·· الحداثة لها علاقة وطيدة بالخالد والعارض، لذا قد تصبح الإبداعات الاستهلاكية في العارض، في حين أن الأعمال الخالدة قد تأتي في خانة الخالد، ومن ثم تغدو حداثية، يصرف النظر عن تاريخ كتابتها، سواء كانت قديمة أو معاصرة، لأن حداثيتها تقترن بثنائية الشاعري والخالد، ليس إلا·· من المهم، أكاديميا ومفهوميا، إعادة النظر في مسألة الحداثة، كما هي متواترة حاليا في الدّرس النقدي وفي المقالات غير المؤسسة معرفيا، دون التوغل كثيرا في رؤيتها الهشّة التي أخذت الأمور من خواتمها. لم تظهر الحداثة في الغرب، التي استنسخناها لاحقا، إلاّ مقترنة بمسببات تاريخية ومعرفية ودينية وفلسفية، بدليل أنها ارتبطت في جوهرها، بمحاولة تجاوز طروحات الكنيسة وتقويضها. تعبّر هذه الكلمة، في أصولها، عن التوجه الجديد في الفكر الكاثوليكي الذي كان يسعى إلى إعادة قراءة تعاليم الكنيسة وتأويلها لأسباب كثيرة، وكان يطلق على هذا المنحى الجديد مصطلح التجديدية. وهناك علل لظهور التجديدية هذه التي لم تقترن بالأدب في بداياتها الأولى، لكنها كانت مبنية على قراءات وقناعات أصيلة. أما إذا عزلنا الكلمة عن الموروث الديني، فإننا نعثر لها على مفهوم عند قسطنطين كايزل، وتعني بالنسبة إليه، طابع الجدّة في الحقول الفنية، لكنّه يضع مجموعة من الضوابط، كما ورد باختصار في قاموس لوروبير: ''إنّ الأمر يتعلّق بالنسبة إليه باستخراج من الصيغة ما هو شاعري في التاريخي، بالتمييز ما بين الخالد والطارئ''. علينا أن نأخذ في الحسبان ذلك، هناك الشاعري والتاريخي، وهناك الخالد والطارئ، وهي مسائل جوهرية في الفعل الإبداعي برمّته. لكنّ ذلك ليس جديدا. لقد سعت الأعمال الكلاسيكية المثيرة إلى تحقيق الديمومة، دون كتابات تولستوي وبوشكين وآيتماتوف وبالزاك وراسبوتين ومايا كوفسكي، وفي الكتابات الشعرية والنثرية العربية، من العصر الجاهلي إلى الآن، بل إن عدّة نصوص قديمة فهمت المراهنة، الشيء الذي لم تدركه بعض الكتابات الجديدة، والأمثلة لا تعدّ. سنستنتج، دون أي عناء، إن نحن رجعنا إلى التعريف السابق، بأن الحداثة لها علاقة وطيدة بالخالد والعارض، لذا قد تصبح الإبداعات الاستهلاكية في العارض، في حين أن الأعمال الخالدة قد تأتي في خانة الخالد، ومن ثم تغدو حداثية، يصرف النظر عن تاريخ كتابتها، سواء كانت قديمة أو معاصرة، لأن حداثيتها تقترن بثنائية الشاعري والخالد، ليس إلا. أما الإنجليز فقد ربطوا الحداثة بالأسلوب مؤسسين على طبيعة الفن القوطي المعروف بالمنحنيات الطبيعية المستوحاة من نباتات البلد. وقد ظهرت الكلمة مع مطلع القرن العشرين، دون أية جعجعة لفظية مفرغة من زاد الأصول والاستثمارات العارفة، كما حصل في ثقافتنا الجديدة. وإذا عدنا إلى أصول المصطلح وجدناها في المعجم اللاتيني الذي أخذت منه الكلمة الفرنسية لاحقا. ويقصد به تحديدا ما له قوة تعبيرية مميزة، تعارض به القديم في أطر عارفة، وتدخل في هذا الإطار عدة فنون لغوية وغير لغوية: الفنون التكعيبية والدادائية والجماليات البنائية التي ظهرت في العشرينيات لتحل محل النحت التقليدي، إضافة إلى اللغة المسلسلة التي تعتمد نظام الإثني عشر صوتا، كما أشرنا إلى ذلك في كتاب الترجمة والمصطلح. وإذا عدنا إلى التاريخ، فيمكن ربط الحداثة الأوروبية بحقبة مميزة. لقد استغرق الصراع بين القدامى المحدثين قرابة نصف قرن من الجدل، حدث ذلك في نهاية القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر، ومردّه رغبة الفرنسيين والإنجليز في نشر وعي جديد والعمل بالنهوض بالآداب المحلية (نؤكد جيدا على هذه الفكرة) بدل الاستمرار في محاكاة الأدبين اللاتيني واليوناني اللذين فرضا معياريات كثيرة أرهقت الإبداع وحريته. وقد تسببت القواعد الثابتة في حبس العبقرية الفردية، وكان الناقد بوالو أحد هؤلاء الذين فرضوا ضوابط مثبطة (كما سيحصل مع جدانوف في الإتحاد السوفياتي). غير أن الرؤية المضادة، في أصلها، قد تعود إلى دي ماري دي سان سورلان الذي انتقد، قبل هؤلاء، الملاحم اليونانية والرومانية بسبب حمولتها الوثنية التي لا تنسجم وتوجهات العصر، وقد مدح معاصريه الذين ''يتمتّعون بنور الحضارة والمسيحية''. والحال أن الحداثة كانت محصورة في منطق حضاري وديني، أي أنها قامت على قناعات غير أدبية، وكان قوامها النزاع الديني الذي خلق صراعا ما بين الوثنية والمسيحية، وهو المشهد نفسه الذي طغى على الصدام بين النزعة الكاثوليكية القديمة والتوجه الكاثوليكي الجديد المبني على الفلسفة والجدلية، وهو الذي سيعرف فيما بعد بالتيار الحداثي. لقد ظلّت الحداثة حبيسة الصدامات العقائدية لمدة طويلة، قبل أن تنتقل إلى المجالات الإبداعية، دون أي تخصيص، ما يعني أن رهاناتها البدئية كانت تتمثل في مساءلة الدين، وفي استبدال ممارسات عقائدية بممارسات أخرى أكثر ملاءمة، وأكثر انسجاما مع الذات، وفي الحالتين هناك تجاوز لمعيار بتكريس معيار آخر. لذا يجب الفصل بين أنواع المحفزات التي أنتجت الحداثة، ما بين الأدبي وغير الأدبي، ما بين الديني والجمالي، لأنّنا لا يمكن أن نفهم الامتدادات دون معرفة الأصول المؤثثة بمجموعة من المعارف والثقافات. لقد ولدت الحداثة الغربية بزاد يؤهلها إلى مساءلة الموروث ومساءلة الراهن، وإذ تراجع الماضي والحاضر فإنها تفعل ذلك بعقل يمتلك خلفية ومهارات، أي أنها تعتمد على النمو الحلقي ولا تمحو على غير بيّنة، أي أنها ليست ترفا ذهنيا خلق من العدم، أو بإلغاء الآخر، وليست عبثا حتى في أقصى لحظات العبث. ثمّة دائما مسوغات منطقية ومعلولات تمتلك علاقة سببية بمجموع العلل، تاريخية كانت أم فلسفية أم دينية أم فنية. في حين ينطلق أغلب الحداثيين العرب من العلماء، أو من سديم رؤيوي يتعذّر ضبطه أو فهمه بالنظر إلى عدة أسباب يتعذّر حصرها. وإذا كان بعضهم يدرك مفهوم الكلمة إدراكا دقيقا، ويسعى إلى تثوير الكتابة بعد تحصين الذات وقراءة ما أنتجه الآخرون، إبداعا وفلسفة وبلاغة ولغة وفكرا، فإنّ البعض الآخر يعتقد خطأ أن الحداثة هي القدرة على تحيين الثالوث المحرّم، كأن مشكلة الإبداع تتمثل في تحرير هذا الثالوث من قبضة السلطة والمجتمع والأعراف النقلية التي لا تسائل بقدر ما تحفظ وتنفذ. هنا تبدأ الحداثة عند بعض الكتاب والدارسين، وهنا تنتهي. لذا لا نندهش من استيراد موضوعات الآخرين ورؤاهم، بلا تبصّر في أغلب الأحيان، مع أن الحداثة الغربية نفسها أكدت على الخصوصية والمميزات المحلية لأنها الجوهر. وهو الطرح الذي نجده عند غوته، وعند كبار الكتاب الذين اخترقوا الحدود القومية واللسانيات بآداب تعرف شعوبها. يجب التأكيد، ببعض التحفظ، بالنظر إلى وجود استثناءات، أن حداثتنا العربية لا تعرف الأمة، وهي إذ تصدر، إنما تصدر بعيون الآخرين ومن منطلقات غيرية تسعى إلى تصدير القارئ إلى النصوص، ومن ثمة تغريبه بتقويض أسسه جذريا، وتلك مشكلة. وتكمن المشكلة الثانية في تجاوز المعيار (المعيار المحلي) واستبداله بمعيار آخر (مستورد من الآخر)، وفي الحالتين هناك معيارية ما· أما الثانية، فأكثر ضررا إن عملت على إلغاء الذات بمحاكاة ساذجة لذوات مختلفة على كل الأصعدة، بما في ذلك الجوانب البنائية، إن لم تأت مدروسة ومغربلة وضرورية، وذات علاقة منطقية بجوهر العملية الإبداعية، حتى لا تكون الصناعة الأدبية مجرّد امتداد آلي لتجارب الآخرين. أما المشكلة الثالثة، فتتلخص في الهرولة إلى الأشكال، مع أن الأشكال سياقات وأشكال وعلل، وليست موضة مفرغة من الإحالات والدلالات، كشكل المسجد والكنيسة، كما البرنس والمعطف، كما الكوخ وناطحة السحاب. ثمة دائما معنى للظاهر ومرجعية، ثقافة ما، وهناك مقاصد متباينة لا يمكن أن تتطابق في مختلف البيئات والثقافات. من المتعذّر الحديث عن أنظمة من العلامات الاعتباطية في الفعل الإبلاغي. لا يوجد شيء مجاني في النص، بتعبير رولان بارث. كل العلامات والأبنية تشتغل في إطار نسق عيني ذي كيان، كما المعجم الذي ينتقيه الكاتب بوعي، ولأسباب وظيفية ترتبط بوازع وبمقاصد دلالية وجمالية، إن قام الانتقاء على صناعة متقنة. وما أكثر ''الصناعات'' الفاشلة في حداثتنا التي أصبحت ذيلا للجهد الذي يبذل هناك، ولغايات تختلف عن غاياتنا، أو مناقضة لها. ليس من الصعب، بطبيعة الحال، تقديم عناوين كثيرة منفصلة عن المحيط الخارجي، وعن أصحابها كذلك. حداثتنا كلها من أوراق وحبر وألفاظ ونظريات، أما على مستوى الواقع والممارسة فلا شيء. الكتابة في المريخ والأفعال في الطين، القول في المستقبل والممارسة في العصر البدائي. وتلك مشكلة أخرى لا نريد التصريح بها. الكتابة بتبّان قصير والفعل ببرقع. هؤلاء هم نحن. نسعى إلى تحرير الثالوث في الشارع وندعمه في البيت.