ما يحدث في سوريا يشير إلى أن تكرار السيناريو المصري وارد وإن كان بتنويعات أكثر دموية، فسوريا دائما ليست مصر، ليست تونس، وتونس ليست ليبيا، وليبيا ليست أي شيء آخر يمكن توقعه، إلى آخره من هذه السلسلة من (ليست) التي اخترعها سيف الإسلام القذافي· أردت أن أنقل للقارئ الكريم في هذا المقال بعض مشاهداتي السورية القديمة التي تعود إلى أكثر من خمس عشرة سنة، في أوت 1995 كنت في دمشق هاربا من وضع مأزوم في الجزائر·· كان بختي بن عودة قد اغتيل، وكنت مصابا بحب لم أستطع التخلص منه·· في مطار دمشق لما علم الموظف الذي تفحص جواز سفري أني صحافي اتسعت حدقتا عينيه وتغيرت ملامح وجهه·· كان هناك خليجيون تمشي وراءهم مجموعة من النساء المتشحات بالسواد يتحركن بأوامر الرجال·· عبروا بسرعة، أما أنا فقد أمرني الموظف بالتنحي جانبا·· الطائرة التي جئت فيها من الجزائر العاصمة كانت ملأى بتجار الشنطة الذين يقصدون دمشق للتسوق من سلع الشرق الأوسط وإعادة بيعها في الجزائر في تلك السنوات التي كانت فيها سلع دمشق هي المفضلة·· بعدها أعاد الموظف علي طرح أسئلة عدة حول طبيعة عملي، رغم أني أفهمته أني جئت في سياحة، لكن ذلك لم يشفع لي·· كانت أسئلته من طبيعته إلى أي تشكيل سياسي تنتمي، وما رأيك في النظام السوري·· إلخ·· كنت محايدا في إجابتي ومقتضبا، بعدها أشر على جوازي وأعطاني ورقة وطلب مني مراجعة وزارة الإعلام السورية خلال 48 ساعة·· دخلت دمشق ليلا وبسهولة وجدت فندقا متواضعا يناسبني في حي (الحريقة) غير بعيد عن المسجد الأموي عند أبي وليد· في أول صباح لي في دمشق تفاجأت باللافتات المعلقة في كل مكان تعزي في ابن حافظ الأسد الذي كان قد قضى نحبه في حادث سير·· لكن الغريب أن كل تلك اللافتات كانت تسمية (الشهيد البطل) ولاحظت كذلك أنه كان مفروضا على المحلات التجارية أن تخرج لافتة للتعزية في الموضوع· الذي كان يهمني في زيارتي الدمشقية تلك هو ملاقاة شاعري الأثير وقتذاك محمد الماغوط·· ذهبت إلى مقر اتحاد الكتاب العرب، والتقيت علي عقلة عرسان الذي أحالني إلى فايز خضور الذي أعطاني رقم هاتف محمد الماغوط كما لو أنه يعطيني قطعة حشيش ممنوع، لما كلمت الماغوط أحسست صوته يأتيني من الجهة الأخرى صافيا وبريئا، ما إن علم أني من الجزائر حتى اهتز صوته بنبرة جميلة صافية·· ضرب لي موعدا في فندق الشام·· وجدته هناك جالسا في ركنه الخاص المطل على شارع الحمراء·· بدون مقدمات تعارفنا كان يضع على أذنيه سماعة موسيقى ويسمع لموسيقى (شوبان) ويدخن سيجارة الميريت وعندما يرى الصبايا الجميلات يعبرن شارع الحمراء كان جسمه كله يهتز·· تحدثنا قرابة الساعتين، وأبدى لي حزنه وألمه مما كان يحدث وقتها في الجزائر من تقتيل وإرهاب·· أهداني روايته (الأرجوحة) وودعني مقبلا وجنتي· الدمشقيون ودودون وهادئون وشاطرون في التجارة، لاحظت أن تماثيل حافظ الأسد في كل مكان رافعا يده بالطريقة الهتلرية· السوريون الأحرار اليوم انتفضوا وتعلموا من الدرس التونسي والمصري·· قتلى وقمع كبير في درعا واللاذقية ودمشق وحمص، ضد نظام حزب البعث وضد الجمهورية العائلية·· لكن هذا النظام الحديدي ستذوبه إرادة الحرية، وسيسقط ولا داعي للحديث هنا عن الممانعة وعن إسرائيل وعن كل الخرطي الديماغوجي الذي نَوَّم السوريين في العسل لعقود طويلة· سوريا اليوم ترفع صوت التحرر عاليا من مافيا الأسوة العلوية، وطريق التحرر كما يعلمنا التاريخ لا يصنع إلا بدم الشهداء·