ترى ما الذي يجعله الآن.. والآن فقط, يحاول استعادة ملامح صورته الباهتة, التي فارقها وفارقته منذ ثمان وثلاثين سنة؟ * . كأن ضمير الغائب والمتكلم وكل الضمائر حاضرة, غارقة في هم السؤال, ذاهبة إلى حيث اجتماع النقائض في حاضر هو مثل الماضي, حيث لا يمكن السيطرة عليه مادام ملك الآخرين, وآه من الآخرين .. إنهم نيران تحرق كل شيء بأمر المتطرفين الساسة وأهل الفكر, وحتى أهل المغنى والرقص. في هذا الحاضر – الماضي, رآه يخرج من قبر الزمان شامخا, محذرا كعادته, يحمل نفس الملامح, قصير القامة, أسود اللون, مجعد الشعر, أسنانه منها من نخرها السوس وأخرى ظلت ناتئة إلى الأمام جعلته أقرب إلى السنجاب منه إلى الإنسان, وقد كان شبيها بالسنجاب في حركاته أيضا, هو أقرب إلى الأرض, وأقربنا إليها أشدنا بلاء . وحده كان يراه في مكان مختلف عن المكان الأول, وفي زمان مختلف عن الزمن الذي قدم فيه النصيحة.. لم يكن قائدا ولا زعيم حزب ولا حتى مهما داخل قريته, لكنه فرض نفسه في التراجيديا والكوميديا اليومية لحياة سكان القرية العتيقة.. يلتف الصبية حوله معجبين بأسلوبه ومتفاعلين مع حركاته وقفزاته وعباراته المضحكة, وما كان يبخل عليهم بالقصص و لا الأحاجي ولا النوادر, وما كانت الرءوس الصغيرة قادرة عن الاستيعاب, إلا أنها كانت تتابع ما يقول, غير أنها حين تعود إلى بيوتها مثلما تعود الطيور إلى أوكارها تخفي ما سمعت حتى لا تتعرض للمساءلة من طرف الآباء, فالرجل كان محل شك لدى الرجال أمثاله , والسؤال دائما: لماذا يجمع الأطفال حوله ؟ هناك من يقول إنه مهبول, متخلف عقليا, وآخر يظن به السوء ومنكر القول والفعل, ذاهبا إلى حد اتهامه باللواط, وثالث يعتقد أن حبه للأطفال هو الذي يحركه . لقد كان مزعجا للكبار, لأنه أخذ من أعمارهم وأضاف لعمره , فهو لم يشارك في الثورة ومع ذلك هو المدافع الأول عنها, و لا يملك نخيلا ولكن بيته لا يخلو من التمر على طول السنة, حتى عنزته التي اتخذت من البيت مرعى ضرعها يغني ويسمن من كثرة إدرارها للحليب. وما كانت تلك الأوصاف مقلقة للرجال الطوال وهو القصير, ولا للسمان وهو النحيف ولا للبلغاء وهو المتعلثم, و لا للبيض والسمر وهو الغارق في السواد, إنما المزعج للرجال حقا هو ما يخفيه تحته, وما يبدو عليه من جاذبية.. إنه محط إعجاب النساء. وحين كان الرجال يجلسون في منتصف النهار أو قبله بقليل في "الصباط "- مكان ظل في زقاق من فوقه المساكن- و يمر أمامهم, يتبعون خطاه, وأحيانا يرسلون من يقتفي أثره مع أنه لا يختفي عن أعينهم .. والأرض قاعا صفصافا في قرية تأتي الرمال زاحفة عليها في الربيع والصيف وتتركها في الخريف والشتاء. القيلولة.. والإنجاز الفراشي لطالما تساءلوا: أين يختفي في القيلولة ؟ وتأتيهم الإجابة عصرا, حين يرونه خارجا من بيته وأثار الإنجاز الفراشي بادية عليه من علاقة طاهرة مع زوجته " عائشة ". استرقوا السمع عدة مرات لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة تكشف عن هدفه من مجالسة الأطفال, وزاد شكهم بعد أن كثر الأتباع والمريدون, حتى غدا مثل شيوخ الطرق الصوفية, غير أنه لا يدعو للدين, وإنما للسياسة. يروي للأطفال كل يوم ما يسمعه من الإذاعة الوطنية, و من إذاعة " هنا لندن" يبسط لهم الأخبار ويحولها إلى قصص تجذبهم, وتحرك فيهم متعة الاستماع, ويظل هو بعيدا عن التفاعل, مكتفيا بدور الراوي دون الممثل , وذلك على عكس المداحين الذين كانوا يزورون القرية ويلتف حولهم الصغار والكبار, محاولين التأثير عن الحاضرين للحصول على بعض الدنانير, مرددين لعبارة: - صلوا على من يشفع فيكم .. و ادفعوا من أجل شلاغم الأب و بزولة - ثدي-الأم . فيرد الحاضرون: عليه الصلاة والسلام .. ثم يتبارون بعد ذلك ويتفاخرون بمن يدفع أكثر, و كلما زاد المبلغ المالي الذي يحصل عليه المداح, اعتبر ذلك دليلا عن حب الرسول ( ص) وحب الوالدين. يحدث ذلك دائما عندما تكون أحداث القصة أو الرواية أو الملحمة قد بلغت الذروة.. يقول المداح راويا قصة "علقمة" و"شميسة": فانقلبت كالجنية وحكت له باللكان وانقبلت كالجنية ورد بالك تأمن في النسوان يكبر الحاضرون ويصفقون, ثم يرددون ما سمعوا ليالي حول مواقد النار مع تغيير في العبارات, فكل منهم يروي حسب حفظه وفهمه, ويظل هو شامخا بقامته القصيرة غير مبال بما سمع, مبعدا الأطفال عن تلك التجمعات غير معلن السبب, خوفا من رد فعل الكبار. داخله تتحرك مشاعر العداء لمثل هذا النوع من التخدير, الذي يجعل سكان القرية بعيدين عن الأحداث الوطنية الكبرى, لذلك بمجرد أن يقترب المداح من النهاية, التي حفظها عن ظهر قلب من كثرة تكرارها, ينسحب دون أن ينتبه إليه الحاضرون . حضوره الدائم هدفه معرفة العبارات المؤثرة, فهو يحضر نفسه لدور قيادي في المستقبل القريب.. إنه من النوع الذي يفتك الزعامة من عالم الروحانيات و ليس الماديات, هو سيد نفسه , وغير منخرط في حزب جبهة التحرير الوطني .. فلاح يملك بعض الماشية, انتسب لأمه وحمل اسمها, وعرف عند سكان القرية العتيقة, خصوصا الأطفال, باسم "بده عيشوش" ابن الوادين.. سوف و ريغ بده عيشوش, معروف الاسم ومجهول في وقت واحد, معرفة ونكرة, حقيقة وخيال, طفولة ورجولة, عزة وسخرية, ولسنوات طويلة لم يكن بالنسبة للأطفال محل استغراب, فهؤلاء الصغار نشأوا على الفطرة, فبدا لهم بده عيشوش أهم الأسماء, ورجل أقرب إلى قلوبهم لأنه اقترب منهم بقلب سليم . أما بالنسبة للكبار الذين حنكتهم التجارب فالأمر مختلف , ومنهم من عاشر بده عيشوش منذ الطفولة, حين كان يخاف أقرانه لضعف في جسمه, تغلب عليه بعد أن بلغ الحلم بالتفاعل الإيجابي, مشاركا بضحكات تفك عن القرية العتيقة حصارها, وتجعلها في ليالي السمر أقرب إلى القمر, حين يحل الشتاء ومعه يأتي البدو الرحل حاملين معهم أحلام العودة بما يكفيهم من مال وتمر عند الرحيل إلى الشمال. وبين حسابات الفعل والقول داخل مساكن القرية العتيقة, وبين حساب الزمن المحدد بالشتاء وقليل من الربيع, نشأ على ثقافة مشتركة ولغة مشتركة بين البدو والقارين هنا .. الذين لا يشدون الرحال إلا كل يوم أربعاء إلى سوق مدينة " جامعة", أو يجبرون على الرحيل من غير عودة إلى المقبرة . كان بده عيشوش يتساءل عن الرحلة القصيرة لسكان أهل القرية العتيقة كل أسبوع , فهاهم يغيبون لساعات من أجل شراء سلع بأسعار أقل مما في حوانيت القرية, ويتساءل عن رحلات أهل البدو نحو المراعي طبقا لتغير الفصول, وما كان يجد إجابة عند الذين قصر لديهم الزمن, و عند أولئك الذين امتد عندهم بامتداد الفضاء, لكن لماذا السؤال وهو يعيش مع الفريقين المتنافرين أحيانا والمتعاونين دائما؟ لاسمه المركب علاقة بما يدور في ذهنه, وما يعتريه من مشاعر, فهو يفكر دائما في قسوة حياة البدو الرحل, ويتمنى أن لا يراهم عندما يحل الخريف في السنة المقبلة.. إنهم يذكرونه بأمه التي تنتمي إليهم.. أمه عيشوش, ولكن كيف له أن يحمل اسمها وفي ذلك تنابز بالألقاب؟ ماء عين الشوشة ليس هناك ما يؤكد صدق الرواية القائلة: إن أمه كانت قوية ومؤثرة , لذلك نسب ودعي باسمها لأن ذلك لم يكن من شيم أهل المنطقة , و لا يوجد ما يرجح القول المتداول والقائل: أن أمه كانت جميلة فاشتهرت واختفى اسم والده, ولا حتى الرواية التي تؤكد التاريخ الاستعماري الفرنسي في الجزائر من ذلك مثلا : تحميل المواطنين عند تسجيلهم في السجلات المدنية للإدارة الاستعمارية أسماء الحيوانات والأشياء والزمان و المكان والصفات والأفعال والشتائم وكل عبارات الذم. وحسب رواية أكثر صدقا لأنها من المنبع, وقياسا على تجارب سابقة أن والده مات وهو صغير, وبقي يتيما مع أخوته, لهذا نسب لأمه, أما بده فهو اسم الدلع ل" أحمد ", وهذا أمر مقبول, لأنه متداول في منطقتي " وادي سوف "و"وادي ريغ" وبعض المناطق الأخرى المجاورة لهما. عاش حياته راضيا, لم تفارقه الابتسامة ولو مرة واحدة, وما ابتعد عنه الأطفال ولا المراهقون, وحتى الذين كبروا وصاروا موظفين ظلوا يعودون إليه في كل صغيرة وكبيرة . مرة سأله أحد الذين بلغوا الحلم عن علاقته بإحدى النساء قائلا: - عمي بده, هل صحيح ما يذكر عن علاقتك ب"رهواجة" ؟ رد بده عيشوش غاضبا: كيف لك أن تثق في تلك الافتراءات والأكاذيب, وأنا دائما أحدثكم عن الأخلاق, صحيح أنا لا أصلي لكن لست فاسقا أو زانيا .. صمت لحظة لأنه تصور أن السؤال السابق وراءه عدوه اللدود " حمه الصغير", ثم أضاف : - من أبلغك هذا الحديث يريد تشويه سمعتي, فأنا نقي طاهر مثل ماء " عين الشوشه".. لست مثل أولئك الذين غرتهم غلات النخيل فانشغلوا باللذات في أماكن تعرفونها جميعا.. لا تردد هذا بعد الآن الجزائر ليست مصر اعتذر محمد, وأدخل بعدها الفرح إلى قلب بده عيشوش حين سأله: - ما رأيك في الرئيس " أحمد بن بله " ؟ نظر إليه بده عيشوش مليا ثم قال: هو زعيم مثل صديقه " جمال عبد الناصر " علق محمد عن إجابة بده عيشوش بسؤال آخر : - هل يفهم من كلامكم أن الجزائر مثل مصر؟! - أنا لم أقل الجزائر مثل مصر لأنني أعرف قريتي فقط, وأراها أهم مكان في العالم, وأحمد بن بله رئيس لكل الجزائريين, وبالتالي هو رئيسنا نحن سكان القرية العتيقة وجمال.. لم يواصل بده عيشوش حديثه عندما حل بينهم " حمه الصغير , وحين أدرك الأخير ذلك قال : -- إذا جاء السلوقي هرب الذئب - الحمد لله أنا إنسان, ومن هو كلب فلينبح, ومن هو ذئب فليعوي. أثرت هذه الكلمات في حمه الصغير ,ومع ذلك أصر على مواجهة بده عيشوش , فقال : - ألا تزال تفسد عقول المراهقين ولم تلتزم بما أشار عليك كبار أهل القرية ؟. قام بده عيشوش , وترك حمه الصغير يتحدث وحده بين المراهقين , وهرول إلى بيته القريب, الذي يحتمي به كلما أدرك الخطر – خطر النقد - يحدق به, وحين تهدأ الأمور يعود ثانية, وواصل حمه الصغير حديثه للشباب الجالس منهم والواقف: - سأبلغ آباءكم بما تفعلون لم ينبس أي منهم ببنت شفة, ولم يعطوه الفرصة لمواصلة الحديث, إنما ولوا وجوههم قبل الأزقة الثلاث, وما إن هموا بالذهاب حتى رفع حمه الصغير صوته مدويا في المكان : - سأذهب يوم الأربعاء القادم إلى جامعة, وأبلغ المسؤولين بما يفعل بده عيشوش لم يلتفت إليه أحد, ولم يعيروا اهتماما لما يقول, لأنهم تعودوا تهديده ووعيده, وبعد أن قطعوا بضع خطوات أبصروا بده عيشوش عائدا من بيته على غير العادة في مثل هذا الوقت, والبشرى بادية على وجهه ونادى عليهم من مكان قريب: - عودوا فهناك ما يسركم ! سأل أحدهم: ماذا ؟ هل ستروي لنا قصة جديدة ؟ - نعم سأروي لكم قصة الجزائر الثورة قال محمد : لقد مللنا هذه القصة من كثرة ما سمعناها - لا يا محمد .. إنها قصة جديدة و أثار الفضول حمه الصغير فعاد إلى المجلس, مقررا الطعن في تفاصيل القصة, إذ لا يمكن له ترك هذا الرجل يجذب شباب القرية وأطفالها نحوه, هاهو يجلس على غير العادة, فلطالما كلم بده عيشوش واقفا, مفرقا لجماعته كما حدث منذ قليل, غير أن جلوسه على الأرض لم يكن قناعة أو اختيارا, لأنه جاء بالأمر هذه المرة, وبدا بده عيشوش جادا في قوله.. صوته مجلجلا, أعلى من قامته بأمتار, وجهه مشرقا في سواده .. لم يكن فاغرا فاه ولكن ابتسامته التي تحولت إلى ضحك ثم قهقهة, جعلته لا يعير اهتماما لأسنانه التي نخرها السوس ولم يهتم بعلاجها , محتفظا بها كذكريات من عهد الشباب. كتم حمه الصغير غيظه, وأحس باهتزاز داخلي, لكنه حاول أن يظهر رباطة جأش حتى لا ينتصر عليه بده عيشوش, ويصبح حديث رجال القرية وأطفالها. الحلقة المقبلة الاستعمار المصري.. وانتهاء أسطورة الزعامة