ما طبيعة المعركة بين الأحزاب والسلطة الاستعمارية؟ هل هي حركة من أجل ''قضية وطنية'' أم من أجل إصلاحات جزئية؟ أي هل هي معركة ''أمة'' تواجه فيها أمة أخرى، أم هي معركة ''أهالي'' يتوجهون فيها بالمطالب الاجتماعية نحو ''دولتهم''؟ ماذا تعني كلمة الإسلام والمسلمين في هذه المعركة؟ دور الإسلام والعربية فيها هل هو أساسي أم ثانوي؟ ومن ثم ما هي مواقف الوطنيين والشيوعيين والعلماء ''والمنتخبين'' من قضية انتماء الجزائر الحضاري والثقافي، هل هو انتماء إلى الأمة العربية الإسلامية أم إلى الثقافة والحضارة الفرنسية؟ نماذج الحركات موضوع الدراسة حسب تصور الأستاذ شريط أولا: مبادئ الحركة الوطنية - أي نجم شمال إفريقيا الذي تحوّل إلى حزب الشعب ثم إلى حركة الحريات الديمقراطية، والذي اتخذ عشية اندلاع الثورة اسم اللجنة الثورية للاتحاد والعمل، وأخيرا إلى جبهة التحرير الوطني· ثانيا: استعراض أفكار جمعية العلماء من القضية الوطنية وكيف كانوا ينظرون إليها وإلى العمل السياسي، ويحاولون العمل في نطاق العمل الثقافي وحده، وهذا من أهم الفروق الإيديولوجية بينهم وبين الوطنيين - معتمدين على أن العمل الثقافي هو الذي يكوّن الإنسان الجزائري الذي يستطيع بعد ذلك أن يقهر الاستعمار· في حين أن للحركة الوطنية رأيا معاكسا تماما· ثالثا: عرض فكر الحزب الشيوعي الجزائري وموقفه من العمل الذي تنادي به كل من الحركة الوطنية وجمعية العلماء، حيث لم يتخذ خطا واحدا مثل الحركة الوطنية وحركة العلماء، وكيف أنه في ''الأفكار'' الإيديولوجية يختلف مع العلماء والوطنيين في آن واحد، ولكنه في العمل السياسي يميل أكثر إلى العلماء ويتخذ أكبر عدو له هو الحركة الوطنية· فمن المبادئ الأساسية التي نادت بها الحركة الوطنية: - أن الهدف الذي تعمل له قائم على حقوق شعب بأكمله في إطار وطني· شعب له وحدته في اللغة وفي التاريخ وفي الدين وفي الجنس· - وأن الاستقلال لهذا الشعب يمكن تحقيقه على شرط أن لا يخشى السجن ولا الموت، وأن نعرف كيف نتحد· - والأرضية لهذه الوحدة موجودة وقائمة، وهي أرضية المطالب· فكل حزب، أو كل واحد يستطيع أن يحتفظ بإيديولوجيته الخاصة، مع توحيد جهودنا في نوع من العمل المشترك لننقذ شعبنا مما يتخبط فيه· - أما اليسار الفرنسي عندما استولى على الحكم في أواخر الثلاثينيات، فإنه تنكر لمبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والديمقراطية للشعوب· وأعلن حزب الشعب الجزائري أنه لا يجد في فرنسا 1939 فرنسا الثورة، فرنسا 1789، وأن سجن ''الباستيل'' لم يعد في باريس بل أصبح في عاصمة الجزائر يركل في زنزاناتها الوطنيون الجزائريون لأنهم يريدون التمتع بحقوق الإنسان· - ومن هذا الوضع يستخرج حزب الشعب مبدأ جديدا لعمله السياسي سيبقى من المبادئ القارة في الحركة الوطنية إلى أن مات بعد الاستقلال وهو مبدأ الاعتماد على النفس· - وأعلن في ماي 1939 ''أن حزب الشعب الجزائري لا يرى مخرجا للشعب إلا في تشديد الكفاح داخل منظماته· وأن العمل التنظيمي للشعب في داخل الحزب هو أمر أساسي· فالتنظيم الشعبي هو أساس الكفاح الحقيقي الذي توصل به حزب الشعب إلى القضاء على الفوضى العجيبة التي كانت سائدة في كل مكان· إن كل المسلمين الجزائريين مدعوون للدخول في صفوف حزب الشعب الجزائري لأنه هو الذي يعمل دون كلل على تنظيم الشعب· - كذلك استخرج حزب الشعب الجزائري مبدأ آخر، وهو مبدأ عدم الانحياز بين الشرق والغرب -من خيبته في حكم اليسار الفرنسي، وخاصة في جو الحرب العالمية الذي أخذ يخيم على العالم، فأعلن ''أننا لا نريد الحرب، وأنه ليس لنا أي شأن مع أعداء لا نعرفهم وإن كانوا يسلكون معنا نفس السياسة التي يسلكها معنا من يدعون أنهم حماتنا··· إن الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية والإمبريالية الفرنسية يسلكون نفس سياسة الهيمنة القائمة على القوة··· وغدا سيتخذ كل المضطهدين في إفريقيا وآسيا· غدا سيشكل كل الذين لم يتخلوا عن المطالبة بحريتهم، وكل الذين يتألمون في فرنسا وفي مستعمراتها- سيشكلون جبهة واحدة ضد القوة العمياء وضد الظلم والتحكم· وعندئذ لن يبقى لكم أيها الطغاة إلا أن ترتعدوا أنه لن تكون هناك قوة توقف زحفنا''· - وبعد انتهاء الحرب العالمية لم يغير حزب الشعب شيئا من مبادئه الثابتة في تركيز مطالبه على النقطة الأساسية في إيديولوجيته، وهي أن قضية الشعب الجزائري ليست قضية حقوق اجتماعية، بل هي قضية وطن· - ولكن دخول الحركة الوطنية تحت اسم حركة انتصار الحريات الديمقراطية يستحق أن نبحث فيه عما إذا بقيت الحركة محافظة على إيديولوجيتها ''الوطنية'' وبنفس الطريقة والأسلوب، أم تبين فيها شيء جديد· يحدد محمود قداش أوصافا أولية لحركة الانتصار للحريات الديمقراطية بالمقارنة مع كان عليه حزب الشعب في أواخر الأربعينيات، وذلك لا من حيث المبادئ والأهداف والفكر الإيديولوجي عامة، فهذا بقي بدون تغيير يذكر، لكن من حيث طرائق العمل التي تشكل جزء من تطور الفكر الإيديولوجي، فيذكر أن حزب الشعب -أو حركة الانتصار- أصبح في ثلاث سنوات -من سنة 1947 إلى سنة 1950- منظمة أكثر فعالية ودقة، إذ تمرس على طرائق من العمل ابتعدت عن الارتجال، وأصبح جهازا سياسيا على غاية من الأهمية· فوضع الأهداف بدقة كما وضح طرائق تحقيق هذه الأهداف وأساليبها بأنواع من العمل متنوعة· وأصبح قادرا في مختلف الميادين المعقدة التي أصبح لا بدّ من مواجهتها· وفي هذه الفترة بالذات من العمل المعقد الذي أصبح به الحزب يشكل خطرا سياسيا حقيقيا على مستقبل الاستعمار الفرنسي في الجزائر، دون الأحزاب والحركات الأخرى أيضا- ظهرت مشكلة إيديولوجية مزيفة ولكنها معطلة ومعرقلة لأعمال الحزب وخطته إزاء الاستعمار الفرنسي، وهي ما يسمى بالمشكلة ''البربرية''· وترى الحركة الوطنية أن السبب في إثارة هذه المشكلة هو الضعف الإيديولوجي للحزب، وعدم طرحه -طرحا واضحا لأهداف الكفاح ووسائله· والحقيقة أن الحزب يعاني فعلا ضعفا إيديولوجيا، برز بالخصوص بسبب نموه ونضجه وليس بسبب ضعف كيانه· ثم إن أزمة الحزب مهما كانت لا تعالج بفصل جزء من الوطن عن بقية أجزائه الأخرى في عنفوان المعركة ضد الاستعمار· وكان قادة هذه الحركة من الشباب، ونن بينهم آيت أحمد وآخرون· وقد بقيت تدور حول نفسها دون أن تتوصل إلى تحقيق شيء من أهدافها· ويذكر السيد قداش هنا أن من أسباب ظهور هذه الحركة هو أن أصحابها اكتشفوا، أو توهموا أنهم اكتشفوا لأول مرة الماركسية العلمية التي ظنوا عن خطأ أن موقف الحزب الشيوعي الجزائري مطابق لها· ولذلك راح البعض من هؤلاء الشباب يهاجمون حزب الشعب الجزائري ويؤاخذونه على اتجاهه العربي الإسلامي، ويثيرون بدلا من ذلك الأصل البربري للسكان الجزائريين· وإثارة هذه المشكلة أو طرحها على البساط السياسي هو بحد ذاته عجز سياسي وانعدام للفكر الإيديولوجي، لأنها ليست قضية سياسية بل مجرد قضية ثقافية· والحقيقة أن زعماء هذه الحركة كانوا يسعون إلى تكوين ''حزب الشعب القبائلي''· وبدأت حركتهم بدعاية قاموا بها في فرنسا من بين أوساط العمال· أما في الجزائر فقد حاولوا نشرها في أوساط الطلاب بالعاصمة وبلاد القبائل· واكتشفت قيادة الحزب هذه الحركة وواجهتها بإقناع المناضلين بأن هذه الحركة هي في الحقيقة حركة انفصالية· وأن ما يسمى بالمشكلة البربرية هي مشكلة مزيفة· وكان ذلك هو الواقع، والدليل على ذلك هو فشل هذه الحركة في القبائل نفسها، واستطاع حزب الشعب أن يسيطر على الموقف بسهولة، حتى إن بعض المناضلين من المشكوك فيهم أنهم من أتباع الحركة البربرية، انتهى بهم الأمر إلى استنكار ما فيها من الطابع الانفصالي عن الشعب الجزائري· وأعلنوا أن حزب الشعب القبائلي المعارض لحزب الشعب الجزائري لم يوجد قط في الماضي ولن يوجد أبدا في المستقبل لسبب بسيط وهو أنه لا يوجد إلا شعب جزائري واحد، ولا توجد عدة شعوب جزائرية، شعب واحد متكون من عناصر مهما اختلف بعضها عن بعض إلا أنهم يعيشون في أخوة متحدين في قضية واحدة هي قضية التحرير الوطني· أما الحركة البربرية في فرنسا، فقد وقع بشأنها تجمع للوطنيين ضم مائتي مندوب، واستمع إلى تقرير من شوقي مصطفاوي باسم قيادة الحزب، ثم أعلن المشاركون في هذا التجمع تمسكهم بقيادة حركة انتصار الحريات الديمقراطية وبمصالي الحاج· هذا، ومن أساليب العمل المعقد الذي انصرفت حركة الانتصار إلى تحقيقه هو سيطرتها وقيادتها وتكوينها للمنظمات الجماهيرية أو المنظمات المؤيدة، وهي المنظمات النقابية، والطلابية، والحركة الكشفية، والمنظمات الرياضية، والمؤسسات الثقافية الشعبية، والجمعيات النسائية، واستطاعت أن تجند كل هذه المنظمات حول مبادئ محددة، وتكوينها تكوينا إيديولوجيا متينا· وهذه المبادئ هي: - تهديم البنية الإمبريالية وإقامة سيادة الشعب الجزائري - تكوين دولة وطنية مع كل مستلزماتها من السيادة في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية - التطبيق بكل دقة للمبادئ الديمقراطية القائمة على التعليمات الآتية: الكلمة للشعب، السلطة لمجلس تأسيسي منتخب انتخابا حرا· إنه لا يوجد هنا أي لُبس· فحركة الانتصار تناضل من أجل دولة جزائرية ذات بنية ديمقراطية تشمل كل الجزائريين· أي أن القضية الجزائرية ليست قضية إصلاحات مهما كانت سخية، بل هي قبل كل شيء قضية سيادة· وهذه الديمقراطية - في نظر حزب الشعب- كما كانت في حزب نجم شمال إفريقيا، وكما ظلت في حركة الانتصار، لا يوجد فيها صراع الطبقات، لأن الصراع من أجل السيادة الوطنية يسبق في الأهمية صراع الطبقات، وما يلحقه من تقسيمات إلى كادحين وجائعين، ومقاومة الربح، ذلك أن هذه المظاهر كلها في المجتمع تابعة لوجود الاستعمار، ولا يمكن القضاء عليها وإبقاء الاستعمار·