إن العالم العربي أصبح اليوم عرضة للأطماع والاستحواذ على خيراته وعلى شعوبه، هذا العالم العملاق الذي لم يتجاوب خلال العقود الزمنية الخمسة السابقة حتى مع مشاريع دولية بما فيها المشاريع التي أصدرتها منظمة الأممالمتحدة كقرارات حول كثير من المسائل والمشاكل السياسية والاقتصادية حيث كان هناك تخوف دائم ورفض مطلق، فالعالم العربي كله كان وما زال عشا كبيرا للمنطلقات الايديولوجية الافتراضية حول الخصوصية والتقاليد والأعراف والقيم لدى الاتجاهات السياسية والدينية· هذا مع الدفاع عن الماضي باعتباره الكينونة والهوية وسياج العزلة أمام عالم يتقدم بالماديات التي تهدد بدحر الدين والدنيا في هذا العالم النائم حتى هذه اللحظات التاريخية أين أصبح ينادي نحن أولى بإصلاح أنفسنا من أن تصلحنا الولاياتالمتحدة أو أوروبا· نحن أولى بالإصلاح ولكن لم نفعل حتى الآن، هذا من جهة ومن جهة ثانية كيف نصلح أنفسنا؟ وماهي العوامل الداخلية التي تقود إلى الاصلاح في وقت لا زالت كثير من الأنظمة في عالمنا العربي أنظمة قديمة ومستبدة إلى درجة لا ترى فيها ديمقراطية ولا حرية ولا مؤسسات تعمل ولا دساتير تطبق ولا قانون يحكم بين الناس كما هو الحال في ليبيا الشقيقة، ويتم فيها تولي السلطة دون دستور أو انتخاب أو رأي عام أو أحزاب، وهي تتصرف باعتبار الوطن ملك لها والوظائف العليا إقطاعية وعائلية، هذا كله أدى إلى ميلاد فكرة الشرق الأوسط الكبير لدى الولاياتالمتحدةالامريكية، وهذا ما يجعلني أقول أن فكرة الشرق الأوسط الكبير التي بادرت بها الولاياتالمتحدة أمر كان يستحق التمعن والنظر منا نحن العرب باعتبارنا نمثل مجتمع التجربة الأمريكية المقترحة كما يستحقه من الدول الكبرى الصناعية، فمنها من له مصالح مؤثرة في المنطقة، ومنها من بذل كثير من الوقت والمال لتأهيل عشر دول أوروبية أقل تقدما لتنضم إلى منظومة الاتحاد الأوروبي بعد اجتيازها برنامجا للإصلاحات الهيكلية لتصبح بذلك شريكة في الاتحاد بعد أن سعت بمحض إرادتها وحر اختيارها وسبق اصرارها لنيل العضوية، فهل المبادرة الأمريكية تنطوي على شراكة أم على التأهيل لشراكة؟ وهل تنطوي تلك المبادرة على حفظ حق الشعوب في الاختيار أم أنها مبادرة تقوم على إنجاز رغبات أمريكية علينا دفع مستحقات تنفيذها طبقا لمواصفات وتوقيت أجنبيين؟ ومع أن هذا المشروع الاصلاحي الذي طرحته الولاياتالمتحدة على الدول الأوروبية فإن الدول الأوروبية لم توافق عليه تجنبا لاستئثار الولاياتالمتحدة بالمبادرة في الوطن العربي من جهة، ومن جهة ثانية لأن أوروبا تتطلع إلى دور أكثر تأثيرا هي كذلك، فاعتبرت هذ المبادرة استلابا لحق الشعوب في تقرير مصيرها، فمبادرة التغيير والاصلاح ليست سلعا تستورد وإن استوردت فلن تذهب بعيدا في إحداث الإصلاح بل يجب أن تخرج تلك المبادرة من رحم الحاجة المحلية لتنبع من إرادة الفرد لا أن تملى عليه باعتبار أن ذلك التدخل مبتلى بالعيب ذاته الذي يسعى إلى إصلاحه وهو اختزال خيارات المواطن العربي وفرض أحدها عليه، ومن هنا فإن مشروع الولاياتالمتحدة هذا يبقى يشكو من تخطئة المواطن العربي المبتلى بإملاءات وتجاوزات محلية مزمنة بإملاء جديد مستورد، ومن ناحية ثانية فالمشروع يقوم على فكرة محورية بغيضة وهي التدخل في مصائر الشعوب، وهذا ما يفرض على العرب أن يصبوا اهتماماتهم في مرحلة إطلاق المشاريع الاصلاحية المستوردة على تقويم المنطلقات والغايات وليس الآليات ومنطلقات الولاياتالمتحدة وغاياتها السياسية، في الأصل تقوم على تحقيق ميزة استراتيجية لها وهي تعمل على إيجاد آليات تمحي حرية الفرد لكنها لا تكترث كثيرا لتقييد حرية المجتمعات العربية وتطلعاتها إذ يبدو أنه على هذه المجتمعات العربية أن تحقق ذاتها ضمن إطار مقبول أمريكيا مع أن الشعوب العربية تبرر معاناتها لعقود طويلة برغبتها في تحقيق غايات عالية بالتخلص من الشعور بالهزيمة· كما أن الكل يدرك بأن هذه المبادرة تمثل ضميرا يتحرك ويسكن وفق مصالح سياسية والدليل هو هذا الاهتمام بالشأن المحلي العربي وتفاصيله إن لم يكن مدفوعا برغبة سياسية جامحة لجعل الوتد الامريكي مرتكزا إلى كل الخيم العربية· كما أنه ليس محل شك أن الأوضاع العربية بحاجة الى اصلاحات جذرية على الرغم من الاقرار بأن هناك مدارس فكرية ووجهات نظر تتفق وتتعارض في كيفية إصلاح البيت العربي غير أن هناك أسبابا تبرر الانحياز إلى خيار الاصلاح من دون تدخل أجنبي ويمكن القول أن الاصلاح الحقيقي للدول العربية يقوم على تحقيق الغايات من دون التفريط بحقوق الفرد وقيمته المحورية في مجتمعه، وهذا ما يتطلب من البلدان العربية بذل جهد خارق للخروج مما هي فيه من تردد إلا أن علينا كذلك بيان وتوضيح أن تدخل الغرب في وطننا لا يمكن أن يكون نابعا من أسباب تتعلق بمصالحه الذاتية ابتداء كما أن هناك من الدلائل ما يبرر القول بأن مصالح الطرفين لا يمكن أن تكون متماثلة ما دام الغرب يحرك سياساته وعواطفه الايديولوجية ليغير اسلامنا إلى شرق أوسطية، ومن ناحية أخرى يغيب عن وعي الغرب مرة تلو الأخرى أن الاصلاح النابع من داخل الأمة هو تجديد لها، أما الاصلاح الدخيل والمفروض على الأمة فهو اختلال وانتقاص وهذا ما يعني أنه ليس في عالمنا العربي من بوسعه الادعاء بأن العالم العربي يعيش حرية اقتصادية واجتماعية، وأن الشفافية والمحاسبة تقيدان التصرفات الشخصيات العامة وتحدان من الانفراد بالسلطة والثروة وليس في العالم العربي من بوسعه القول والزعم بأن عالمنا العربي يمارس بحق التعايش الإيجابي بل تكابد مجتمعاتنا التناحر بين نخبها والتفرد والاستئثار والاتهام، وعليه فليس في وسع أحد الزعم بأننا لم نمنح أطنانا من الفرص ليعتبرها الغرب صرخات استغاثة ودعوة له ليفك يد أحدنا من خناق أخيه، فإن كنا قد أرسلنا وما زلنا نرسل إلى الغرب إيحاءات وإشارات بوسعه امتطاؤها واتخاذها حجة ليتدخل وهذا ما يحدث في ليبيا الشقيقة، فمن المناسب أن نعي ما ترسمه تصرفاتنا من صورة وما تفضي به ممارساتنا في حق بعضنا البعض من انطباع، ومع هذا كله يمكن القول أنه لن تصلح الولاياتالمتحدة وأوروبا بمشروعيهما هذان عالمنا، فالولاياتالمتحدة تأتي لتأخذ لا لتعطي وتبذل، وأوروبا تأتي لتستعمر وتبسط نفوذها وسياستها ولغتها، وهذا ما يفرض علينا أن نراقب عن كثب ما تريده الولاياتالمتحدة من التدخل في الشؤون الداخلية لليبيا الشقيقة، وما تصبوا إليه وما تهدف اليه أوروبا كذلك في نفس المجال· ولهذا لا بد من إسقاط الأوراق الأمريكية والأوروبية بالإقرار بتردي أوضاعنا من جهة والعمل حثيثا لتحسين أداء الحكومات العربية بأن تلتزم ببرامج ترتبط بخطط زمنية يقوم عليها أشخاص وأجهزة يعملون بشفافية، وأن تخضع تلك الأجهزة للمحاسبة الصارمة عند إخفاقها في تحقيق النتائج المطلوبة ضمن الإطار الزمني المحدد انطلاقا من أن مصالح العالم العربي أكبر من مصالح الاشخاص، وهذا ما يفرض اليوم قبل الغد مبادرة عربية جادة للخروج من براثن ومستنقعات التخلف العلمي والاقتصادي والثقافي، وتدني الكفاءة، وتواضع الانتاجية، وتفشي الفقر، وتصاعد البطالة، وانتشار المرض، وسيادة المحسوبية، واستشراء الاسئثار بالفرص، وتعطيل المصالح العامة تحت وطأة مصالح الناقدين الخاصة، وحماية حرية الفرد، والاصرار على أن المواطنين سواسية أمام القانون، وهذه النظرة المتواضعة قد تكون منقذا لما تردى اليوم العالم العربي اليوم، وستحقق انفراجا داخليا وتقلص شبح التدخلات الأجنبية وتحد من القلاقل الداخلية، هذا مع دفع التكلفة طبعا في البداية مع إجراء تعديلات جذرية على هيكل الأولويات والمصالح، وهذا ما يساعد العالم العربي على انقاذ نفسه من ولوج الغرباء في أعماقه لاقتطاع قطعة من روحه أو أرضه أو موارده هذا من جهة، ومن جهة ثانية توفير شروط تساعد الدول العربية على مساعدة نفسها في تحقيق ذاتها في عصر المعلوماتية والمعرفة وتنافس الشعوب الحية لإضافة إلى سجل الحضارة الانسانية اختراعات وإبداعات وتقنيات ومزيد من الثروة والرغد، وهذا يجعلنا نصل في النهاية إلى أن الاصلاح في العالم العربي هو إصلاح مرتكز على مبادرة عربية ومتدرجة تمتلك برنامجا اجتماعيا واقتصاديا· هذا مع الاهتمام بالمواطن وصيانة حقوقه ثم الانطلاق في برنامج الاصلاح الذي يعني بالدرجة الأولى الحاجات الأساسية للمواطن كالعمل ومكافحة البطالة رغبة في تجنب آثارها الاجتماعية والاقتصادية المروعة للفرد والمجتمع والابتعاد عن الفقر والاقصاء وسوء توزيع الدخل، هذا أيضا مع تحفيز النمو الاقتصادي باعتباره ضرورة ملحة لاقتلاع ظاهرة النمو الاقتصادي المتدني وفق تكاملية منسجمة في الاستراتيجيات والسياسات وتنفيذ الخطط التنموية تنفيذا حذافيريا مع أهمية الشفافية والمحاسبة في تنفيذ الخطط وكبح انتشار الفقر ومحاربة البطالة وتأهيل الموارد البشرية وتعميق مشاركة القطاع الخاص مع المراقبة الصارمة لتنفيذ برامج التنمية وتعزيز الشفافية والمحاسبة·