تحولت مختلف الفضاءات العمومية كالأرصفة والحدائق والمساجد وحتى المقابر إلى أمكنة احتكرها المتسولون من كل الفئات أبدعوا في لغة الاستعطاف لكسب ثقة المارة الذين لا يترددون في ''صرف'' دنانير عليهم، لا سيما خلال هذا الشهر الفضيل الذي يتصدق فيه الناس بكثرة، حيث صارت ''المواقع الاستراتيجية للتسول'' محل صراع المتسولين، غير أن ما يجهله أغلبية المتصدقين أن التسول في العاصمة على غرار باقي الولايات أصبح استثماراً خاصاً هدفه الربح السريع وتكوين ثروة، ولو كان ذلك على حساب الأطفال والرضع الذين أدخلوا عالم التسول من بابه الواسع، كتقنية حديثة لكسب قلوب المارة، ورغم كل المبادرات التي قامت بها وزارة التضامن الوطني للحد من الظاهرة إلا أن قانون الأسرة لا يحمي الأطفال المستغلين في التسول وهو ما وقفت عليه وحدات الأمن المكلفة بحماية الأحداث في مختلف تدخلاتها، وما زاد الطين بلة هو استغلال البعض منهم لعاهاتهم أو حتى إلحاق الضرر بصحتهم لاستمالة المارة في كل مرة. وأنت تتجول وسط شوارع العاصمة الراقية منها وحتى الشعبية تصادفك ظاهرة الانتشار الكبير للمتسولين الذين اتخذوا لأنفسهم أماكن دائمة على حافة الرصيف وعند مخارج محلات بيع الخبز والحلويات، ولو دعوت أحدهم لدخول المحل قصد اقتناء ما يلزمه لرفض وطالبك ببعض النقود وهو ما يجعلنا نطرح عدة تساؤلات عن هوية هؤلاء ''المتسولين'' وهدفهم من امتهان ''الطلْبة '' التي لا تتطلب الكثير من الجهد. والغريب أن بعض المتحايلين يحسنون اختيار فريستهم، حيث تجدهم يتعقبون الأزواج من الشباب والسياح الأجانب، وكل من تبدو عليه ملامح الرفاهية. فما لمسناه خلال جولتنا التفقدية لبعض شوارع العاصمة، هو تكرار المشاهد نفسها يوميا، فبالممر العلوي الرابط بين شارع حسيبة بن بوعلي والمحطة البرية لنقل المسافرين الثاني ماي، تجد امرأة تحتل يوميا إحدى زوايا الجسر رفقة رضيعها تستعطف المارة ليمنحوها بعض الدنانير لشراء كيس من الحليب لرضيعها، حسب ما تدعي فهناك من يشده المشهد ويتأثر به فيحسن إليها، وهناك من لا يأبه بتاتا بالصورة التي ألفها، وحسب تصريح أحد المارة ''فإنه من الصعب اليوم التفريق بين الذي يستحق حقيقة الصدقة وبين من يتسول بحثا عن الربح بعد أن تم فضح حقيقة العديد منهم بسبب تصرفاتهم اليومية، كما تجد بعد كل صلاة جمعة عشرات النسوة أمام أبواب المساجد برفقة أطفال تتراوح أعمارهم بين شهر إلى تسع سنوات يستغلن صيحاتهم للتنافس فيما بينهن لاستعطاف المصلين، ويقول أحد المواطنين انه يفضل التصدق بما يستطيع إلى صناديق الزكاة عبر المساجد عوض تقديمها في الطريق العام بعد اكتشاف حقيقة إحدى المتسولات صدفة وهي تقتني دواء من إحدى الصيدليات بحي عين النعجة، حيث تصادف تواجده بدخول إحدى النساء وملامح الفقر بادية على ملابسها، وقدمت كيساً ممتلئاً عن آخره بالقطع النقدية لصاحبة المحل بغرض تبديلها بأوراق نقدية، وكم كانت دهشته كبيرة عندما علم أن قيمة الصرف بلغت 3000 دج، وهو ما يعتبر هامش الربح ليوم من ''الطلْبة'' بين الأسواق وممرات الحي، لتؤكد له صاحبة المحل أنها زبونة دائمة توفر''الصرف'' للمحل، وحسب العارفين بالقضية فإن المدخول اليومي للمتوسل لا ينزل عن 2000 دج ويمكن أن يزيد عن 8000 دج في المناسبات والأعياد. ليس كل متسول محتاجا يؤكد ''عمي حسين'' أحد المسنين ''أنه في السابق لم نكن نصادف المتسولين بالشارع لان مثل هذه الأفعال مرادفة للمهانة وخدش كرامة الإنسان، فقد كان الفقراء يكتفون بطرق أبواب المنازل للحصول على المأكل والملبس، لكن اليوم لا يدخل هذا العمل في خانة ''الحشمة'' بعد أن تفطن المحتالون، فلو مررت بشارع حسيبة بن بوعلي باتجاه البريد المركزي ومروراً بالعربي بن مهيدي إلى بور سعيد ووصولا إلى ساحة الشهداء ثم السيدة الإفريقية، لوقفت أمام صور واضحة لعائلات بكل أفرادها اتخذت لنفسها أركانا قارة عبر الشوارع وعند مخارج المحلات لاستعطاف المارة بعض النقود، والحديث عن هذه التصرفات لا تنحصر في الشوارع فقط بعد تتعداها إلى الطريق السريع فغالبا ما يجد السائق نفسه أمام زحمة للمرور بسبب عائلة بكل أفرادها اتخذت من وسط طريق السيارات مكاناً للفت انتباه المارة للمطالبة بصدقة غير مبالية بالخطر الذي يهددها. كما يؤكد ''حسين'' أنه رأى في أحد الأيام بحافلة لنقل المسافرين عجوزاً متقدمة في السن أخرجت من حقيبتها الرثة كيساً بلاستيكياً ممتلئاً عن آخره بالنقود من فئة 10 و20 دج قدمته لقابض الحافلة بغرض استبداله بأوراق نقدية، في حين يسرد ''سمير'' الصورة التي لمحها من شرفة مكتبه في أحد الأيام حيث أخذ أحد المتسولين زاوية منعزلة في الشارع الفرعي حتى يقوم بحساب ربح اليوم بعيدا عن أعين المارة، حيث كان يقوم بفرز النقود حسب قيمتها ليوزعها على جيوب سرواله وقميصه الرث، ويردد عدد كبير من المواطنين حكايات نشاط المتسولين ضمن شبكات منظمة، حيث تجد سيارات سياحية توصل يوميا معوقين ومجموعة من النساء يحملن أطفالاً رضع على أكتافهن، ينزلن كل يوم في نفس المكان لتقلهن نفس السيارة في المساء إلى ''وجهات مجهولة''. في حين تشير سيدة أخرى إلى ظاهرة جديدة دخلت مؤخرا عالم التسول وهي مطالبة رب عائلة الذي غالبا ما يكون محملا بحقيبة بتكاليف نقله إلى ولاية أخرى مدعيا أنه أضاع أمواله، في البداية يثق المار في حكاية المتسول لكن عندما نشاهده في نفس المكان الذي غالبا ما يكون قرب محطات نقل المسافرين مرة وثانية وثالثة، نكتشف الخدعة التي وقعنا فيها، من جهتها تحكي ''الآنسة سعاد'' حكاية شيخ طاعن في السن اختار الممر العلوي لتافورة المكان المفضل لطلب صدقة المارة وهو واضعا أمامه كل يوم وصفة طبية. الرضع وآثار الجروح لاستعطاف المارة.. ما لمسناه خلال تجوالنا أن بعض المتسولين يعانون من عاهات تشفع لهم عند الناس فيقتنعون بمساعدتهم ولو بمبالغ زهيدة، والمثير أن أغلب المتسولين يصطنعون عاهة على حساب صحتهم خاصة تلك الجراح العميقة التي لا يأبهون بالأضرار التي ستلحق بهم جراء مثل هذه الأفعال وهي الصورة التي انتشرت بشكل كبير عبر شوارع العاصمة، ومن بين المتسولين الذين التقيناهم ويعرفه غالبية المارة هو ذلك الذي يعاني من جرح عميق يبدأ من ركبته وإلى آخر جزء من ساقه، ورغم أنه أصبح معروفا في الشارع إلا أنه يصر على هذا الأسلوب والعاهة، وبما انه أخذ مكاناً قرب محطة الحافلات بتافورة فغالبا ما يستعطف بحالته المارة الذين يشفقون على حاله في الوقت الذي أصبح أهل المدينة يعتبرون ما يفعله ضرباً من استغباء الناس والتحايل المفضوح. وغير بعيد عن هذا المتسول تقابلك عجوز نحيلة لا تسمع منها سوى صوتها وهي تستجدي المارة أن يعطوها من مال الله، وتدعو لكل من يفعل بالخير والستر والبركات، حدثنا أحدهم فقال أن النساء الأكثر تصدقاً لأنهن يرغبن في الستر وليس أسهل من أن يدفعن مبالغ بسيطة للمتسولين مقابل دعوة بالستر والصحة، في حين يبقى الرجال الأقل عطاء بالنسبة للمتسولين الذين يفضلون الاقتراب منهم عندما يكونون مع زوجاتهم. وفي كل مرة يضاف متسول جديد للقائمة ليقوم باحتلال أحد الأركان الاستراتيجية وفي الكثير من الأحيان تقع مشاحنات بين المتسولين بسبب ''مكان العمل'' حيث تتذكر ''الآنسة هند'' حكاية غريبة حضرتها بشارع طرابلس بحسين داي، عندما نشب شجار بين امرأتين تتسولان بالطريق، ولولا تدخل المارة لكانت العواقب وخيمة بعد أن استعملت المرأتان العصي. ويبقي استغلال الأطفال من كل الفئات ابتداء من الشهر الأول وإلى غاية 12 سنة الوسيلة الأكثر رواجا بين المتسولين الذين تجدهم يستعطفون المارة ببعض النقود لشراء مستلزمات الطفل خاصة حليب الأطفال، كما أن حالة الرضيع التي غالبا ما تكون متدهورة تجعل المارة يشفقون عليه ويحاولون تقديم كل أنواع المساعدة، وهناك من أطفال الشوارع من تابع المواطن مرحلة نموه منذ أن كان رضيعاً إلى أن أصبح طفلا يافعا، ورغم الحالة الصحية الجيدة للأم التي يمكن لها أن تجد عملا شريفا يساعدها في حياتها اليومية إلا أن الربح السهل جعلها لا تستغني عن مهنة ''الطلْبة'' على حد تعبير أحد المارة. تحقيق وزارة التضامن عن التسول متوقف ارادت وزارة التضامن منذ منتصف سنة 2009 احتواء ظاهرة التسول بعد أن انتشرت بعدة أشكال عبر كامل التراب الوطني وذلك من خلال إعداد تحقيق معمق عن الظاهرة لإبراز أسباب انتشارها وكيفية الحد منها مستقبلا، خاصة وأن وزارة الشؤون الدينية والأوقاف نظمت عملية جمع الزكاة من خلال الصناديق الموزعة عبر المساجد، بعد أن سلمت مهمة توزيعها لمديرية خاصة تقوم بإحصاء العائلات الفقيرة لمد يد المساعدة لها، لكن التحقيق توقف لأسباب مجهولة في الوقت الذي تشتكي فيه وحدات حماية الأحداث للأمن الوطني والدرك الوطني من الثغرات القانونية في مجال حماية الأطفال من استغلال الوالدين في التسول، وفي هذا الشأن أشارت المكلفة بوحدة الأحداث للشرطة القضائية لشاطوناف أنه في كل مرة يتم نزع الأطفال من العائلات التي تستغلهم في التسول، يتم إرجاعهم من طرف المحكمة بعد أيام فقط، وهو ما يجعل هذه الوحدات تفضل عدم التدخل إلا في حالة اكتشاف خطر محدق بالطفل المستغل في ظاهرة التسول، في حين لم يفصل قانون الأسرة في قضية هؤلاء الأطفال الذين اصطلح على تسميتهم ''أطفال الشوارع''.