تطرح مشكلة الحداثة، كما هي مستوعبة حاليا، عقبة أخرى أمام الالتزام، وتتمثل أولى المشكلات في المقروئية·· الالتزام والواقع: وعي الكتابة ومسألة الموقف يعتقد أغلب الكتاب أنهم محقّون، وقد يكون ذلك صحيحا، ويعتقد آخرون أنهم ملتزمون بقضايا أمّتهم، وقد يكون ذلك صحيحا أيضا· بيد أن ذلك قد لا يكون كذلك إلاّ على مستوى الوهم· ثمة أسئلة كثيرة تطرح على فعل الكتابة، وأهمّها مسألة الوعي والمعرفة والإدراك، وعلينا الإقرار بأن مئات العناوين المتداولة في سوق الكتاب بحاجة إلى معرفة نفسها، دون الحديث عن معرفة المجتمع الذي يبدو بعيدا عنها· أي أن هذه الكتب بحاجة إلى ثقافة لتشكيل وعي يؤهلها لاتخاذ موقف ملتزم بقضية ما، كيفما كانت هذه القضية، ملائكية أو شيطانية· ما يعني، بشكل ما، أن الفقر المعرفي، لا ينتج كتابة واعية بحقيقتها، قبل أن تعي جذور الحركة وتشكلاتها وسيرورتها· ومن المؤسف حقا، أن يتحدث هذا االأدب الصغيرب، إن نحن استعرنا تعبير فرانز كافكا، عن قضية تكبره فلسفيا واجتماعيا وسياسيا، أو عن التزام يفترض مؤهلات كثيرة، وليس جعجعة لفظية تتكئ على الخواء· لكن هذا النوع، الذي لا يشرف الأدب، متواتر بكثرة، إن لم يكن هو الذي يحمل لواء الالتزام، سواء في الوطن العربي أو في القارة الإفريقية قاطبة· ولأنه كذلك فقد ظل تأثيره محدودا، إن لم يكن في الدرجة الصفر، بدليل أنه لم يستطع خلال سنين، تشكيل نخب لها وزنها وسلطتها على المستوى القاري· إلتزام الأقلية، أو السباحة ضد التيار أثبتت حركية المجتمعات منذ سنين، أن الأدب في مجمله ظل مفصولا، إلى حد ما، عن المحيط الخارجي، وربما كان ينمو في الاتجاه المعاكس لنمو المجتمع ولطبيعته الحقيقية وخصائصه المركبة: النفسية والإناسية والدينية، إذ غالبا ما ظهر التزام بقضايا لا تعني الأغلبية، ومع أن ذلك أمر مشروع، بالعودة إلى القناعات المتباينة التي لها رغبتها في فرض رؤى مضادة بطرائق لا تتوافق ومنطق العامة، ومن ثم وقوعها في نوع من البدائل الاستبدادية، وهي، وإن كانت واعية باستراتيجياتها، إلا أنها لم تفرض نفسها بسبب ابتعادها عن المرجعيات المشتركة التي تشكلت خلال قرون، لذا بدت طارئة ومفاجئة وبلا هوية· لقد عاش هذا النوع من الالتزام بقضايا المجتمع ومشكلاته غربته الخاصة، وقد تكون رؤيته أحد أسباب عزلته، كما أسهمت طروحاته، الإيجابية منها والسلبية، من منظور القارئ، في جعله أداة للتعبير عن أقلية مختلفة عن العامة من حيث الثقافة والمتصور· يمكن على سبيل التمثيل، الإشارة إلى التزام الواقعية الاشتراكية، التي بدت في جزء منها، منافية للقيم المتواترة في البلاد العربية، وغير ذات صلة وثيقة بالذاكرة، كعلامات وكأيديولوجيا وكمرجعية مضادة كان هدفها الحلول محل بنى رسختها القرون· من المهم الإشارة إلى أن هذا الخيار كانت له تأثيراته الواضحة على مستوى الجامعة، لكنه بدا نشازا على مستويات أخرى، وخاصة في تعارضه مع الدين، ومحاربته له في جل خطاباته التي قدمت الإمام في هيئة شخصية ماكرة وكاريكاتورية لا تختلف عن شيطان بلحية ومسبحة، المعضلة التي لم يقع فيها الأدبان الأوروبي والأمريكي؛ الإخوة الأعداء لنيكوسكاز انتزاكي أنموذجا· وعلينا، والحال هذه، أن نتصور ردود أفعال الآخرين في مجتمع يتكئ على العقيدة كمجرى ومرسى· لقد كان هذا النوع من الأدب الذي يقف مع العمال والفلاحين بحاجة إلى حكمة أكبر ليكون مقبولا، لتتبناه مختلف الطبقات التي كان يريد أن يكون ممثلا لها، لذا كان فشله حتمية، أمرا متوقعا من بداياته الأولى التي سلخته عن المحيط وخصائصه، ومن ذلك أصالة الكتابة كمقوّم جوهري· الالتزام ومشكلة الحداثة تطرح مشكلة الحداثة، كما هي مستوعبة حاليا، عقبة أخرى أمام الالتزام، وتتمثل أولى المشكلات في المقروئية، إذ كان ما يبدو واضحا، بالنسبة للكاتب أو المسرحي أو الشاعر، بالنسبة للقارئ، مجموعة من الملفوظات المشفرة التي تفرض جهدا كبيرا لتفكيكها، وغالبا ما يتعذر عليه ذلك، أما إن استطاع فغالبا ما يجد نفسه غريبا في الأشكال وفي الحقول المعجمية والموضوعات والرؤى والدلالات·أي أن بعض الحداثة لا يعنيه، كما أن عددا من الرؤى يتنافى ومقوماته، ثمة أمر وجب توضيحه: من نخاطب وكيف؟ هاتان النقطتان المثيرتان بقيتا بعيدا عن المساءلة، ولاشك أن الأعمال الكلاسيكية كانت أكثر اتزانا عندما طرحت سؤال: من أنا؟ ولهذا كانت أكثر التزاما وتأثيرا، موازنة، أو مقارنة بالحداثات الجديدة التي ارتبطت بالأشكال الغيرية، أكثر من ارتباطها بالموروث والأنظمة الإبلاغية التي تسم الخطاب الأصيل الذي يولد في مجتمع مميز ويعبر عن هذا المجتمع المتميز·لم يسع غابريال غارسيا ماركيز أو إسماعيل قاداري أو لوكليزيو أو هرمان هيسه إلى استيراد حداثة لا تتوافق ومجتمعاتهم، انطلق ماكيز من محيطه ومن الأعراف والتقاليد وحكايا الجدات، ومن تجربته الخاصة التي شحذها مع الوقت لتصبح مستقلة عن المنتوج الغيري وذات فاعلية، كما فعل همنغواي في الشيخ والبحروفيكتور هيغو في البؤساء· تتمثل مشكلة حداثتنا في التزامها بالصيغ المستوردة والموضوعات والأفكار والتقاليد التي تتسرب إليها من ثقافة الآخر ونمط حياته، لذلك أصبحت عدة أعمال أدبية، عربية على الأقل، صورة عن الآخر، محاكاة له على عدة أصعدة، وبإمكاننا تقديم عشرات العناوين التي لا علاقة لها بجنسيتها، رغم أنها تعتقد أنها ملتزمة بما يسمى قضايا الجماهير، الجماهير كما تريدها هي، وليس كما هي· الإلتزام والاستباق من المسائل التي يمكن التفكير فيها بنباهة، مسألة العلاقة الحقيقية بين الكتابة والواقع، وبينها وبين الممكن أو الفوضى، لا يمكن التسليم بالعلاقة الإملائية التي تعكس الحقائق، كصيغ على مستوى التجليات الجملية، أو كقيم تختفي خلف ظاهر الخطاب· وهل تتمثل وظيفة الكاتب في النقل الواصف للأحداث والوقائع؟ ما أنجز من كتابات مليء بأخطاء استراتيجية مردها قلة الوعي، وقلة المعرفة والنباهة، وقلة التأصيل وكثرة الأدلجة التي شوّهت جزءا معتبرا من نصوصنا التي التزمت بطريقتها، دون أن تتوغل في البحث عن العلل، وإذا أخذنا الرواية الجزائرية التي كتبت في التسعينيات وما بعدها، كأنموذج، لاحظنا قصورها في إدراك جذور الأزمة، إضافة إلى انحيازها الفادح بدل قراءة الراهن بمدارك أكثر عمقا، وأكثر إلماما بطبيعة الخطابات والأحداث· إننا، إذ نشير إلى هذه الفجوة، لا ننفي وجود استثناءات واعية بالعلل والمعلولات ومسار المجتمع (الروايات الأخيرة للطاهر وطار عينة)، لكن مسألة الاستباق تظل مطروحة بحدة· يقول رولان بارث في حديثة عن علاقة الأدب بالمجتمع: ''لا يجب أن يكون الإبداع ذيلا لهب، والحال أن كثيرا من أدبنا تميز بحالة من التبعية المفرطة للقرار السياسي ولمجموعة من اللوبيهات، على اختلاف توجهاتها، أو انعكاسا للظرف، ما يعني أنه كان ملحقا بالجماعات والتكتلات والطارئ، الأمر الذي أسهم في التقليل من شأنه كأداة فكرية قادرة على السبق (كما فعل مكسيم غوركيفي رواية الأم وجورج أورويلفي رواية ,1984 وغيرهما كثيرون)· يبدو أن هذه التبعية، بوجوهها المختلفة، جعلت الواقع يسبق الأشكال المعبرة عنه، ما ميزها بالوصف والنقل لحركية المجتمع، دون أية مساهمة حقيقية في تفعيل الحراك: كما تعكس ذلك الأحداث الأخيرة التي شهدتها بعض البلدان العربية التي أظهرت أن الشارع أرقى من الأدب وأكثر قدرة على التغيير، أي أن التزام الشارع بقضاياه تجاوز التزام الأدب بنزعتيه التقليدية والحداثية ومختلف الأيديولوجيات والنزعات التي أسس عليها، وتلك حقيقة وجب التفكير فيها مليا· الإلتزام المضاد: لعبة المصالح أسهمت الأجهزة، في كل الأوقات، وبطريقة ذكية، في صناعة صدامات ما بين االالتزامات الأدبيةب لتستقل بالقرار، وبدا واضحا في عدة سياقات تاريخية أن الصراع انتقل إلى مستويات لسانية وإبداعية أغفلت واقع المجتمعات وطموحاتها· ولا نعتقد أن هذا الطرح يحتاج إلى تدليل كيما نثبت صحته، إذ يمكننا قراءة الروايات والقصص والمسرحيات والأشعار والمقالات النقدية والصحفية لنعرف حرب الالتزامات، المحلية منها والمستوردة، الأصيلة والمغشوشة، في حين ظل الشارع غير آبه بما يحدث في عالم المجردات، لقد كان يفكر في أمور أخرى، غير ما قاله ماركس ورامبو والغذاميوتودور وفوفوكوياما ومختلف الزعماء·لم ينتج هذا الصدام سوى صدامات من ورق وصراع أفكار وإقصاءات ونفيا مضادا ورؤى مقلوبة، وأما المجتمعات فلم تكن معنية كثيرا بذلك، وربما بدت لها تلك الخطابات المتصارعة مجرد لعب أو جنون أو خبل أو مرض يلازم أدباء تعساء يبحثون عن أجمل فكرة وأجمل صورة· الناس البؤساء لا يسكنون في الصور ولا يقتاتون بآراء هيغل في علم الجمال· الإلتزام والقراءة لا يمكن الحديث عن مؤثرات الالتزام الفرضي دون ربطه بالقراءة، لأنها تعد رهانا جوهريا بعد الكتابة، وترتبط القراءة بعدة قنوات مركبة، بداية بصناعة الكتاب، مرورا بالتوزيع والإشهار ومختلف السياسات المنتهجة لتسويقه وتدويله· وهذه معضلة أخرى تحتاج إلى إحصائيات لمعرفة عدد النسخ التي تطبع وعدد القراء، أما خارج هذا المعنى فإن الحديث عن الالتزام سيبقى مجرد نظريات· إن نسبة المقروئية، على المستوى الجامعي، لا تتعدى 1%، أما الكتاب فيطبع بمعدل 500 إلى 1000 نسخة في أغلب الأقطار العربية والإفريقية، وقد لا تباع النسخ إلا بعد سنين، ما يعني، رياضيا، إن نحن أخذنا بلدا من 36 مليون نسمة، أن مواطنا واحدا من 36000 يقتني العنوان، وفي حالة بقاء الكتاب في الرفوف لمدة ثلاث سنين، وهذا واقع، فإن مواطنا واحدا من أصل مئة ألف يهتم بالكتاب، دون الحديث عن القراءة والفهم والانطباع ورد الفعل· في حين أن أغنية الراي والراب تباع بملايين الأشرطة سنويا، ما يعكس قيمة الكتاب والتزامه في كثير من الدول التي لا يهمها الاستثمار في العقل، بغض النظر عما إذا كان الكتاب ملتزما بقضية أم لا· وربما كان هذا العامل أحد أسباب ابتعاد الكتاب عن الانخراط في مجتمعاتهم: ومن ثم تركيزهم على القيم الفنية وانتظار من يقرأ لهم مستقبلا، أو من يفهم خطاباتهم ويعلي من شأنها·