بسرادق عبارة عن نهاية مفتوحة ليلحقها بمقتطف للرحالة الإيطالي السابق ليصور ما لحق القاهرة من وباء وخراب من قبل العثمانيين بعد احتلالهم لمصر وعاصمتها، وما بذله الشيخ ومريدوه من جهود جبارة لمواجهة الغزاة. وقد ظهر الزيني في ذلك الوقت للمّ الشباب لمحاربة العثمانيين، لكن سعيد الجهيني يقف له بالمرصاد، وقد أدرك الناس أن الزيني بركات ليس سوى بصاص للعثمانيين، مما سيجعل العثمانيين يعينونه من جديد واليا للحسبة في القاهرة مع إعلان استبدال العملة القديمة بالعملة العثمانية. لا تقوم الرواية على الخيال فقط، فالزيني بركات بن موسى شخصية حقيقية في تاريخ مصر المملوكي. تولى بركات بن موسى حسبة وولاية القاهرة طوال أحد عشر عاما أثناء حكم السلطان الغوري. ولما سافر السلطان لملاقاة العثمانيين في حلب جعل من الزيني بركات متحدثا في جميع أمور السلطنة، وعندما دخل العثمانيون مصر تعاون الزيني بركات معهم فاحتفظ بمناصبه العديدة، بل وزاد نفوذه حتى أصبح مدير المملكة وناظر الذخيرة. أراد جمال الغيطاني من خلال هذه الرواية، فضح أنظمة الاستبداد في العالم العربي بصفتها أنظمة تستند إلى المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات لقمع الشعب، وتعذيب الرعية. كما يريد القول إن يبين أن الاستبداد يولد الهزيمة والمأساة، لذلك عاد إلى الماضي ليطل على مصر المماليك في القرن العاشر ليبحث عن أسباب الاستبداد ومظاهره ونتائجه مقارنا ذلك بمصر الحاضر. وبخصوص دوافع كتابته للرواية، بعد رحيل الرئيس المصري جمال عبد الناصر، قال الغيطاني ''وكنت أشعر بوطأة القهر البوليسي، وبحصاره للمثقفين وأفراد الشعب عموما، كنت في رعب من الأجهزة الأمنية. ومنذ بداية الستينيات وأنا أشعر بالمصادرة، بالرغم من أني لست رجل سياسة، لهذا حاولت أن أعرف كل شيء عن هذه الأجهزة وتركيبها الداخلي. وحينما بدأت أكتب ''الزيني بركات'' كنت أحاول أن أكتب قصة شخص انتهازي، فقد استرعى انتباهي في الستينيات وجود نموذج للمثقف الانتهازي الذي يبحث عن شخصية كبيرة يحتمي بها أو يصاهرها كأن يتزوج ابنة شقيقها أو شقيقتها مثلا، وهو انتهازي بسيط إذا ما قورن بنموذج انتهازي السبعينيات''. لقد التقت هذه الملاحظة مع ما كتبه ابن إياس عن شخصية انتهازي خطير هو ''الزيني بركات بن موسى''. وبعد أن انتهيت من كتابة الرواية، فوجئت بها تتحوّل من رواية انتهازي إلى رواية ''بصاصين''.