تشتغل دلال البزري على الموضوعة القاهرية بكثافة لا ينقطع عنها الإعجاب والدهشة، فعلا، فإن الكاتبة اللبنانية تداخل في الشأن المصري، القاهري بحذاقة ذهن، وخصوبة تخيل لا يعوزهما شيء تتصاحبان مع المعايشة والرصد والإكزوتيكا الشرقية، إكزوتيكا غير استشراقية ولا منسحبة نحو عقاقير الهلوسة، ولا نافخة هواء ناشف، أتى الخالق البارئ دلال طول النفس والرهافة والالتصاق، جهاز سكانير حقيقي يتجول، يحدق، يتحملق، يمعن وينعم ويديم، فلا يجد الجهاز السراب والأشباح والخيالات، الفوبيات الواهمة والتوهيمات التي حاول يوما الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب إلصاقها بأجواء القاهرة دونما تثبّت وتحقق، وهو يناظر الناشط الميديائي الشهير طارق رمضان· إن الكاتبة السيكولوجية دلال البزري كتبت مصر كما هي الآن، المحروسة الفاطمية الكسولة الضجرة التي تتمطى وتتمارى وتلعب بمصيرها الذي ما عاد يشعّ ويأتلف، تخفت مصر القاهرية في نقابها السياسي الأسود، في اجتماعيات رثة وصفيح ساخن، في القومية العربية المدبلجة بصوت عمرو خالد وخالد الجندي ومصطفى حجازي، في السياسي والثقافي والمجتمعي تتقافز إلى البال تجليات كبيرة وعبر ملحوظات لتقوم وهي اللبنانية التي تتمثل الحاضر المصري بتدوينها في كناشها، كراسة صغيرة فيها الحذق والتخيل وهما عندها المصب، الرؤيا والإشراق والتبصر، كراسة صغيرة متدربة مواظبة صبورة لمّاحة تحصي التفاصيل، تحصي الهموم، تحصي القضايا وهي لا تنسى تطور الرؤية، تكبر وتصغر في حجم الزوم مذ كتاباتها الأولى ''غرامشي في الديوانية''، ''أخوات الظل واليقين''، ''السياسة أقوى من الحداثة''، ''مصر ضد مصر'' ثم ''مصر التي في خاطري''· ينبغي تصديق مقولات البرزي في المصرولوجيا، في فن قراءة مصر من الداخل، في كيف ترضع حليب مصر دون أن تعضك، إنها تأتي متمترسة بين البرزخين، ليست دلال عبد الوهاب المؤدب إذا هو يمنحها من رقم البشاعة عشرة على عشرة وليست هي إدوارد سعيد الهائم بقاهرته الخاصة، القاهرة الأرستقراطية بجامعتها الأمريكية، بنادي الجزيرة -السنوب- وكبرائه بخواجاته البيضْ السحْنات، قاهرة دلال البزري ليست هي قاهرة الحنين، قاهرة الشرق الإستيهامي، قاهرة نجيب محفوظ ويوميات الفيشاوي والشراب الهنيئ في غروبي وريش ومقاه ذاك الزمن الآفل، القاهرة البرزية موصوفة، معاشة، مخنوقة في سوادها وفي قتامتها، تموء كقطة حبلى بالثورة، تترجّع الصدى الناصري، الساداتي فكأن اللحظة هي المرجع والخلفية ونقطة الارتكاز، عمل سوسيولوجي فريد في نسجه ولغته المروية وشفاهيته التدوينية كما تسجيليته وتوثيقاته، فكر سوسيولوجي مقتدر في الصياغات والتوليفات، لحظي، اختلاسي، فرجوي، متعوي لا تتصل المعرفة فيه عن اللواحق الأدبية والبلاغة الشرسة، كتابها ''مصر التي في خاطري'' يا للجمالية التي فيه، كل لفظه بمقدار، كل كلمة، همسة، لمسة بمقدار عند دلال دقة كبيرة وعين لا هي ثالثة ولا رابعة ولا خامسة، عين باباراتزية تلاحق شوارد ونثارات حطام يتجاوز الحقبة الجميلة التي تهاوت بتهاوي شيلي شميل وفرح أنطوان ورفيق جبور ونهضويتهم، إذ منذ الأزل الغابر -كما يحلل حازم صاغية- كان اللبنانيون يتحلقون بالقاهرة ويرقصون حولها رقصها الشرقي مجازا ومعرفة، عبارة ونحتا، نغما ولحنا، مؤسسة تكنوقراطية وجامعة عرفان وبرهان، ذاك ما كان وما سيكون لناظره غدا حدث غير، ناشر، متمايز، متجاوز للحقبة القاهرية المسبوكة ذهبا وابريزا وخالص معدن، الحقبة التي ترمّلت وأذنت لنفسها بالكسوف هي حقبة دلال البرزي رابعتهم، زائرة ومقيمة ومستشرقة من بعد استغراب وانذهال ''فهنا الوردة ولنرقص هنا، حيث العقل يتحطم في ما يتضاعف بؤس المرأة وينهار التعليم ويعم الحكم بالفتوى التي تفوق قمعها وظلاميتها قمع السلطة السياسية وظلاميتها'' تماما هكذا علّق زميلها في البحث والأسلوب حازم صاغيه ''مصر التي في خاطري'' ورق صقيل ومكتوب مبحر في نقد العقل المصري كما الوجدان العروبي، فكأنه يقول الوقت حان، انقضى كي يزعم الواحد فينا إمكانات ''تمصير باقي العرب'' وهو معطوف على إهداء ملفت لشهداء ثورة يناير 25 منبئ بمزاج ما بعد الثورة وقبل ذلك إرهاصاتها، بواعثها باقياتها الصالحات من بعدئذ· والحق هي دلال لا تفتأ في ترداد لكنتها اللبنانية وهي تحاور المصريين في كل مكان، في المعابر والكوبريهات، في المقاهي وزوايا شرب الشيشة، في الردهات والمستوصفات في الوجوه سيمائها ''عشت في مصر بين آب 1999 وآب 2009 م، عشر سنوات كانت مصر تمثل لي كتابا جديدا أقرأه يوميا في كل فاصلة من فواصل وقتي، كتاب من ورق الكتب والصحف، كتاب من وجوه الناس وشوارعهم، من الصور والشاشة، كنت أكتشف مئة مرة في اليوم أنني وجدت بغفلة من القدر، أمام حقل لا يتوقف عن إثارة فضولي وأسئلتي وحثي على المقاربة الدؤوبة···''· مقدمة لابد منها وإن طال السفر في الثنايا وبين الحنايا، السفر الوعثاء، الضنى والفؤاد المكدود، القلب الميت كمدا على مصر الذاهبة إلى شمعتها الأخيرة احتاجت فعلا كيما تفتح كتابها وتراجع غرامياتها الطوال في النهضة، التنوير، التقدمية، مدينة العلوم، مكتبة الإسكندرية، المجلس الأعلى للثقافة، المعهد القومي للترجمة، وزارة فاروق حسني الفنان النحات وأكاذيبه، الإعلام والترسانة الفضائية المرعبة، أحلام نجيب محفوظ وأحلام أحمد زويل وأحلام سعد الدين إبراهيم، عبر المشاهدة والمعاينة والتجريب والانزياح نحو مجال تداولي آخر يتعلق بالأنثروبولوجيا وبالسيمياء أحبت عالمة الإجتماع هذه أن تقول إن مصر أقل من العبارة، أضعف من السيماء وأوهن بيتا من بيت العنكبوت، حصاد التجربة المرّ متواتر خلال عشرية -دلال- عشرية كالحة، مبحوحة، خافتة وليست بها تحولات أبلغ وأمتن وأحكم، إنها الكلمات كقطع البزل وإنها العناوين واللاّ دالة وإنها الصور تتراءى على مقربة بعيدة يحسبها الظمآن ماء فإذا جاءها لم يجدها شيئا ووجد الله عنده· الله في قاهرة مصر تجده في كل مسلك ورواق وتقاطع بالجيئة والرواح، بالغدو والآصال بالمفرق وبالمجمع، ليس خاصة التيارات الإسلاموية فقط بل الإنحدار العلماني يؤالف الديني في نسقة، يرتكز على دعواه ضمن ما يعرف على أرض الكنانة بفقه المراجعات، مراجعات العلمانيين، مقالات الإسلاميين، مراجعات الجهاديين، مراجعات الفنانات التائبات·· ''كانت بلاد سعيدة يقولون وذات كبريات وجمال ونظافة وأخلاق، شفافية ودفء وورع من دون فتاوى ولا دعاة ولا وعاظ يحتلون صدارة التثقيف الجماهيري، والآن أنظر·· اللائحة السوداء···''، ''سيمياء البشاعة بادية حيثما تولي الظهر وتيمم الوجه شطر المباني، شطر المساجد، النصب، المتاحف البشاعة تمتد وتميد فتلحظها البزري بالعين الرابعة، النيل يسكنه أناس في قوارب، يولد بداخلها أطفال يكونون عائلة بعينها الذين يتنزهون على أطرافه أو يضعون الكراسي على جسوره لالتقاط النسمات القبور ناحية المقطم مسكونة، هنا وعلى مسافة شبر من بيت الريس·· وهات من كل روضة مسكة يد ووردة ذابلة وخيط دخان طائر، العشوائيات تأكل حياة المصري تلوثه تمضغه وترميه وهولا يتغير، إن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها باطل لكن المصري يخوض، يتنحنح، يتسلطن، ويدلي بالدّلوْ ضمن مشهديه، رتيبة وتيدة في مشيها حدا الترجل، السمنة المرضية''، ''المصريون أصحاب وتيرة سينمائية بطيئة في كل شيء تقريبا، العمل، التنقل، الأجندات، التفاعلات، الإجراءات···''، ''شخصية المصري هي شخصية سينمائية بامتياز، فحتى الغلابة على مطمح من بلوغ شآو البكوات والبهوات يتقنون البكاء العويل، طلب النجدة لتأتي المداورة، التحبب والتلاعب بالشعور وبمعسول الكلام، مصر صورة عند الاجتماعية اللبنانية، ومصر نقاب وحصانة ودعوة خير ودعوة سلف وسلف صالح ودعوة إخوانيات، النقاب السياسي ليس بالضرورة هو النقاب العقائدي - ينفي وجوبيته الشيخ عبد الحليم أبو شقه في مصنّفة الرائع ''تحرير المرأة في عصر الرسالة''؟ لكن التنقب المنفعي استفحل واستشرى مما لا يمكن فهم ظاهرته بالتعريج السّريع، وقد حاولت البزري تتبع قصته من طق طق إلى السلام عليكم، ارتداؤه ونزعه حسب إرادة الشيخ أو صاحب المال المزواج، أو الوسيط السائر في طريق الفاحشة أو الجاسوس المباركي لاستخبار شؤون الجماعات الإسلامية وفي أدنى الوسْع للتسامح معه لتفادي التحرش الجنسي الذي يعرف نموا مضطردا في قاهرة الهنا، ويسْري التحليل سيان بالنسبة إلى الحجاب في أشكاله وموضاته في طبائع وسلوكيات لابساته وقناعتهن كي تخلص بعدم ربطه بالغرامشوية والعضوات في النادي الإسلامي الإخواني أو السلفي أو الإسلامي المعتدل، فلا صلة للحجاب والفولار بالنسوية الإسلامية وشعاراتها، بين الفصلين من الكتاب وما ارتبط مع الفصلين من موضوع الحب والرغبة والمثلية يبهت الواحدة لجدلية العلاقة بين الذكور والإناث كون العلاقة غير صحية، فيها الهياج الصوري والسعار المتلفز المبثوث دائما في المسلسلات، فيما لا تسامح ولا تراحم بائن في علاقات الجنسين الواشيتين بخواء روحي مدقع وليس في ذلك إلا محاولة القبض على الوهم السينمائي الزائف الذي قد يكون غرسه نور الشريف وبوسي في المتخيل والفانتازيا مقالات البزري معقودة، متصلة، عروتها الوثقى لا إنفصام بين عناصرها، المكان الزمان الطريقة وعن المثقفين كوجهاء بوهيميين تكتب دلال عن الكتابة المتسلقة والنسق الفوضوي والرومنطيقية المغلفة المدعية محاربة التشدد الديني أو في الضفة الأخرى محاربة الغلواء العلماني·· هل تملك مصر، اليوم، مصر ما بعد الثورة، مشروعا ثقافيا··''!''؟ هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته