تيارات متماوجة، أحاسيس متضاربة ومتصارعة ظلت تضطرب بداخل عمر سليمان·· ها هو الآن يجد نفسه في وضع لم يكن يتصوره منذ أيام فقط وهو رئيس الإستخبارات العالم ببواطن الأمور·· كان يشعر من جهة بالخوف من هول الأحداث التي تفاقمت بشكل لافت للنظر، الخوف من المجهول ومما تخفيه الأيام، ومن جهة ثانية نوع من الغبطة الغامضة كانت تتحرك في أعماقه، فهو لم يكن راضيا عن توريث الحكم لإبن الرئيس جمال، ولم يكن مرتاحا لهذا الشاب الذي كان يخفي وراء هدوئه وصمته ودماثته دكتاتورا خطيرا، وأول ما كان يخشاه، أن ينقلب جمال بمجرد صعوده إلى الحكم عليه، فجمال لم يكن يشعر بأي اطمئنان تجاه عمر، وكان يريد التخلص منه في أسرع وقت ممكن·· ولم يكن هذا الإحساس مجرد تخيلات، بل نتيجة معلومات كان يسرّبها عملاء عمر سليمان إليه·· وكانت خطة جمال التي كان ينوي الإعلان عنها بمجرد وصوله إلى الحكم أنه سيخلص مصر من الحرس القديم وهي نفس الخطة التي اعتمدها الملك محمد السادس عندما ورث العرش بعد وفاة والده، عندما أطاح برأس وزير داخلية والده·· جلس عمر سليمان في مكتبه وراح يعيد شريط حديثه مع الرئيس مبارك الذي بدا برغم عناده أنه خائف ومذعور في حالة ما اضطر إلى التنحي·· كان مسكونا بهلع من الإخوان المسلمين لكن أيضا من محاكمة إبنيه جمال وعلاء مبارك·· وتذكر في لحظة عمر سليمان كيف أصبح مبارك يثق فيه ثقة عمياء، ألم يكن صاحب فضل عليه، عندما أنقذه من موت محقق عندما هوجمت سيارته من مسلحين في أديس أبابا؟! كان عمر سليمان يتمنى منصب نائب رئيس في زمن آخر، في زمن غير هذا الزمن·· لكن في ظل هذه الظروف فالمنصب لم يكن بالنسبة لعمر سليمان سوى هدية مسمومة·· إنه يدرك جيدا أنه بعد تنحي الرئيس، فالدور يكون عليه·· وهذا ما جعله لم يفرح بالمنصب، لكن على أية حال، فثمة أمل راح يدغدغه، وهو كسب ثقة المعارضين والإخوان والشباب الغاضب مرحلة مرحلة وفي نفس الوقت عدم زعزعة ثقة مبارك وعائلته فيه، لكن ذلك ليس بالأمر الهين··· كان عمر سليمان يدرك جيدا أن عليه أن يلعب لعبة لم يلعبها من قبل، لعبة تمكنه من السير على خيط رقيق للغاية لكن دون أن يفقد توازنه وذلك إلى غاية نهاية الطريق··· كانت هذه الخواطر تتوارد على ذهنه، بينما كان جالسا أمام مكتبه وخلفه صورة كبيرة للرئيس مبارك·· نظر إلى الساعة، لم يكن يفصله عن الإجتماع بوزير الثقافة وثلة من موظفي الحزب الحاكم السامين إلا وقت قصير·· بينما كان الليل يرخي بسدوله في الخارج··· طلب قهوة سادة وراح يضع بعض رؤوس أقلام على ورقة بيضاء·· كان يشعر بالإنهاك، لكنه حاول الحفاظ على لياقته وهدوئه واتزانه، قال لنفسه ''إنها اللحظة التي يجب أن أبدو فيها رجلا قويا وشبه منقذ···'' بعد نصف ساعة بدأ الإجتماع الذي لفه صمت ثقيل وكلام قليل، خاطب عمر سليمان المجتمعين معه، بكلمات باردة لكنها واثقة هي أقرب إلى الأوامر وانتهى الإجتماع بخطة أطلق عليها ''خطة واقعة الجمال والبغال'' وكان فحوى الخطة أن يسهر عليها وزير الإعلام وأعضاء سامون في الحزب الوطني الحاكم، تقضي بتجنيد البلطجية وضباط وضباط صف متدربين على قمع التظاهرات وبت الرعب والهلع في نفوس المتظاهرين بميدان التحرير وبالتالي إخلاء ميدان التحرير·· وقال سليمان لوزير الثقافة والموظفين السامين بالحزب ورجال الأعمال ''أنتم تعرفون بأنها فرصتكم الأخيرة من أجل إنقاذ أنفسكم ورؤوسكم، إنها ساعة عصيبة ومهمة، وكل فشل يلحق بالخطة هو نهايتكم يا جماعة''·· وما أن خرجوا من الإجتماع، حتى عقد وزير الإعلام اجتماعا مع النواة الصلبة المكلفة بتطبيق خطة ''واقعة الجمال والبغال'' وتم الإتصال بأحد المشرفين على البلطجية المدعو مرتضى منصور، الذي قبض المال من محمد أبو العينين·· وكان وزير الإعلام يشعر بالنشوة عندما اتجهت جماعات البلطجية نحو ميدان التحرير وهي مسلحة بالأسلحة البيضاء، وممتطية البغال والجمال·· وكان المشهد غريبا ومرعبا، وسقط مئات الجرحى والقتلى·· كان عمر سليمان يتفرج على المشهد المنقول إليه مباشرة على الشاشة، وبدت له الخطة سيئة على الأرض، اتصل به على الفور رئيس الوزراء الذي كان في غاية الغضب على التلفون·· سأل عمر سليمان ''إيه اللي يحدث يا عمر؟!'' قال عمر سليمان ''أنت ترى·· والله لا أعلم''.. قال رئيس الوزراء ''لا··لا أنا لست موافقا على هذه المهزلة·· إنها عملية سيئة يا سيادة النائب·· أنا لست مستعدا أن أنتهي بهذه الصورة الفظيعة والمرعبة·· أعتبر ما حدث إساءة لي يا سيادة النائب··'' حاول عمر سليمان أن يطمئنه، وقال له بأنه لم يكن على علم بتفاصيل الخطة·· لكن كلمات عمر سليمان لم تهدئ من روع رئيس الوزراء الذي اتصل بالرئيس مبارك·· استقبله هذا الأخير في مكتبه وسأله ''ليه أنت غاضب بهذا الشكل؟!'' فقال رئيس الوزراء ''سيدي الريس ما حدث في ميدان التحرير يزيد الطين بلة·· وهؤلاء الذين يقفون وراء ذلك يريدون لك شرا·· أجل يا ريس''·· قال له الرئيس مبارك وهو يكاد يسيطر على أعصابه ''دع هذا الأمر لي وسأرى·· لكن حاول أن تفكر جيدا·· استقالتك الآن سوف تؤدي بنا كلنا إلى داهية·· صدقني·· سنجد حلا لذلك·· وهم غلطانين عندما لم يخبروك عن خطتهم···''.