قامت قائمة الهند واتحد الشعب والحكومة في غضب عارم، والسبب كتاب صدر في كل من بريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية يتطرق لسيرة رمز السلام العالمي وإيقونة الهند بامتياز، المهاتما غاندي· وقد بلغ أمر الغضب من الكتاب حد السعي لمنعه من الصدور في الهند وغيرها من الدول، مع العلم أن وزير العدل الهندي أكد أنه رفع دعوى قضائية ضد الكاتب تمنعه من الترويج للكتاب، ومبرر المنع أنه يمس مكانة وسمعة الهند، مثلما ينص عليه القانون الذي يُجرم إهانة أي رمز من رموز البلاد سواء تعلق الأمر بالشخصيات أو الراية الوطنية وغيرها، وهو الأساس الذي ستُقام على أساسه الدعوى· كل هذه الجلبة الممتدة على طول القارات الثلاث سببها كتاب، ''الروح العظيمة، المهاتما غاندي ونضاله مع الهند'' للكاتب الأمريكي جوزيف ليليفلد، والذي عاد في الى سيرة الرجل الأشهر في تاريخ الهند، بل إنه أصبح رمزها بعدما نجح في توحيد البلاد في وقت فرقتهم المعتقدات الدينية والطائفية، ولعل هذا ما جعل منه شبه إله لا يُمس بأي شكل من الأشكال، فكيف بكتاب يكشف بعض من المعلومات من شأنها تغيير نظرة الناس للرجل الإله· من هذه المعلومات التي يقدمها الكاتب على أنها حقائق تاريخية تلك العلاقة العاطفية حد الشغف مع رجل ألماني كان يقيم رفقته بجنوب إفريقيا، والمراد بالعلاقة أن المهاتما كان مثلي الجنس، يميل في عشقه للرجال، يأتي ذكر هذه المعلومة استنادا لمجموعة من الرسائل كان الصديقان، أو العشيقان يتبادلانها، حيث يفصح كل منهما عن شوقه للآخر بكثير من التفاصيل الجسدية، التي لا ترد إلا بين العشاق· والكتاب يندرج في ما يعرف بالأدب ''الإيبيستولي'' أو أدب الرسائل، الى جانب كونه بحثا في السيرة الذاتية للرجل، اذ يعتمد في الأساس على نشر مجموعة كبيرة من الرسائل التي تبادلها المهاتما مع شخصيات من عصره، وعلى ضوئها يقوم الكاتب الصحافي بصياغة سيرة غاندي· وقد تمكن المؤلف من وضع يده على مجموعة من الرسائل تصف على لسان المعني طبيعة العلاقة التي جمعته مع رفيقه الألماني، هيرمان كالبنباغ، والذي قيل إنه كان رجل أعمال ورياضي ألماني أقام بجنوب إفريقيا في ذات الشقة التي أقام بها المهاتما قرابة السنة، قبل أن يعود لزوجته، ويشرع في مراسلة رفيقه متحدثا عن شوقه· المثير أن صاحب الكتاب الصحافي المخضرم، لم يكتف بنشر الرسائل التي تتحدث عن العشق والوجدان العاطفي، بل إن التحليلات الصحافية راحت تؤكد بعد ذلك على أن الكتاب يقدم كشفا وجانبا غامضا من حياة المهاتما، من خلال التأكيد على أنه كان ثنائي الجنس، ما يعني أنه يعشق الرجال كما النساء· لتكون روايات الصحف عمّا جاء في الكتاب بداية الجلبة في الهند، كل ذلك حتى قبل أن يتوفر الكتاب لأي كان وفسح المجال لنقده بعد الاطلاع على فحواه· ولعل محمل الجد الذي تعامل به الهنديون مع الكتاب يعود لمكانة المؤلف في حد ذاته، فهو ليس مجرد صحافي باحث عن الشهرة من خلال تفجير فقاعة إعلامية من هذا النوع، وإنما يتعلق بأحد أبرز الكتاب الصحافيين في الولاياتالمتحدةالأمريكية والعالم ومعروف بجديته ومصداقيته· ولمن لا يعرف جوزيف ليليفلد، نقول إنه رئيس تحرير جريدة ''نيويورك تايمز'' الشهيرة لفترة طويلة والحائز على جائزة ''البوليتزر'' عن عمل له بخصوص جنوب افريقيا· والجائزة المذكورة تعد أهم جائزة صحافية في العالم، ما يمنح مكانة مهمة للمتحصلين عليها، وعليه اجتمعت سمعة الكاتب الصحافي لتنضاف إليها سمعة المهاتما غاندي العالمية، ليجعل من الكتاب حالة إعلامية فريدة من نوعها قبل أن تتحول إلى حالة سياسية وقضائية، في الوقت الذي يرى فيها الكثيرون أنها حالة تاريخية وقيمية، على اعتبار أنها إعادة لاكتشاف أحد أهم شخصية ساهمت في الترويج للقيم الأخلاقية المتعلقة بالسلام· أكثر من ذلك من بين الرسائل التي أوردها التي جاءت في الكتاب تلك المتعلقة بنظرة المهاتما غاندي للسكان السود في جنوب افريقيا، حيث عبر عن دهشته الكبيرة للطريقة غير الحضارية التي يعيش فيها السود، واصفا زيارته الأولى لجنوب افريقيا، على أنه اكتشاف لقوم ''غير متحضرين'' ناعتا إياهم بصفة قيل إنها عنصرية· ممثل هذه المقاطع وغيرها مما ورد في الكتاب، جعلت الكثيرين يعتقدون أنها مقاطع تسيء لصورة رمز الهند وبالتالي للهند وشعبها· غير أن الكاتب أكد من جهته انه سعى إلى إعطاء صورة إنسانية للرجل بعيدا عن تلك الصورة الرمزية التي طالما جعلت من المهاتما إنسان ينزع للروحية وبعيد كل البعد عن كل ما يرتبط بالشهوات الجسدية، إذ روج على أنه الزاهد بامتياز· المثير أن المهاتما ذاته لم ينف هذا البعد الانساني عن نفسه، بل سعى الى التأكيد على أنه مجرد إنسان له من العيوب ما لأي أدمي· فقد ورد في كتابه ''تجاربي''، الذي يعتبر السيرة الذاتية برؤية المهاتما نفسه كتب يقول: ''أنا إنسان من الأرض ولي من الأخطاء ما للجميع''· هكذا انطلقت الجلبة الإعلامية بخصوص الكتاب الجديد وعن شخصية المهاتما، بين من يرى أنه كتاب هرطقي، يسعى إلى تشويه صورة رمز الهند ورمز النضال السلمي وبين من يرى أنه صورة رجل حلم بالسلام وناضل من أجله، بغض النظر عن ميوله الجنسية وحياته الشخصية، حتى بالنسبة إلى من اعتبر نظرته لسود جنوب افريقيا عنصرية ولا تغتفر لرجل بحجمه، يعود الكاتب ليؤكد أنها مجرد نظرة وصفية للوضع كما شهده· في كل الأحوال فإن الكتاب إضافة بخصوص إحدى الشخصيات التي أثّرت في التاريخ الإنساني ولن ينقص هذا الكشف شيئا في نضاله·