''المنظمات البيولوجية'' هو عنوان لموضوع قد يثير الدهشة والحيرة والاستغراب لأول وهلة، فكثير من الناس لا يصدق وجود جمعيات تقوم على أساس بيولوجي، أي أن الرابطة التي تجمع بين أعضاء هذه المنظمات هي الصفات البيولوجية لا غير، ليس للإنسان أو المجتمع أو القانون أو الدولة دخل فيها، بل أن الطبيعة التي خلقها الله هي وحدها التي صنفت بيولوجيا أعضاء هذه الجمعية تصنيفا موحدا ومتشابها، وبالتالي أصبح التصنيف البيولوجي المتشابه هو الرابطة التي تجمع أعضاء الجمعية أو المنظمة· ليست التصنيفات البيولوجية وحدها التي كانت الأساس لقيام هذه الجمعيات هو ما يثير الاستغراب، بل كيف يتسنى للسلطات المعنية، اعتماد هذه الجمعيات وهي في وضعية مخالفة للدستور والقوانين والمواثيق الدولية وروح ومنطق العصر! فما هي هذه المنظمات؟ وما موقف الدستور منها؟ وما هي طبيعتها القانونية؟ الجمعيات التي نعنيها هنا، والتي قامت على أسس بيولوجية تلك التي على شاكلة: الإتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، المنظمة الوطنية لأبناء المجاهدين، الإتحاد الوطني للنساء الجزائريات، المنطمة الوطنية لأبناء الشهداء· فالمنظمة الوطنية لأبناء الشهداء، وكذلك المنظمة الوطنية لأبناء المجاهدين·· هي منظمات تقوم على أساس بيولوجي، أي أن الرابطة التي تجمع بين أعضاء هذه المنظمات هي روابط بيولوجية، تتمثل في كون هؤلاء الأعضاء ينحدرون من صلب الشهداء الكرام، أو من صلب مجاهدي ثورة التحرير الكبرى، صحيح أنه لشرف عظيم أن يكون الإنسان أحد أصوله شهيدا أو مجاهدا، لكن هذا لا يكفي طبقا لمحتوى الآية الكريمة (كل نفس بما كسبت رهينة) أو طبقا لعلاقة المواطنة التي تلزم الإنسان بمجموعة من الإلتزامات وترتب له مجموعة من الحقوق في إطار القوانين والدستور، ومبادئ العدل والمساواة، فماذا ينفع المجتمع أو يضره عندما يكون المرء من أصل مجاهد أو شهيد أو إنسان عاد· فأساس المواطنة هي قيمة المجهود الذي يقدمه الشخص للمجتمع والتميز المستند إلى الكفاءة والجدارة وتلك المواقف الإيجابية التي يتحلى بها إزاء الظواهر السلبية والقيام بالواجبات التي يفرضها القانون· فالأصل البيولوجي يفسر استمرارية الحياة البيولوجية في هذا الكون، أما الأفكار والقيم والمواقف والبرامج السياسية والاقتصادية والثقافية فلا علاقة لها بالأصل البيولوجي بل هي ممارسة سلوكية وأخلاقية وثقافية وقيم ومواقف يعيشها الإنسان في حياته اليومية والاجتماعية، فالتاريخ يؤكد هذه الحقيقة، فكم من قادة كبار وعباقرة أنجبوا ذرية ليست في مستوى عظمة الآباء وكم من آباء عاديين أنجبوا عظماء وعباقرة وقادة كبار· إذن، فالرابطة البيولوجية (أصولا وفروعا) لا تعني الانتقال التلقائي للأفكار والقيم والأهداف التي كافح من أجلها الشهداء والمجاهدين إلى الأبناء، فليس كل ابن شهيد أو ابن مجاهد يؤمن ويناضل من أجل نفس القيم والأهداف التي آمن وضحى من أجلها الآباء، وفي نفس الوقت لا يعني هذا أن كل شخص ليس من أصول الشهداء أو المجاهدين لا يؤمن بمبادى الثورة التحريرية المجيدة ولا يناضل من أجل تحقيق وتجسيد المبادئ والقيم والأهداف التي من أجلها استشهد الشهداء وجاهد المجاهد· فهي ملك لكل من يؤمن بها ويناضل ويكافح من أجل تحقيقها بسلوكه ومواقفه وتضحياته وليست شعارات ديماغوجية أو هياكل فارغة أو سجلا تجاريا من أجل مكاسب فردية معيشية، إن الشهداء والمجاهدين قد استطاعوا إنجاز ثورة من أكبر الثورات المعاصرة في العالم وتحقيق الاستقلال الوطني· فماذا حقق الأبناء؟، هل استطاعوا المحافظة على هذا الإرث العظيم؟ هل استطاعوا نقل رسالة نوفمبر في الداخل أو الخارج؟، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما هو موقفهم من إشكاليات التنمية الوطنية والتوزيع العادل للثروة، والعدالة الاجتماعية، ووحدة الشعوب المغاربية، وفكرة المتوسطية، وقضايا الثوابت والهوية الوطنية؟·· وكل القضايا المصيرية على الشعب والدولة الوطنية· إذن فالعبرة ليست في كون الإنسان ابن شهيد أو مجاهد رغم شرف هذه الكينونة وإنما العبرة تكمن في قدرة الأبناء على حمل رسالة نوفمبر في التحرير ومحاربة الهيمنة وكل أشكال الاستعمار والإمبريالية، وبمفهوم آخر فالعبرة ليست في الاستمرارية البيولوجية للمجاهدين والشهداء من خلال أبنائهم، بل في استمرارية المبادىء التي جاهدوا من أجلها بنفس القوة والحيوية والعنفوان· إن وجود منظمات لأبناء الشهداء والمجاهدين على أسس بيولوجية، هو مسعى يتنافى مع منطق وروح العصر ومع النزاهة المعنوية والأخلاقية التي تتنافى واستغلال تضحيات الأبناء، في أمور معيشية وشخصية تافهة، خصوصا وأن جل هؤلاء قد تجاوز النصف قرن! فبالاضافة إلى هذه المعوقات المعنوية المرافقة إلى هذا النوع من الجمعيات· فهي في وضعية مخالفة لمحتوى المواثيق الدولية وللدستور· فالمادة 29 من دستور 1996 المعدل تنص على: كل المواطنين سواسية أمام القانون ولا يمكن أن يتذرع بكل تمييز يعود سببه إلى المولد أو العرق أو الجنس· إذن فالدستور صريح في منع أي تجمع على أساس المولد أو العرق أو الجنس، أي على أساس بيولوجي، وبالعكس من ذلك، حيث يحق للمجاهدين ويشرف الوطن، أن تكون للمجاهدين منظمة أساسها التضحيات المشتركة التي قدموها للوطن، والآلام التي عاشوها والآمال التي تحذوهم في نقل مبادىء وأهداف الثورة للأجيال القادمة· ذلك أن المبادىء التي حارب من أجلها الشهداء والمجاهدون ليست ميراثا ماديا وماليا يحكمه قانون المواريث، ينتقل تلقائيا إلى أبناء الشهداء والمجاهدين، ولا ينتقل لغيرهم من الناس، بل هو ميراث معنوي وأخلاقي ملك لكل المواطنين، خاصة أولئك الذين يؤمنون به، ويضحون من أجل تجسيد أهدافه النبيلة· ولكن، وبعد كل هذا الذي تقدم، هل يراد من ذلك الدعوة إلى إلغاء كل الجمعيات والمنظمات التي تقوم على أسس بيولوجية· نعم في تقديري الخاص، يجب إلغاء هذه الجمعيات والمنظمات بشكلها الحالي وإعادة صياغتها بشكل لا يتعارض مع الدستور والقوانين، ويتماشى مع روح ومنطق العصر، كأن تكون منظمة من أجل تجسيد القيم والأهداف التي جاهد من أجلها الشهداء والمجاهدون، بعد أن تضبط وتحدد هذه القيم والأهداف والمبادىء من طرف المجاهدين والمواطنين تحت إشراف المنظمة الوطنية للمجاهدين، ويكون أعضاء هذه المنظمة الوليدة، كل مواطن يؤمن بهذه القيم ويعمل على تجسيدها من خلال برنامج واضح وعملي، وبهذا ننتقل بالجزائر إلى عصر المنافسة على البرامج الواضحة والدقيقة والعملية، المستندة على الكفاءة والجدارة والمواطنة· وكذلك الأمر، بالنسبة للاتحاد الوطني للنساء الجزائريات، فهي منظمة تقوم على أساس تصنيفات بيولوجية، أي أن الرابطة التي تقوم بين أعضاء هذه الجمعية هي الخصائص الأنثوية الموجودة لدى النساء عكس الخصائص الذكورية الموجودة لدى الرجال، إذن فهي تستند إلى معايير بيولوجية بحتة، لا تفيد المجتمع في تطوره وتقدمه، بل هو تكريس لتلك النظرة الدونية للمرأة، فقديما كانت المرأة تحتقر لكونها إمرأة وكفى، أي تبعا لتصنيفاتها البيولوجية فقط، وليس لنقص في القدرات الذهنية والعقلية ولا لضعف في الشخصية، واليوم لا تزال نفس تلك النظرة قائمة ولكن بممارسة جديدة وبمظهر حديث· فكيف نفسر تخصيص منظمة أو جمعية للمرأة دون الرجال وفقا لتصنيفات بيولوجية أليس هذا تقسيما للمجتمع من منظور بيولوجي؟ رجال من جهة ونساء من جهة أخرى، وهو ما يتناقض مع المواصفات العصرية في التنظيم الاجتماعي للمجتمع المدني، ذلك أن تخصيص منظمة للنساء فقط هو كتخصيص منظمة للرجال، ثم إذا فرضنا جدلا أن هذه المنظمة ضرورية للمرأة فعن أية امرأة نتحدث؟ هل نقصد المرأة العجوز أم اليافعة هل نعني المرأة الريفية أم المرأة في المدينة؟ هل هي المرأة الجامعية أم التي لم تدخل المدرسة نهائيا؟، فمشاكل المرأة ليست واحدة وانشغالاتها ليست متماثلة، فالمرأة الأنثى أي المرأة البيولوجية ليست حالة اقتصادية وطبقية وسيكولوجية واحدة متشابهة، فالمرأة فرد من المجتمع وحالة تعكس وضع المجتمع الاقتصادي والطبقي والحضاري ليس إلا، وكل معاملة للمرأة على غير هذا الواقع هو استمرار للنظرة التمييزية والدونية لها مهما كانت الزاوية أو المظهر الذي تتموضع فيه لأن مشاكل واهتمامات وتحديات وأولويات المرأة ليست متماثلة لدى كل النساء بطبيعة الحال، بل تختلف من واحدة إلى أخرى، ومن فئة إلى فئة، ومن طبقة إلى طبقة، حسب الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والطبقي لكل فرد وفئة من هؤلاء، أي أن العوامل الموضوعية والهموم المعيشية هي التي يجب أن تكون أساس أي تجمع أو جمعية أو منظمة، وليست الروابط البيولوجية التي لا تقدم ولا تؤخر في وضع المرأة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إن المرأة الأنثى هي حالة بيولوجية لا يمكن أن تتحول إلى حالة اجتماعية واقتصادية لفائدة المرأة والمجتمع· ومن هذا المنظور نكون قد انتقلنا من التصنيفات البيولوجية المحايدة إلى التصنيفات الحديثة المستندة إلى التناقضات المعيشية والمهنية وحتى الطبقية· فمنطق العقل وطبيعة الأشياء وتطور مفهوم الحريات الفردية والجماعية، تفرض أن تكون وظيفة الجمعية وأهدافها الدفاع في إطار القانون عن مصالح الأعضاء وتجسيد انشغالاتهم واهتماماتهم وليس التشبث والدفاع عن حالة بيولوجية ليسوا مسؤولين عنها ولا تفيدهم ولا تفيد المجتمع في تطوره· إن المرأة جزء من المجتمع، لها ما للرجل وعليها ما عليه، وتتميز عن أخيها الرجل بالدهاء وعاطفة الأمومة النبيلة التي هي أنبل وأرقى غريزة لضمان استمرارية الحياة في الكون· إن بقاء واستمرار جمعيات ومنظمات المرأة على المطلق هو وضع مخالف للدستور ولروح وقيم العصر، فالمجتمع المدني الحديث تحكمه مواصفات الوظيفية والمصالح المشتركة المشروعة واستبعاد أية معايير تتضمن تمييزا بسبب المولد والجنس والتعامل مع المجتمع ككل، رجاله ونسائه، وأن تكون التنظيمات الاجتماعية على أساس الوظيفة والموقع الاجتماعي والوضعية الاقتصادية والاجتماعية والظروف الموضوعية والمعيشية بدل أن تقوم هذه المنظمات على أساس الحالات البيولوجية السلبية والمحايدة· وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن هناك إشكالا آخر يتعلق بهذه المنظمات وهو عدم وضوح طبيعتها القانونية، فهل هي أحزاب سياسية؟ أم هي نقابات عمالية ومهنية، كما حددها القانون الضابط للنشاط النقابي؟ الغريب أنه بعد الاطلاع على هذه المنظمات وعلى القوانين التي تسير الأحزاب السياسية والجمعيات العادية والنقابات، يتضح أن هذه المنظمات ليست أحزاب سياسية ولا جمعيات ولا نقابات عمالية ومهنية بل هي تنظيمات في وضع مخالف للدستور والقوانين· وفي الخلاصة، وطبقا لما تقدم، وفي تقديري يجب من الآن التفكير في أسس ومعايير تنظيم المجتمع المدني وفقا للدستور ومواصفات العصرنة ومفاهيم تطور حقوق الإنسان· وبالتالي، إعادة النظر في كيفية اعتماد هذه الجمعيات والمنظمات على أساس البرامج والأهداف، وليس على أساس الحالات البيولوجية التي ليس للجهد البشري دخل فيها، وبالتالي لا يمكن تقييمها سلبا وايجابا· إن قيام المجتمع المدني، وفقا لمواصفات ومعايير بيولوجية، يعني إبقاء تنظيم هذا المجتمع المدني في حالة بدائية، تتناقض مع روح العصر والحداثة، بالإضافة إلى كونها في وضع مخالف للدستور، كما تقدم طبقا لمحتوى المادة 26 منه·