مهما تعددت أسباب وطرق الاحتجاج في العالم العربي، لكن الأفق المنشود يبقى واحدا، احتجاج من أجل التغيير من أجل قول خطاب آخر غير ما ألفناه من أجل البحث عن البدائل، من أجل إيصال صوتنا الذي طالما استكان للصمت للقائمين بزمام الأمور وإعلامهم بوجودنا الذين ربما نسوه أو تناسوه في زحمة انشغالاتهم، فالاحتجاج لغة عالمية وإن كانت الدول الديمقراطية المتحضرة قد أتقنتها وبدأت تتحدثها بطلاقة لخبرتها ومرانها الطويل في المسار الديمقراطي فإن الدول المتخلفة أو تخفيفا من حدة الإهانة الدول السائرة في طريق النمو ما زالت تتأرجح بين خط سلمي مهادن وهو نادر وخط عنيف آخر مضاد بشكل ينذر بالكارثة والكل على علم بموجة الاحتجاجات التي اكتسحت العديد من الدول العربية كتونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن وسورية، احتجاجات بدايتها سوسيو اقتصادية ثم تتحول إلى سوسيو سياسية تمس عمق الحياة المعيشية للمواطنين وتصرخ من أجل قوتهم اليومي وتناهض أشكال الغلاء الفاحش والمرتبط أساسا بتقلبات السوق العالمية هو احتجاج ضد البطالة ضد ارتفاع أسعار الوقود ضد الفساد السياسي ضد الفراغ السياسي والإداري وضد الفوارق الطبقية والتي ازدادت اتساعا في العديد من الدول العربية بشكل مهول ولا يبشر بخير، وإذا كان البعض يرى الاحتجاج في وطننا العربي بعين سلبية غير راضية عن وضع اجتماعي وسياسي واقتصادي متدهور، فإنني أراه أيضا شكلا من أشكال التحضير واتساع مساحة التعبير والحرية وخاصة إذا كان احتجاجا سلميا مرخصا قانونيا وتتم معالجته معالجة تتفادى ما أمكن المقارنة الأمنية، فالاحتجاج في حقيقته هو نوع من التفريغ السيكلوجي للغضب بشكل يمنحنا نوعا من توازن النفس وربما رأيي هذا قد يفرغ مغزى الاحتجاج من مغزاه الإيديولوجي ويمنحه بعدا نفسيا وهو ما لا يبتغيه أي مواطن عربي الذي يطمح في قرارة نفسه إلى أكثر من تنفيس عن تراكماته النفسية، حيث يطمح إلى التغيير وإلى حلول ناجعة لمشاكله مثلما يحدث في الدول المتقدمة فهذه الشعوب المتحضرة تمارس حقها في التظاهر السلمي الهادي الذي يكون أشبه باحتفال شعبي، لكنها في المقابل تلقى آذانا صاغية مثلما حدث في فرنسا في عام 2008 من احتجاجات ضد ارتفاع أسعار الوقود وضد نظام التقاعد، فالاحتجاج عندهم يرهب المسؤولين رغم صوته الخافت الهادئ، وقد تتحول الاحتجاجات إلى حزب سياسي يشارك في السلطة، لكن الاحتجاجات في وطننا العربي وإن رفعت عقيرتها بالصراخ وإن تكررت فقد غدت أشبه بطقس يومي مألوف لا يحرك أي ساكن بل يتم التغاضي عنه أوردعه بالعنف بشكل يدفع بعض المحتجين إلى ابتداع تقنيات أخرى أكثر فظاعة كإضرام النار في الجسد أو تناول المواد السامة ليتم إخراس صوت الاحتجاج إلى الأبد، والاحتجاج في وطننا العربي لا يمكن حصره فقط في تجمعات وتجمهرات وإضرابات واعتصامات، بل يتجلى في أشكال أخرى متباينة، كالشعر والغناء والمسرح، لأن الإبداع هو كذلك أحد أشكال الاحتجاج، فالمبدع لا يطمح سوى إلى هامش صغير للبوح والتعبير والاحتجاج ومساحة صغيرة بعيدا عن السلطة والمجتمع كي يبصر أحسن وينتقد أكثر، وقد تعددت أزماتنا العربية وتباينت وفي نفس الوقت تمظهرت احتجاجات الشارع العربي في ألوان شتى، أبدع وتفنن في صنعها المواطن العربي بحرقة وألم خاصين وصوت مبحوح طمعا في التغيير وإيجاد حلول لمشاكله الداخلية وللقضايا العربية العالقة، لكنها احتجاجات وإن علا صوتها لم تسعفه سوى في التنفيس عن غضب عرب مكبوت ومتراكم، لكن ما مصير مشاكله الداخلية المتراكمة؟ هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن ما من وقت يمضي إلا يزيد هذه الشعوب الثائرة تأكيدا عن الطابع الفوضوي الذي يسود دواليب التعددية الحزبية التي تعيش انكماشا في ميدان التنظيم والتحرك الاجتماعي والسياسي، خاصة ونحن نشهد ميلاد استراتيجية جديدة في التعامل السياسي مع الأوضاع الداخلية لهذه الشعوب الغاضبة بسبب التعميش لعقود زمنية طويلة وعريضة، مما قد يسمح بإعادة بناء النسيج الاجتماعي المتآكل بفعل الأزمات السياسية الخطيرة التي نالت من كاهل الأمة العربية لفترة طويلة، ومن ثم نستطيع أن نقول إن الاختلاف في الأفكار والمبادئ واقع يحكم طبيعة البشر، فإن تعدد الأراء وقبولها على الساحة العربية يعد أمرا حضاريا بالغ الأهمية يجب الاحتفاظ به ودفعه نحو الشارع العربي، وللأغلبية أن تختار ما تراه صالحا للمرحلة، وعليه فمن الواجب الاجتماع مع أي كان بشرط أن يكون على أساس قيم الخير والحرية، والواضح أن الكثير من المبادرات الاجتهادية التي جرت كانت عبارة عن لقاءات صالونية بين حكام العرب وشعوبهم لم تصل إلى درجة من النجاح بل أكثر من ذلك كانت في أغلبها تجري في ظروف غير ملائمة تماما، بيد أنه من الضروري بمكان إدراك الصعاب الحقيقية القائمة تجاه المحاولات للجمع بين مقتضيات التباين الفكري الحاصل على مستوى التطبيق الميداني للعملية السياسية، والواقع الذي لا مناص من تجاوزه هو أنه لا يتحقق المعنى الحقيقي للديمقراطية والتعددية السياسية على الوجه الصحيح إلا بوجود الضمانات القانونية الكفيلة بحمايتها من الانحرافات والتجاوزات، حتى وإن حال بعض السياسيين من أصحاب الصالونات إقناع أنفسهم وإقناع الأوساط الشعبية بأنهم لن يسكتوا عن الصدع بالحق في سبيل إرساء قواعد التغيير الديمقراطي السلمي في الحقيقة لم ينل حقه من الاحترام والتقدير، ومع هذا كله فإن الوضع المتأزم الذي تمر به الشعوب العربية اليوم هو كما في عديد من بلدان الجنوب محصلة لمسار طويل من التدهور الذي بدأ مع نهاية عهد الاستعمار، وهو مسار تفاقم بفعل النتائج السلبة لاقتصاد مختل ورثته هذه الشعوب عن الاستعمار غداة استقلالها· لقد أعقب انحسار سياسي شمل المرحلة التاريخية التي نهضت فيها صراعات التحرر القومية الظافرة بعد أن اختفى الاستعمار القديم في شكله العسكري حلت محله طرائق أخرى للاسترقاق ونسجت علاقات أخرى وابتكرت كلمات فضفاضة تضافرت جميعا على تأييد مصالح الأمس لأنانية وضيعة، لقد اكتسى نفس التفوق القديم قشور جديدة لامعة، كما أن الطواقم السياسية الحاكمة في بلدان الجنوب تغيرت هي الأخرى تبعا لهذا التحول، معظم هذه الطواقم الحاكمة في بلدان الجنوب جاءت الى السلطة بفضل وضع متدهور وعلى مر السنين فإنها ظلت مع ذلك موسومة بميسم ذلك التدهور الذي لا يحول ولا يزول، وفي نفس الوقت رافق ذلك إعادة صياغة المشهد السياسي في الجنوب بخطاب آت من الشمال له قوة القانون فيما يخص التنمية والانطلاق الاقتصادي والتعاون والتقدم وحذلقات أخرى فارغة أيضا، لقد هدانا الغرب إلى وصفات بديلة تناوب فيها الوعد والوعيد والنصح والتهديد·