نقصد من وراء مصطلح الشخصية مدى قدرة السرد على تحقيق استقلاليته وترسيخها خارج ضغط القراءة والتفاعلات ومختلف التقاطعات أو التماسات الناتجة عن مفعول التناص ومكوّناته ·إن نقل لفظة أو بنية أو جملة سردية أو طريقة أسلوبية لا يخلو من فرضيات نقل المرجع برمته، مع ما يمكن أن يحمله المرجع من دلالات ذات صلة وثيقة ببنيات معرفية لها خصوصياتها وغائياتها· يبدو أن الترجمة أقرب إلى إدراك ملابسات المعاجم والأبنية والمرجع والدلالة بالنظر إلى حقول اشتغالها والمتاعب التي تواجهها، وهي أكثر وعيا بنظام الجملة وجزئياتها· ستقف الترجمة مندهشة وعاجزة أمام ألفاظ تبدو واضحة في تجلياتها، والحال أن كلمات من قبيل الله والفلق والرحمن والرحيم والأسد والليث والبرنس تجعلها حائرة في كيفية نقلها إلى لغة ثانية، وهو أمر قد لا ينتبه إليه السرد· كلمة الله لا تتكافأ مع الكلمة الفرنسية المتواترة حاليا، لأن الثانية قابلة للأفراد والجمع والتذكير والتأنيث، وقد ترد في الأسطورة والخرافة مشبعة بدلالات سياقية لها مسوغاتها، في حين أن الكلمة العربية لصيقة بالتوحيد، وهي تعني ما تعنيه في مرجعيتها واستثمارها· ليس من باب الترف الذهني أن تحافظ آخر ترجمة للقرآن الكريم على الكلمة كما وردت في النص القرآني، أو أن تضع بين أقواس كلمات أخرى قصد التنبيه إلى الترجمة التقريبية التي تجاور الدلالة، لكنها لا تتطابق معها· تشتغل الحقول المعجمية كشخصيات ذات هوية تنكشف في جذور اللغة وامتداداتها، وهي غاية في التعقيد إن رمنا تأصيلها أو البحث في لمية انزلاقاتها· الكتاب المطلعون على الفكر اللساني، على قلتهم، يدركون المخاطر التي تقوّض الدلالات، كما يدركون الفروقات القائمة بين ذهب وراح وولى، وبين الخلف والوراء، لذا يولون أهمية لمشكلات الدلالة ودقتها، وإذ يقتبسون من الكتابات الغيرية فإنما يفعلون ذلك بروية، لأنهم يعرفون قيمة هذه العوالم الصغرى التي تسمّى الكلمات· وفي الوقت الذي ينقب فيه هؤلاء في حفريات اللغة ومجازاتها، في إطار تقوية أصالة الإبداع، فإنما يعملون على ضبط المعنى لتفادي التخييل الحرفي بأدوات أخرى لا تفي بالغرض، وقد تسهم هذه الأدوات المستوردة في تغريب المؤلف وإبداعه على حد سواء· إن استيراد الشخصيات المرجعية كعلامات ممتلئة دلاليا، من شأنه فصل المنتوج عن فضائه الحقيقي· ليست التفضية عملية مجانية، خالية من بعدها الوظيفي، كما أن للأماكن مرجعياتها ودلالاتها، إنها خطابات غير لغوية حتى في جانبها الشكلي، ولا يمكن فصلها عن الشخصيات، لأنها مكوّن من مكوناتها المركبة، الصريحة منها والمضمرة· عادة ما يتألف النص من هذا التناغم الكلي بين عناصره، عن وعي أو عن غير وعي· هناك نسق بنائي يوجهه ويتحكم في الدلالة، وفي حالة الاستعانة بالشخصيات المرجعية، على سبيل التمثيل، فإن ذلك من شأنه إحالة المتلقي على فضاء آخر وثقافة أخرى يشترطان معرفتين، معرفة متنية وأخرى خارجة عن المتون، تاريخية أو سياسية أو أدبية أو أسطورية· عادة ما تتواتر في النصوص النثرية والشعرية العربية شخصيات كثيرة من نوع: روميو، جولييت، سبارتاكوس، هركل، عطيل، وأسماء لأماكن مرجعية لها تاريخها وهويتها، وإذا كان هذا التوظيف ضروريا في سياقات لأنه يقدم زادا للسرد والمعنى، فإنه يربك هوية السرد الذي لم يستنفد مخزون الموروث بعد، وقد لا يحيط به أو لا يعرف منه سوى ما ندر· ستغدو هجرة السرد إلى أوطان سردية أخرى ضربا من ضروب العماء الذي يسم كتابات كثيرة تدّعي نضوب المنابع، دون أن ترتادها، لذا يسهل على هذا النوع الانمحاء في السرود الأخرى على عدة أصعدة: المكانية والمعجمية والفكرية والمعنوية والاحالية· إن الاستعانة بالشخصيات المرجعية الغيرية التي تستمد حقيقة مخزونها من حلقات التجربة أمر ليس بعيدا عن المخاطرة، وهو بشكل ما إلغاء للخصوصية التي يتأسس عليها الفعل الإبداعي برمته· ما عدا إن كانت هذه المخاطرة واعية ووظيفية: أو أنها إحدى الاستراتيجيات الممكنة التي تسهم في تحصين الذات· والحال أن الفكرة الأخيرة، رغم إمكانية تجسيدها عينيا، ستبقى مجرد مراهنة تفرض علينا عبقرية خاصة ومؤهلات فنية ولسانية قادرة على توطين المرجع الجديد وتليينه بحيث يتأقلم مع الأصول، ولا يكون نشازا· ربما يعود ابتعاد بعض السرود العربية عن أصولها ناتجا عن الدلالات المكررة للمرجع· إن معاودة توظيف الشخصيات المرجعية للغرض نفسه قد تسهم في التقليل من شأن الدلالة وعنصر المباغتة الذي كثيرا ما ينبني على المفارقة· بيد أن الحل الأمثل للدلالات المكررة لا يمكن في التخلي عن العناصر القاعدية التي تؤلف المخيال، قد تكون المراجعة أهم، وهناك الحذف والقلب والإضافة وكيفيات الاستثمار، وهي كثيرة· حتى المرجع الغيري قابل للتكرار والتلف ما لم يلعب الخيال دوره في ترميم صدوعه وعلاقاته الفصلية بالسياق، لقد عملت الآداب الأوروبية على أقلمة الشخصيات الأسطورية وفق حاجاتها، وربما ذهبت أبعد من ذلك في تعاملها مع الكتاب المقدّس· إننا نعرف أن شخصية بجماليون، شخصية إغريقية نسجها الشعبي وتمّ تداولها بمتغيرات لها ارتباط بالسياقات، ثم انتقلت إلى الكتابة الأوروبية باستبدالات كثيرة فرضتها الحاجة وطبيعة المجتمعات، قبل أن تنتقل الحكاية ذاتها إلى المسرح العربي مع توفيق الحكيم· الشيء ذاته بالنسبة لأوديب الذي سافر عبر الأماكن والأزمنة، من أثينا إلى باريس إلى القاهرة، من الأزمنة السحيقة إلى القرن العشرين، لكنّه انتقل في أخيلة متباينة، وهكذا بالنسبة لشخصية بروميتيوس المقيّد· هناك في الموروث العربي الإسلامي متكأ للكتابة دون الحاجة المستمرة إلى تهجير النصوص إلى الموروث الغيري لتقويتها، وقد لا يتحقق ذلك أصلا بالنظر إلى خلفية الكاتب من وراء التغريب، هل هو حتمية أم موضة؟ إن القول بأن الإحالة المخصوصة لا تفي بالغرض أمر يحتاج إلى إثباتات موضوعية لا تستبدل المهجور بمستحدث يصعب قبوله في غياب الحجج المتعلقة بفعل التواصل وجمالياته واستعاراته وأسباب استبداله بأشكال إبلاغية أساسها النقل الإملائي لطرائق القول· فلا أعتقد أن نجاحات غابريال غرسيا ماركيز مردّها استثمار المرجعيات الأخرى في جانبها الآلي، لقد قام بعمل ضخم من أجل فهم محيطه وذاته، وكان ذلك أكبر نجاح حققه في حياته الأدبية· ليست الجدة ميمي أو وقائع موت معلن أو لا أحد يراسل العقيد أو مئة عام من العزلة سوى بحث ذكي في ما يمكن أن نعتبره موضوعات صغرى، بيد أنه شحذها انطلاقا من تجربته ومن معرفة السرد، وقد تكون الأسطورة إحدى هذه الطرق التي أعلت من قيمة نصوصه التي اخترقت الحدود اللغوية· عندما نقرأ كتابات أنطوان تشيكوف ومكسيم غوركي وبوشكين وألبير كامو وفرانز كافكا نشعر بأن هناك فرادة تعكس شيئا من العفوية في الحكي، دون سفر يذكر إلى صناعة نصية وفق معايير قسرية يتم استيرادها لتصبح قاعدة يتم الاحتكام إليها· الشخصيات المرجعية، كما الألفاظ، لها بيئاتها ومقوّماتها التي تتشكل تدريجيا لتصبح على ما هي عليه، كما المادة التي تنبني على التجميع ليكون كلّ جزء منها ضروريا لانسجامها، لمعناها في نهاية الأمر· الملاحظ أن إحلال مرجع في مكان آخر قد يأتي أقل قوة من سابقه لأنه لا يحمل الشحنة الدلالية الكافية لتجاوزه أو إلغائه، ومن ثم يغدو الفعل الاستبدالي مجرّد تنويع لا يحلّ مشكلة الدلالة· لسنا ندري إن كان استبدال جميل بثينة بروميو لشكسبير أمرا قادرا على إحداث تقوية كافية، أو كفيلا بسد الصدوع المعنوية التي تعيق قدرات السرد على الإحاطة بالموضوع· وهل يمكن أن يكون سباتركوس في ثورة العبيد أكثر دلالة من عنترة في سعيه لتحقيق الذات؟ ربّما تعلّقت المسألة بكيفية قراءة المرجع وتوظيفه، لا غير· الحكاية مؤهلة، من حيث أنها تخيّل، لأن تتموقع استنادا إلى رؤى أخرى مغايرة، أو لتأويلات ممكنة تعيد إنتاج معنى فرضيا قابلا للتأقلم لأنه أصيل، أو لأنه مستمد من حكاية أصلية، وقد أثبت الاشتغال على شخصية جحا مدى قدرة السرد على التنويع، دون تسفير النصوص، ودون استيراد شخصيات مفارقة للسياق، أو غير مقنعة، كما حدث في بعض الاقتباسات المسرحية التي تعمل على تهجير الهوية برمتها إلى موروث آخر· المفردات أيضا كائنات حيّة، وإذا كانت مجرّد أصوات أو حروف مثبتة على الورق فإنها تفقد جوهرها، سنأخذ الألفاظ في سياقاتها السردية والموضوعاتية، دون التوغّل في قضايا اللسانيات والصوتيات، في بعدهما الاحترافي· لا أدري إن كانت بعض الطروحات الحداثية تعي جيّدا ما تقوم به، أو ما تنادي به على المستوى النظري· ثمّة في بعض التصوّرات سفسفة حقيقية لقضايا شائكة تحتاج إلى إدراك وتمثّل وبصيرة، ولا يمكن تبديه مسائل لغوية وبلاغية دون سابق معرفة بكيانها· إننا نتناول قضايا الحداثة باستعلاء وجعجعة، أو ذاك ما يحدث مع الذين لا إلمام لهم ولا خبرة ولا بعد نظر ولا ملجأ من المفردات· تقول طروحات جديدة إن المفردات العربية لا تضمن حرية المعنى، أو أن الحرية أكبر من المعجم· قد يكون ذلك صحيحا لو أننا اختبرنا القدرات المعجمية على تنوّعها، لكننا لا نعرف من المعجم سوى جزء مجهري، وأغلبنا لا يعرف اللغة وفقهها، معرفتنا بالمعجم ضئيلة جدا حسب الإحصائيات، إضافة إلى تجاهل الوضع والاستثمار، أي الأصول والانزلاقات والممكنات الدلالية التي يوفرها المعجم، خارج الوضع، أو الجانب القاموسي القار· هل يمكن (للسكسفون) السكسية - الحلول محل الناي؟ ولأي غرض؟ الشيء ذاته بالنسبة للتنورة القصيرة في علاقتها بالفستان أو الملاءة، والمعطف القصير في علاقته بالبرنس والأوبرا في علاقتها بالرقصة التمثيلية المحلية بأنواعها· كان غوته قد أعلن منذ سنين عن ضرورة عولمة الأدب بإلغاء الجدران التي تقف عائقا أمام وحدته وتناغمه الكلّي، قبل أن يدرك مخاطر دعوته ويدعو مجدّدا إلى ضرورة تكريس المحلية من أجل الفرادة، ومن أجل إثراء الأدب بالتنوع المنتج للمعنى· من المهمّ معالجة مسألة استيراد الألفاظ والمعاني باحترافية مسؤولة، لأن أدلجة الكلمة وفق منظورات ظرفية تشتغل تحت وطأة ما هو غير أدبي، قد تلحق ضررا بأفق السرد، كما أن استقدام كلمات منتهية، مشبعة دلاليا قد يسهم بشكل من الأشكال في تهجير القارئ إلى علامات أخرى لا يحسّ بجدواها من حيث أنها تعبير عن الآخر، وليس عنه· ولأن هذا الآخر مختلف بحكم كيفيات تشكّله، فسيكون السرد المحلي، في هذه الحال، ملزما بإعادة تشكيل المتلقي على المقاس، ومن ثم تجريده من الإحالات التي شكلته ليصبح مشابها للآخر أو مماثلا له، أو جزءا منه على الأقل· ومن هذه الإحالات التي وجب طمسها العناصر المكانية وجزئياتها، حكايات الجدّات، وجوه الأمهات وفساتينهن وأوشحتهن، صوت المؤذن القادم من مسجد في الحارة العتيقة المطلة على النخيل، أو على الكثبان التي تحفظ تاريخ الإبل، مسبحة الجد وسجادته، يجب نسيان دفء صباح الخير وحرارة ''على السلامة''· لقد فهم الكاتب الجزائري مالك حداد ما معنى الإقامة في لغة غريبة عنه فتوقف عن الكتابة بالفرنسية· كان إحساسه بعنصر اللغة إحساسا استثنائيا لشاعر يعيش بالكلمات، وكانت ذائقته راقية، كما تعكس ذلك مختلف أشعاره ورواياته· من المفيد التذكير بمواقفه من الألفاظ في حدّ ذاتها، كان يحس بأن اللغة الأجنبية، رغم ثرائها، أقلّ من الشعور الذي له وسائله الأخرى، الأكثر إضاءة للموضوع والفكرة· كان هذا الكاتب يشكك في قدرة نقل كلمة الأم بلغة أخرى، إضافة إلى عيّنات أخرى ثبّتها بالعربية، وبالعامية أحيانا· أما مسألة تأثيث الخطاب العربي بقاموس وافد فيمكن أن يتسبب، مع الوقت، في ظهور نصّ هجين لا يتعرّف على نفسه، ولا على محيطه، ومردّ ذلك آنية المقابسة وسوء تقدير ما تعلّق بالمنقول وأثره، خاصة عندما يتأسس التحديث على الاستلاب، منظور إليه كبديل حتمي لا يستقيم الإبداع إلا في كنفه· الاستلاب اللغوي، في تعقيداته، هو شكل من أشكال إغراق السرد الأدبي في كيانات مختلفة، وليس تحديثا يحصّن شخصيته المستقلة، ولو نسبيا، عن شخصية السرود المستوردة من الآداب العالمية التي شحذت أدواتها التعبيرية بالبحث في الجوانب اللسانية والإنسانية وعلم النفس اللغوي وعلم الاجتماع اللغوي· الألفاظ ليست حيادية، كما أن ترجمتها ليست دائما حيادية، وقد ترتبط بخلفيات معرفية مركبة· بإمكاننا نقل صباح الخير بطريقة مغايرة، ومساء الخير أيضا، ولا يمكن الزعم بأن السلام عليكم مساوية لها، لأن هذه الأخيرة ظهرت في سياق له منطلقه، في حين أن الأولى عرفت منذ العصر الجاهلي، وللإثنين خصوصيتهما، ولا يمكننا الحديث عن الصلات التعالقية أو التلازمية بين المعنيين إلاّ في إطار تأثيلي واستعمالي يكشف عن الفوارق· تكشف المدّونة المعجمية للسرد عن نوع من الاحتفالية، وقد يراد من ورائها استصلاح الموروث السردي وتطعيمه بمزق تسهم في إقوائه بعد إقفار، وهو أمر قابل للجدال، بعيدا عن نوافل الحداثة كادعاء لا صلة له بالذات في حركيتها المنطقية· بإمكاننا أن نطرح سؤالا من هذا النوع: ماذا لو تمّ استصلاح السرد من الداخل، وبأدوات لسانية قادرة على توطين الوارد؟ ذاك ما فعله القدامى في تعاملهم مع المصطلح الدخيل، دون سابق أدلجة للمعرفة أو تشفيه لها· السؤال الثاني هو الآتي: لماذا يهرب السرد من الاستثمار في الموروث بلغة ملائمة، مؤهلة لامتصاص المعاني التي ينتجها المحيط الخارجي؟ لكن للسرد متاعب أخرى متعلقة بشقه اللغوي· يندر إيجاد أعمال إبداعية في علاقة ائتلافية بجزئيات المحيط، إن لم تكن اختلافية وصدامية، أو علاقة في الدرجة صفر· ولتوضيح الفكرة نسأل السرد عن مستويات معرفته بالأشجار والحيوانات والحشرات والأسماك وأثاث البيت وأنواع الطيور والزواحف· قد يبدو السؤال استعلائيا، بيد أن الجاحظ كان ملمّا بهذه العوالم المرافقة لنا، لأنها جزء منّا: النخلة والكثيب والغدير وشجرة الزيتون وأبو الحناء والدفلى والزعتر والشحرور والأرغل والبنفسج والكمثراة والبهار والبطريق والبجع والواحة والمنقعية والشتلة والدفّ والكركر والزغدة· لا أحد ينكر هذا الفقر المدقع الذي يسم سردنا، رغم توافر هذه المسميات أمام نوافذنا وفي ساحاتنا وحاراتنا وديارنا، وتوافر الأسماء في موروثنا اللغوي· الواقع أن السرد لا يقرأ كثيرا ولا يهتم بحاله، وبعضه منبهر بأشياء الآخرين ونواميسهم، هناك سرد آخر يعتقد أنه يؤسس انطلاقا من فكرة ''تفجير اللغة''، أي تشظيتها لإنتاج الدلالة المرغوب فيها، رغم ما لهذا الاستعمال من مسؤولية تفرض الإلمام بالشيء الذي يراد خرقه· تتطلب الأخلاق اللغوية والأدبية معرفة هذا الشيء قبل الحديث عن البدائل التي تحلّ محلّه وتلغيه، وهذه مشكلة أخرى يعاني منها السرد العربي الذي لا يؤمن بالامتداد والتكامل، أو بالمبدأ الحلقي، كما يحدث في الفهم الغربي للكتابة· معظم سردنا إقصائي، ينفي ولا يثبت بالتحيين العيني أسباب التجاوز والمحو· لا لغة المقامات مهمة ولا لغة كليلة ودمنة ولا لغة ابن رشد ولا لغة السيرة ولا لغة الموروث الديني ولا لغة البلاغيين· هذا النوع من القناعات ''الرياضية'' هو الذي أخّر تطوّر السرد، وكان عليه أن ينتظر قرونا، بدل الاستفادة من سابقيه، أقصد السرود المؤسسة التي تواترت في القصص القديم، على مشاربه وأنواعه· كان على السرد التفكير في إعادة تأهيل المعجم لغايات تداولية· وقبل ذلك، كان عليه الإحاطة بمؤهلات الموروث قبل إنكارها· لا يمكن رفض الشيء دون معرفته· إلا أن ما حدث للسرديات العربية لا يخلو من هذه المواقف· السرد الذي لا يعرف ذاته وبيته لا يمكن أن يكون تمثيليا باستيراد لواحق الآخرين وتصدير القارئ· هناك جزء من سردنا يقوم بوظيفة نفي المتلقي إلى المحتشدات النصية التي لا تتوافق وذائقته، لهذا يجد نفسه غريبا ومبعدا، وهذا الإحساس بالضياع هو الذي يدفعه إلى رفض الحداثة برمتها، رغم أنها ضرورية عندما تشتغل في أطر عقلانية مقنعة· لم نقصد من وراء هذا الطرح السريع، بطبيعة الحال، تطهير السرد من الآثار الغيرية، لأن ذلك سيؤدي إلى عزله، وإلى دخوله في رتابة تتلف قدراته التعبيرية والجمالية· إنما نهدف إلى مراجعة بعض التصورات الآنية، ومنها على سبيل المثال قضية المستويات اللغوية التي عالجها الناقد ميخائيل باختين وتم استقبالها بنوع من الاستخفاف، وبكثير من الأدلجة في كثير من الكتابات العربية الجديدة·