تعرف ظاهرة التسول انتشارا كبيرا في السنوات الأخيرة في مختلف ولايات الوطن، ولا يكاد يخلو شارع بقلب المدن الكبرى، كالعاصمة مثلا، من متسول، يشكل الشيوخ والعجزة نسبة كبيرة منهم في الغالب· ورغم ما يكنه الجزائريون للشيوخ من خصوصية ورحمة، إلا أن كثيرا من الذين اضطروا لمد اليد منهم، باتوا يتهمون بالتحايل وادعاء الحاجة· بين هذا وذاك ''يروح المحرم في المجرم''· ''الجزائر نيوز'' تجولت في بعض أهم شوارع العاصمة، باحثة عن شيوخ وعجزة قد تكون الحاجة دفعتهم إلى مد اليد، وقد يكون الكسب السهل يبخر ماء الوجه في أرذل العمر· وأنت متوجه من شارع ''أحمد زبانة'' بالقرب من مقر إذاعة البهجة وثانوية عمر راسم بقلب العاصمة، نحو شارع حسيبة بن بوعلي، ستمر حتما على السلالم، عن يمينك ستجد مطعما فلسطينيا في مدخله فرن لطبخ الشوارما، وتحته ببضع أدراج ستجد عجوزا تفترش الأرض، هي جزء من المشهد اليومي، بل علامة من علاماته التي يمكن للمارة أن يهتدوا بها، تعرض للناس حاجتها مدونة في وصفات طبية· المشهد يثير شفقة المارين على المكان للمرة الأولى، وتستعطفهم أكثر عبارة ظلت ترددها· ومن صوتها تبين لنا أنها ليست من أبناء المدينة، بل جاء بها الزمن ''منذ سنتين من ولاية المسيلة إلى الحي القصديري بالسمار''، ثم إلى مد يدها على درجات هذه السلالم· تقول العجوز التي شارفت ''العقد السابع من العمر'' إن تسولها ''بدأ بتقاعد زوجها وعجزه عن العمل، دون أية منحة· كان يعمل عند أحد الخواص بالمسيلة، وعندما عجز عن العمل جئت لأقيم رفقة أختي بالبيت القصديري، ولم أجد أي مصدر لسد حاجتي رفقة زوجي سوى مد يدي، الله غالب''· هكذا تحدثت العجوز، بمجرد أن عرفت أننا صحافة، ودون حتى أن نطرح عليها السؤال، ربما لأنها تعودت سرد قصتها أو البوح بهمها لمن أعطاها من المارة بعضا من وقته، لكن عدم سؤالنا لم يمنعها من سؤالنا صدقة· من شارع ''أحمد زبانة'' إلى محطة الحافلات ''تافورة''، طريق من كيلومتر واحد، لا يكاد يخلو فيه رصيف أو ركن من متسول يمد يده، لكن همّنا كان البحث عن الشيوخ منهم، فتسول الشباب بات عند الغالب منهم مهنة· في محطة ''تافورة''، مقابل المدرسة العليا للتجارة، هنا يحمل شيخ في الستينيات من العمر هو الآخر ملفا صحيا، ويروي قصة تشبه إلى حد بعيد قصة العجوز، الفرق بين الروايتين أنها أتت من مسيلة وهو من ولاية بسكرة· يقول الشيخ إن زوجته ''ترقد بمستشفى مصطفى باشا، وهي في حاجة إلى دواء''، وهو الآخر ''لا يملك ما يعود به إلى ولايته، وأبناؤه ينتظرونه···''· حاولنا الاقتراب من الرجل أكثر، لكنه ما أن اقتنع أننا لن نكون له إلا مضيعة للوقت، امتنع عن الحديث والتفت إلى متصدقة أو ''زبونة'' جاد جيبها بغير ما رآه منا· الإعاقة وقلة الدخل قد ترغمان على مد اليد أحيانا غير بعيد عن الشيخ، وبالقرب من سوق رضا حوحو المغطاة (كلوزيل سابقا)، محطة تتوسط المحطتين السابقتين، مدت عجوز يدها عوضا عن زوجها الذي منعته إعاقته من مد يده، واضطره العجز لأن يلتزم كرسيه المتحرك، يستعطف المارة بعينيه فقط، بعد أن خانه لسانه كما قدماه، مثلما خانته منحة المعاقين من توفير ولو القليل من حاجاته: ''هل تكفي 3000 دينار لسد حاجيات رجل معاق، إنه مبلغ لا يكفي حتى شراء الحفاظات الخاصة بزوجي، إذا لم أمد يدي، فماذا أفعل''؟ تقول زوجة العجوز· وتقسم العجوز التي تقول إن ''قدرها هكذا'' بأغلظ الأيمان أنها لو تجد من يسد حاجة زوجها فقط، فلن تمد يد بعدها· بين صدق الحاجة وادعائها··· للشارع رأيه لأن الظاهرة استفحلت، استبعد الكثير ممن تحدثنا إليهم، صدق المتسولين، بمن فيهم الشيوخ، والكل له قصة يرويها مع متسول تبين زيف حاجته· ويؤكد أحد الشباب أن الشيخ الذي لم يقبل بالحديث إلينا بمحطة تافورة أنه ''وجه مألوف، وأنه يغير في كل مرة موقعه، لكنه يحافظ على نفس القصة الوهمية''· لكن شابا آخر يرد بأن ''كل بحسب نيته، لسنا مطالبين بتقصي حقيقة كل متسول، ثم إن الذي يتصدق يرجو الثواب، فإن كانت تلك نيته فلا يهمه ادعاء المتسول أو صدقه''· في حين برر البعض لجوء الشيوخ إلى التسول، فعماد الطالب في كلية الحقوق لا ''يتقبل فكرة ادعائهم الحاجة، سيما وأن سنهم متقدم''، ويقول ''لا أتصور أن يمد يده غير المحتاج، فالتسول ما زال يمثل عندنا عيبا''· غير بعيد عن عماد، تجيبنا سيدة من ميسونيي ''أنا عن نفسي أصبحت لا أثق في الكثير منهم، ولا أتصدق إلا على من ظهرت إعاقتهم أو من بدت حاجتهم من جيراني''، ليعقب شيخ شدّه الحديث: ''في عُرفنا لا توجد هذه الظاهرة، لا يمكن أن يمد كل محتاج يده، بل على الجار أن يحاول سد حاجة جاره، الأمر فيه إهانة، ليس فقط للشيخ المتسول، بل للمجتمع برمته، إنها ظاهرة مشينة بكل ما في الكلمة من معنى''· بوصاق· ر ------------------------------------------------------------------------- الوقائع تكذّب أرقام الوزارة: ''آباؤنا'' و''أمهاتنا'' الذين يشحتون يبدو الأمر مؤلما، ونحن نلتقي يوميا متسولين من نوع خاص جدا، ليسوا بالمتسولين ''المحترفين'' الذين يعتمدون على مؤثرات خارجية مثل التظاهر بعاهة بدنية مستديمة أو حمل رضيع نائم أو حمل وصفة طبية، أو حتى الطريقة ''الشابيبة'' الشائعة التي يقول من خلالها أحدهم إنه خارج للتو من السجن ولا يجد ثمن التذكرة التي تقله إلى ضواحي وهران أو ضواحي عنابة· إنهم شيوخ وعجائز في خريف العمر، يبدو من ملامحهم الصدق، وكثير منهم يمد يده دون أن يطاوعه لسانه لقول أي كلام· هل يمكن أن نسمي هذا تسولا؟ أم هي كرامة المجتمع التي تمرغ يوميا في التراب والمجتمع الذي لا يحمي ضعافه من العجزة والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، يبدو أنه يعاني خللا ما، وما الفائدة من آلاف الجمعيات ذات الطابع الاجتماعي التي تملأ الدنيا ضجيجا وتؤسس لشرعيتها باسم مساعدة الفئات الاجتماعية المحرومة بل وتتلقى تمويلا رسميا في سبيل أداء هذه المهمة، والنتيجة هي أن الكثير من الجمعيات تحولت إلى عناوين للاحتيال والكسب غير المشروع· ثم ما الفائدة من وجود وزارة كاملة اسمها ''وزارة التضامن'' تحولت إلى أكبر جمعية خيرية في البلاد وأريد لها أن تؤمم العمل الخيري وتسحب البساط من تحت الجمعيات ذات الطابع الخيري التي فقدت مصداقيتها، لكنها ورغم الميزانيات الضخمة التي تمتلكها لم تنجح لحد الآن في التقليل من ظاهرة تسول المسنين من الذين ظلمهم أهلهم وأدار لهم الناس ظهورهم، ورغم أن الوزارة تقدم في كل مرة أرقاما كبيرة وتصور الواقع على أساس أنه وردي وقد بلغ الأمر بوزير سابق للقطاع أن عدد الفقراء والمساكين يقترب من العدم في الجزائر· إنها أرقام تعبر عن واقع وردي، لكنه واقع غير موجود إلا في أذهان المسؤولين، لأن الحقيقة هي عكس ذلك، والحقيقة تقول بأن هناك أناسا انكسرت عزتهم النفسية وقد وجدوا أنفسهم مشردين ومجبرين على مد أيديهم، إنهم آباؤنا وأمهاتنا بشكل أو بآخر، وكيف لفرد من المجتمع أن يقبل إهانة أبويه بهذا الشكل؟ الخير· ش ------------------------------------------------------------------------- بركات: أحيانا نضطر إلى استعمال القوة لنقل المتسولين إلى دور العجزة أكد، أمس، وزير التضامن الوطني سعيد بركات، لدى عرضه لتقرير يتعلق بتنفيذ القانون 10- 12 المتعلق بحماية الأشخاص المسنين أمام لجنة الشؤون الاجتماعية للمجلس الشعبي الوطني، أن القانون بمواده ونصوصه التنظيمية من شأنه أن يضع حدا لكافة الأشكال المتعلقة بإهمال المسنين والظواهر السلبية التي يتخبطون فيها، من إهمال وتسول· وبخصوص انتشار ظاهرة تسول العجزة الذين تعج بهم مختلف شوارع الوطن، أكد سعيد بركات أن مصالح وزارته تضطر أحيانا إلى استعمال القوة من أجل نقلهم إلى دور العجزة، سيما في فصل الشتاء، للتكفل بهم وتقديم مختلف الإعانات لهم، إلا أن العديد منهم يعود إلى الشارع· وأعلن الوزير، في إطار تطبيق نصوص القانون المتعلق بحماية المسنين، عن مشروع لتعميم بطاقة المسن (65 سنة فما فوق)، وتخصيص منحة للمعوزين منهم بواقع ثلثي الحد الأدنى للأجر الوطني المضمون، علاوة على ضمان مجانية العلاج والنقل عبر الحافلات والسكك الحديدية، وتخفيض ب 50 بالمائة للتنقل البحري والجوي· ويركز القانون -بحسب سعيد بركات- على إبقاء المسنين في محيطهم الأسري، مؤكدا أن دور العجزة تعد الحل الأخير في حال تعذر التكفل بهم من قبل فروعهم· كما أعلن عن ميلاد مصلحة للوساطة العائلية، من شأنها حل النزاعات القائمة بين المسنين وأبنائهم، دون اللجوء إلى القضاء· ويحتوي القانون ونصوصه التنظيمية التي أودع جزء كبير منها في الأمانة العامة للحكومة في انتظار تطبيقها ما اعتبره بركات ''تحفيزات'' للتكفل بالمسنين، سواء من قبل أبنائهم بتقديم إعانات عينية لهم وحتى من قبل غرباء عنهم في حال أرادوا التكفل بهم· كما أكد بركات قرب تعميم تجربة التكفل ''في النهار فقط'' بدور العجزة بالمسنين، بالنسبة إلى العجزة المتكفل بهم من قبل أبنائهم وتضطرهم الحياة اليومية إلى تركهم لوحدهم في البيوت، مع إيجاد خيار آخر، يقضي بتخصيص أعوان اجتماعين تعكف الوزارة على تكوينهم نفسيا واجتماعيا للتكفل بالعجزة بمقر إقامتهم، في حال تعذر ذلك على أبنائهم· واعتبر سعيد بركات أن تطبيق القانون 10-12 المتعلق بحماية المسنين من شأنه تحسين مستوى المسنين والتكفل بهم من جميع النواحي· بوصاق·ر ------------------------------------------------------------------------- شرابح بودبابة (أستاذ في علم الاجتماع):دور الدولة في التكفل بالمسنين ما يزال ناقصا في تحليله لظاهرة التسول الذي يلجأ إليه كبار السن من أجل تأمين معيشتهم، خلص أستاذ علم الاجتماع رابح بودبابة إلى نتيجة وهي أن تفشي هذا النوع من التسول في المجتمع الجزائري يعود إلى جملة من الأسباب والعوامل، أبرزها غياب قانون يحمي هذه الشريحة· ما فتئت ظاهرة تسول المسنين والعجزة تزيد في الانتشار في المجتمع الجزائري خلال السنوات الأخيرة، برأيكم ماهي أسبابها؟ في الحقيقة هناك ظروف متنوعة تساهم في لجوء المسنين إلى التسول لضمان لقمة عيشهم، حيث أن معظمهم لا يملك نظاما معاشيا (المعاش) لأنهم لم يعملوا قط لدى الوظيف العمومي أو المؤسسات التي تصرح بهم لدى الضمان الاجتماعي، فيما تضطر فئة أخرى من المتسولين العجزة إلى طلب يد المساعدة لمواجهة غلاء المعيشة، لأن جلهم لا تكفيهم معاشاتهم لسد حاجياتهم في المجتمع· وفي جانب آخر من الموضوع يمكننا أيضا إدراج عامل انعدام الرعاية من طرف أبنائهم كما كان الحال في السابق، لأن الأمور تطورت والسلوكات تغيرت بعد أن تفككت الأسرة الممتدة وتلاشت وحلت محلها الأسرة النووية· ألا تعتقدون أن دور الدولة في هذا المجال كبير بالنظر إلى التناقض الموجود بين الخطاب الذي يؤكد على التكفل التام بهذه الشريحة والواقع المعيش؟ ما من شك أن للدولة دور كبير فيما تعيشه هذه الشريحة في المجتمع، إذ بالاضافة إلى غياب أو قلة المراكز التي تأوي هؤلاء العجزة والمسنين فإننا نلاحظ غياب جمعيات المجتمع المدني التي بإمكانها تقديم المساعدة لهم، وبالمختصر أرى بأن غياب قانون يحمي المسنين، ساهم بقسط كبير في جنوحهم إلى التسول مع كل الخطر الذي يهددهم، باعتبار أن الفضاء الذي يختاروه عادة هو الوقوف في الطرقات السريعة وهي غير آمنة تماما على منوال ما يحدث على مستوى الطريق السريع الجزائر البليدة· هل ترون والحال كذلك أن تدخل الدولة يكفي لإنهاء معاناة هؤلاء المتسولين العجزة؟ بالفعل اعتقد أن الحل الأمثل يكمن في إصدار قانون يحميهم وكذا تفعيل الجمعيات لاحتضانهم، وبالتالي فإن تدخل الدولة يبدو ضروريا لأن ما بذل لحد الآن ما يزال ناقصا مع هذه الشريحة العمرية في المجتمع، خاصة وأن الأمر لا يقتصر فقط على المسنين بل أيضا المسنات الذين قذفت بهم الأسر إلى الشارع ولا يملكون أي جهة يلجأون إليها·