لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتحدث عن العاصمة دون ذكر حي القصبة، لأنه ببساطة يمثل جزءا مهما من تاريخها·ولا يمكن أن ندخل القصبة دون أن تكون لدينا خلفية عن أزقتها الضيقة وسكناتها التقليدية التي تعود إلى قرون خلت· كما لا يمكن ذكر اسم القصبة دون العودة إلى سنوات الثورة التحريرية وما لعبته من دور في قهر المستعمر لأنها ببساطة كانت تمثل معقلا مفضلا للثوار والسكان على حد السواء نظرا لطابعها المعماري وهندستها التي استعملت كمخابىء للأسلحة وملاجىء للثوار· ولا يمكن أن ننسى ما عانته بنايات القصبة جراء زلزال 2003 وما خلفه من تصدعات وانشقاقات ما يزال بعضها شاهدا على ذلك، وأخيرا لا يمكننا بأي حال من الأحوال كذلك أن نمر دون التذكير بالمخزون الثقافي والتاريخي الذي ما تزال تكتنزه القصبة، والذي بقي معلما يثبت بأن المنطقة عرفت حضارات كثيرة على مر العصور· والزائر اليوم إلى القصبة سيقف دون أدنى شك على عدة مشاهد متناقضة تنفرد بها عن غيرها من أحياء العاصمة العتيقة· وإذا أردت أن تختزل يوميات أهل القصبة بشبابها وشيوخها وأطفالها ونساءها، فإن انشغالاتهم لا تخرج عن أمرين اثنين هما أزمة السكن وقضايا الشباب، ومن هناك كانت بداية رحلتنا مع بعض قاطني القصبة الذين قادنا فضولنا الصحفي إلى زيارتهم والتحدث إليهم والاستماع إلى انشغالاتهم ومشاكلهم وأمانيهم· شباب يشتغلون في المهن الحرة لعل الخاصية الأساسية التي تبرز أمام أعين كل متردد على حي القصبة هو الحركة التجارية الكبيرة التي تميز الشوارع والأزقة والزحام الدائم أمام محلاتها التجارية، ربما لانفرادها بأسعار معقولة تتناسب مع إمكانات ذلك المواطن البسيط الذي يقصدها يوميا، هكذا بدت لنا مظاهر الحياة في القصبة، ومن هذه المقدمات التي سقناها، حاولنا الغوص في أغوار الحياة هناك، وكانت وجهتنا الأولى طبعا فئة الشباب الذين يزاولون حرفا وأعمال حرة، وهو ما جعلنا نتساءل عن السر في جنوح بعض شباب القصبة إلى ممارسة مثل هذه الأعمال والتجارة بدل الاتجاه إلى خيارات أخرى، هل البطالة المتفشية هناك هي التي دفعت هؤلاء إلى مزاولتها؟ يعتقد صاحب أحد المحلات المتخصصة في بيع اللوازم المدرسية بأن الظاهرة تبدو عادية وميزة تميز شباب القصبة الذي لا يعبأ بما يتقاضاه في المؤسسات ويفضل هذه التجارة المربحة يقول هذا التاجر: ''أولا أنا ابن القصبة ولديّ دراية تامة بأوضاع الشباب هنا وأعرف تماما كيف يفكرون وماذا يريدون، فهم في الغالب يفضلون التجارة الحرة على الارصفة وفي أزقة القصبة على العمل في شركات أو مؤسسات لأنهم ببساطة لا يكتفون بالأجر الشهري، والذي قد لا يسد حتى حاجاتهم من الألبسة ومصروف الجيب اليومي''· وحتى إن كان هذا التاجر الذي يعرف جيدا ذهنية شباب القصبة قد أكد لنا بأن الشباب لا يعانون كثيرا من البطالة، فإن الحال لم يكن كذلك عندما التقينا بأبناء الحي من الشباب، حيث أكدوا لنا بأنهم يتمنون يوما ما الحصول على منصب عمل دائم في أي مؤسسة وطنية يتناسب مع قدراتهم وإمكاناتهم التعليمية، وهو ما جاء على لسان أحدهم: ''يخطىء من يعتقد بأن الشباب الذي يعمل في التجارة الحرة البسيطة سعيد بوضعه ولا يريد مزاولة مهنة دائمة ومستقرة، فأنا مثلا قدمت العديد من الملفات لوكالات تشغيل الشباب ومازلت انتظر دوري، وفي حالة ما فزت بمنصب عمل يناسبني سأودع تجارة الأرصفة بالثلاث''· ولم تختلف بعض الأراء الأخرى التي لمسناها عند شباب آخرين، فالكل يصر على كلمة واحدة وهي أن اللجوء إلى البيع على الأرصفة أحسن بكثير من الانحراف والقيام بأعمال السرقة والاعتداءات· أزمة السكن الهاجس الكبير لا نضيف شيئا إن أكدنا على أن إحدى مظاهر أزمة السكن التي يعاني منها بعض أحياء العاصمة القديمة يوجد بالقصبة، نظرا لقدم بعضها وتآكلها وتضررها من الزلزال الذي ضرب بومرداس سنة ,2003 ورغم عمليات الترحيل التي مست بعض مناطق الحي واستفادت منها مئات العائلات إلا أن الأزمة ما تزال مطروحة بحدة وهو ما جعل أحد المتضررين يصرخ قائلا: ''تصوروا أن الملف الذي وضعته على مستوى البلدية يعود تاريخه إلى سنة 1992 ولحد الآن لم استفد من أي كوطة في عمليات الترحيل التي تمت لحد الآن، وبالمناسبة فإن فوجا آخر من السكان سيتم ترحيله في الاسبوع القادم على أكثر تقدير، وللأسف لا أتواجد ضمن قائمة المستفيدين· عندما يطرح بعض المنتظرين من السكن عن أوضاعهم، فلا يترددوا في طرح العديد من الاشكالات والعراقيل التي حالت دون استفادتهم من سكن ومنها التوزيع غير العادل على نحو ما حاول المواطن ياسيف تفسيره لنا: ''تصور أن هناك بعض العائلات تقطن بالقصبة منذ القدم لم تستفد من أي مشروع سكني رغم أوضاعهم المزرية، في حين منحت سكنات لعائلات جاءت إلى القصبة على التو، فأنا مثلا مولود هنا ووالدي وجدي كذلك لكن ذلك لم يشفع لي واضطررت إلى شراء سكني، وأحمد الله على ذلك؟· شاءت الصدف أن نزور القصبة والكل يترقب هذه الأيام الإفراج عن عملية الترحيل التي ستمس بعض العائلات حيث علمنا بأن الاسبوع القادم سيكون بمثابة الفرج بالنسبة للمستفيدين وتبقى أكبر حصة سكنية منحت لسكان القصبة بدون منازع تلك التي شهدتها سنة 1998 عندما تم توزيع حوالي 1500 سكن دفعة واحدة، لتبقى العملية متواصلة على فترات، وآخر عملية ترحيل كانت سنة 2009 حيث تم تسليم 100 سكن· 80% من السكنات متضررة رغم أن هناك العديد من السكنات التي ما تزال صالحة ولم تتأثر من الزلزال أو كثرة السنين، إلا أن الأرقام تشير إلى ان حوالي 80% من المنازل المتواجدة بالقصبة مهددة وطالتها أضرار متفاوتة الخطورة، وحول هذه النقطة فقد التقينا ببعض المواطنين ممن استفادوا من إعانات الدولة للقيام بعمليات الترميم تراوحت بين 70 مليون إلى 100 مليون سنتيم تبعا للأضرار التي طالت المسكن، في حين فقد صنفت السكنات التي توجد في وضعيات كارثية في المنطقة الحمراء وقد تم ترحيل أغلبها، في انتظار البقية، إذا كانت التقديرات المالية تشير الى ان سكان حي القصبة يفوق 250 ألف نسمة، فإن السكنات التي تأويهم تتكون أساسا من غرفتين إلى 6 غرف وهي عبارة عن دويرات مبنية، بالطراز القديم، ومن بينها هناك حوالي 10% توجد في أحسن حال· عندما يتحدث بعض المواطنين ممن التقينا بهم عن أزمة السكن، فهم يتناولون ذلك من باب أنهم متضررين فعلا ويناشدون السلطات للالتفات إليهم، وهم اذ يحاولون ايصال صوتهم فهم ينبذون مبدئيا بعض السلوكات التي لجأ اليها بعض شباب الاحياء في بعض المناطق بالعاصمة، حيث يعتبرون ذلك نوعا من الفوضى التي قد تقود البلاد إلى حلقة أخرى من اللااستقرار وهي التي خرجت على التو من العشرية الحمراء، غير أن معظم المواطنين يتمنون أن تكون الايام والسنوات القادمة أحسن من التي عاشوها لحد الآن· نهار القصبة ليس كليلها بغض النظر عن الشباب والسكن فإن ما يؤرق يوميات سكان القصبة وبعض تجارها هو انعدام الأمن في بعض الأماكن خاصة عند حلول ظلام الليل، فبقدر الحركة الكثيفة التي تتميز بها القصبة طوال النهار، يخيم على أزقتها نوع من الخوف مع مجيء الليل وهو ما جعل أحد التجار يؤكد لنا بأنه يضطر يوميا إلى التوقف عن العمل وإغلاق محله تجنبا لأي مكروه خاصة وأنه يتواجد بأحد الازقة الضيقة، وبالمناسبة فقد أخبرنا بأن زوار القصبة غير القاطنين هنا، يتعرضون من حين إلى آخر إلى اعتداءات من طرف بعض الطائشين، كما أن هناك العديد من هذه الحوادث تقع من حين إلى آخر· ''رغم أننا لا يمكننا تعميم الظاهرة على كل سكان القصبة ومواطنيها إلا أن ممارسيها هم أساسا معروفون وهم يقومون بهذه الاعتداءات تحت وقع المخدرات أحيانا ومحاولة التعدي على المواطنين من أجل تجريدهم من أموالهم وحاجاتهم وكل هذه الأمور تحدث أساسا خلال الليل· وبين التجارة الحرة وأزمة السكن وتواجد الاعتداءات في بعض أزقة القصبة، تبقى هذه الأخيرة قبلة المواطنين ورغم تعاقب السنين عليها إلا أنها بقيت وستظل معلما تاريخيا تستلهم الاجيال القادمة، وهي إلى جانب كل هذا تنظر إلى المستقبل بنظرة تفاؤلية وهي التي بقيت لعقود من الزمن رهينة معاناتها مع سكناتها الهشة وما عاشته خلال حقبة الإرهاب·