من الخامس والعشرين يناير تحوّلت الأنظار بعد تونس نحو مصر، نحو ما تشهده من حراك تنامى ليسقط الفرعون· تخبط مبارك كما تخبط فرعون زمن موسى، حاول مثله المناورة واستعمال كل ما يمكن من أوراق، لكن الهاوية كانت بانتظاره· ثورة مصر ارتبطت برموز ومعالم، من أهمها ميدان التحرير· المعتصمون بميدان التحرير بلوروا حالة من التجلي الذي حوّل الميدان إلى بلاتو للفضاء العمومي المنشود، فضاء الجمهورية التي نحلم بها، جمهورية العقد الاجتماعي بحس مدني حضاري وبتشاركية مواطنية رائعة· تمددت من تونس إلى مصر حالة قلبت ما ارتبط من تأطيرات تنظيرية بخصوص الثورة التي لا بد لقيامها من حزب ومن نظرية··· فجرى إبداع الحالة الثورية· خِيم تموقعت في الميدان ليتهندس كفضاء مستوعب لنموذج الثورة وينبض بروحها، الروح الناضجة بخميرة هي عصارة ما تراكم وتفاعل كيماويا وفيزيائيا ففعّل نفسيا وذهنيا· نضج عقد اجتماعي بدد كل ما قيل وروج من فوبيات الأصولية والطائفية والفوضى··· تبديدا أثبت أن النظام هو الذي كان ينتج الفوضى ويغذي الاحتقان الطائفي ويخصب جينات الأصولية في رحم البلد· في الميدان ارتفع المصحف مع الصليب، وصلى المسلم محروسا من القبطي وصلى القبطي محروسا من المسلم·· المواطنة تجسدت بمتحجبة تعانق غير المتحجبة وبصلاة هنا وموسيقى هناك، بطبيب متطوع يسهر على صحة المعتصمين وبشباب يحرس المحيط حتى لا يخترقه البلطجية ولا يتسلل الانتهازيون، وبشباب يدور على الخيم موزعا المؤن··· المعتصمون سيروا بروعة شؤونهم وباشروا التصريف بما أفلست فيه سلطة بهياكلها وميزانياتها· حضر الدين كحضور متخلص من التعقيدات ومن القولبات المصادرة لروحه ولفطرة الإنسان وحضر الفن المنبعث من الإنساني والمتصل به وحضرالإعلام المطيح بما تفبركه ترسانات بروباغوندا النظام وحضرت السياسة بوضوح بعيدا عن ديماغوجية الشعارات الفضفاضة··· حضرت الحياة فتزوج الناس في الميدان، صانعين الحب في حربهم من أجل استعادة الحب الذي أفقدتهم السلطة الإحساس به· الفضاء العمومي، فضاء النقاش والحوار، فضاء المواطنة المجسدة لعقد التشاركية الجماعية المستوعبة للمختلف، هو فضاء يتشكل بالممارسة المستمرة، وبالتكوين المستمر، تكوين بيداغوجية جوارية تستثمر منجزات العصر وتوظف لغة الراهن، الفضاء العمومي، كما تجسد في ميدان التحرير جمع ما كان يحبذ الراحل توفيق الحكيم نعته بالتعادلية، المازجة بين مواكبة متمكنة للعصر وتجذر مرتبط بالخصوصيات ومستوعب لها· والفضاء العمومي ليس معطى جامد وقار وجاهز يستورد، إنه يصاغ بإبداع يوفر للمجتمع ما يتيح له الاندماج في سيرورة العصر، اندماجا يحقق الصيرورة للكينونة· في تقاليدنا كانت في القرية والحومة أطر مبلورة للجماعية التشاورية والتكافلية، كانت في تجربة العزابة بقرى وادي ميزاب، في تاجماعث بالقبائل، في نظام الفقارات الخاصة بالري في أدرار، في باقي الجهات بتسميات وأشكال أخرى· في عصرنا برزت أشكال تنظيمية وتبلورت نظريات وفنيات· ومجتمعنا يعرف أوضاعا ويتطلب حاجات، ومن هذه المعطيات تتشكل الرؤية· رؤية قيام فضاء عمومي يحتضن الشروط المؤهلة لتحقق الديمقراطية وتجسد الدولة وتكرس العقد الاجتماعي · الحركة مسار ممتد وكل حلقة تؤدي للتالية، وكل توقف والإحساس باكتفاء يؤدي إلى إفراغ وإلى تبلور حركة مضادة تلتف على المنجز لتعيد صياغته وتصريفه، تصريفا عرفته الكثير من حركات الشعوب· حركات كثيرة عبر التاريخ عرفت مصير الإنقلاب الذي حول الوجهة وفتح الثغرات التي تسلل منها الذين يناورون ليلتفوا ويبتلعوا··· البدايات ليست هي الاكتمال ولا اكتمال بل استمرار ونقصان مطرد يؤجج بالوعي التوتر الموّلد لطاقة الخلق المبدع· ميدان التحرير كان ميدان الافتتاح، ولقد نجح في تخطي ما فشل فيه مثلا الذين قاموا بكومونة باريس· من 18 مارس إلى 28 ماي 1871 ''عرفت باريس كومونة باريس، التي مثلت روحا دافعة وملهمة للثورة الإشتراكية·· طيلة مدة الكومونة قامت تجربة تسيير جماعي بإشراف نقابي يساري، تسيير لصالح العمال والكادحين بقرارات تم اتخاذها، وتحول العمال إلى ساهرين على حراسة الحركة، لكن تمكنت السلطة من قمعها بشكل دموي وطي صفحتها··· الحركة تركت أثرها وسرت في إلهام اليساريين· يقول ليون تروتسكي ''إن الكومونة تظهر لنا مدى بطولة جمهور الطبقات العاملة، قدرتهم على الإتحاد في كتلة سياسية واحدة، نبوغهم في التضحية بأنفسهم باسم المستقبل، ولكنها تظهر لنا في الوقت نفسه عدم مقدرة الجماهير على اختيار طريقه، ترددهم وعدم حزمهم في مسألة قيادة الحركة، تحزبهم المشؤوم الذي وصل بهم إلى التوقف بعد النجاحات الأولى وهكذا السماح للعدو باستعادة أنفاسه وإعادة توطيد مواقعه''، قول تروتسكي يلخص ما نريد قوله·