خسرت الأحزاب العلمانية واليسارية في أكثر من بلد عربي انتخابات غلب عليها طابع النزاهة بنسب متفاوتة· ومن السابق لأوانه الحسم في الملف المصري، ولكن العلامات تشير إلى نجاح مرتقب للتوجهات الدينية في العمل السياسي· وعلى الرغم من الفارق الكبير بين النظامين الانتخابيين المصري والتونسي، وكذلك الفارق الأكبر بين مجريات العملية الانتخابية بين البلدين، ولكن النتيجة تبقى متشابهة كما في المغرب· ومن المهم التنبيه، الذي لا يضر التذكير به مراراً وتكراراً، على الاختلافات البنيوية في الحركات السياسية الإسلامية بين البلدان الثلاث· يمكن للتونسيين أن يعتبروا أن ما جرى هو انتصار لتيار إسلامي وسطي ينأى بنفسه عن التطرّف وعن الأحزاب المتطرفة في حديقته الخلفية كما السلفيين وحزب التحرير· وفي هذا الإطار، فإن زعماء حركة النهضة مطالبون من قواعدهم قبل أن تتم مطالبتهم ممن يعادونهم فكراً، على أن يميّزوا أنفسهم بحق عن هذه التيارات ويبعدوا عن نفسهم شبهة، تتعزز بمقتضى بعض الأحداث، حول نوع من توزيع الأدوار والاستفادة السياسوية من خطاب متطرف لكي تُرفع عصى الطاعة أمام من يهاجم سياساتها· أما الأخوان المصريون، فهم ليسوا في ذات موقع الوسطية التونسي، أو على الأقل، ليست قياداتهم التقليدية في هذا المكان· وهم قادرون، وربما راغبون، في عقد تحالفات على مستويات معينة مع الأحزاب السلفية المصرية· هذه الأحزاب التي ما فتئت تنأى بنفسها عن العمل السياسي، أو هكذا ادعت، والتي تعتبر بأن الانتخاب هو نوع من ممارسة الديمقراطية، وبالتالي، فهو نوع من المنكر، حيث أن الديمقراطية بدعة غربية كافرة بعيدة عن مفهوم الشورى الديني، هذه الأحزاب إذا، انخرطت في العملية الانتخابية بهدف التأثير في مسار متحرك لا قدرة لها على وقفه وإنما هي قادرة فقط على إبطائه أو تعديل اتجاهه· وهذه الأحزاب التي يمكن أن يقال عنها، وبلا أي تجني، بأنها تطور خطاباً ظلامياً متخلفاً يرفضه العقل الديني الواعي قبل أن تلفظه الأفكار العلمانية، تعتبر ظاهرة قروسطوية يُعاد إحياءها في أرضٍ خصبة من الخيبات ومختلف أنواع الفشل للمشاريع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي مرت بها· وفي الحالة المغربية، فقد تمكنت رموز العدالة والتنمية أن تتحالف مع قوى يسارية مغربية يغلب عليها الاعتدال الإيديولوجي، وبأن تطرح نفسها كقوة سياسية وطنية متصالحة مع الحداثة وقابلة للعب دور جامع بعيداً عن مختلف أنواع الإقصاء الذي عرفته حق المعرفة طوال سنوات· وهنا أيضاً، يبدو أن التيارات الظلامية بعيدة عن الاستقطاب السياسي للحزب الفائز في الانتخابات لكونه قد بنى وعياً سياسياً قائما على اللحمة الوطنية دون الحاجة إلى الدعم الدوغمائي من قبل من هم على أقصى يمينه· من الجهة الليبية، لم تعرف البلاد الخارجة من أتون الحرب التحريرية ضد المستبد بعد العملية الانتخابية، ولا يعتقد المراقب من أي اتجاه أتى بأن النتائج ستكون شديدة الاختلاف عن جاراتها· وبالتالي، يجب التوقف عن رفع الحواجب اندهاشاً في كل مرة نسمع خلالها بأن الإسلام السياسي قد احتل المشهد في صفوفه الأولى· فالغربيون، وعلى الرغم من عبورهم لنفق طويل امتد لسنوات من عدم الرغبة في فهم المصائر التي آلت إليها المجتمعات العربية تحت الديكتاتوريات على مختلف أشكالها، استطاعوا أن يبدأوا في دخول مرحلة فهم الديناميكية الجديدة في المنطقة وأن يقبلوا، ولو على مضض، صعود التيارات الإسلامية غير المتطرفة إلى سدة الحكم في عديد من الدول العربية· أما بعض العلمانيين العرب، فهم يقاومون مجرد الفكرة وينأون بنفسهم عن النظر في الواقع وفيما جرى حقيقة· ولا يريدون في أي حال من الأحوال أن ينظروا إلى ما ''اقترفته'' كتاباتهم ومواقفهم (أو لا مواقفهم) طوال عقود في وجه الدكتاتور وزبانيته· ولهذا، أسباب عدة لا يمكن إدراجها في عجالة، ولكنها تستند أساساً على عوامل عدة بعضها: الدور السلبي التي لعبته بعض النخب العلمانية في دعم ديكتاتوريات دموية في محاولة فاشلة لترشيد مسارها من جهة، ولمنع الإسلام السياسي من البروز، من جهة أخرى· الهجوم المستمر على القوى الدينية عن حق أحياناً من خلال ممارسة الدور النقدي للمثقف العضوي الذي يجب أن لا يساوم في أي من مبادئ المنطق والعقلانية والديمقراطية والمواطنة، وعن غير حق من جهة أخرى بالاستناد إلى محاكم نوايا ورفض عضوي للفكر السياسي الديني أو الديني السياسي، مما أدى إلى تدعيم لغة الضحية لدى هذه التيارات وحيازها على شعبية، أو شعبوية، أوسع· الذهاب بعيداً في تطوير خطاب العقلانية الواعي والعلماني باللجوء إلى المفاهيم المعقدة والنخبوية والابتعاد تماماً عن المطالب الحقيقة للعامة التي وجدت نفسها مهمشة في هذا الجو عالي المستوى الذي أقصاها تماماً عن همومه واهتماماته· عدم وجود برامج سياسية واضحة لقوى العلمانية، عدا الأحزاب الشمولية التي استغلت مفهوم العلمانية لتمارس ظلامية سياسية وإيديولوجية أشد وطئا من سلفيي التيارات الإسلامية بالاستناد إلى دين جديد مرتبط بالزعيم أو بالحزب القائد· الاستمرار، وعلى مستوى واسع، في رفض الحوار مع الآخر أو في الابتعاد عن البحث المشترك عن القواسم المشتركة مع الآخر· وفي هذا، يتقاسم الطرفان المسؤولية بنسب متفاوتة· وبعد الانتصار الجزئي والمرحلي للقوى الإسلامية، تخطئ القوى العلمانية في الانخراط في سياسة النعامة أو لوم الآخر· إنها أولاً وأخيراً الملامة على خسارتها السياسية النسبية· وعليها أن تراجع سياساتها وممارساتها، وأن تبدأ بالبحث عن العيوب فيما اقترفته وأن تعزز نقاط قوتها من خلال مختلف الأنشطة المتاحة في ظل الديمقراطيات النسبية الوليدة· عليها أن تكفّ عن لعب دور الضحية والبكاء على الأطلال واتهام الآخر بما فيه وبما ليس فيه· المرحلة القادمة صعبة على الجميع وتحتاج لجهود الجميع في إخراج مجتمعاتهم، ليس فقط من ظلامية بعض الفكر الديني ولكن من ظلامية كل فكر الاستبداد الذي دام طويلاً · فالهجوم على الآخر، مهما كان هذا الآخر، ليس دائما أفضل وسيلة للدفاع عن الأخطاء، فالسياسة ليست دائما لعبة كرة قدم، ربما·