تنتشر بصورة مقلقة ظاهرة التسول في الجزائر طارحة السؤال المحير عن الأسباب والخلفيات وكيفية وضع حد لهذه المسألة التي باتت حرفة بأتم معنى الكلمة تدر الأموال الطائلة وتبعد فكرة القيام بنشاط نظامي. وما يزيد الوضع تأزما والنشاط استمرارا رغم جهود الدولة في تطهير الشوارع والطرقات من المتسولين وما أكثرهم، شبكة محترفة تتحكم في هذه الممارسة وتحتكرها باعتبارها تؤمن لها إيرادات دون عناء. أصبحت هذه الجماعات التي تتقاسم الأحياء والشوارع حسب النفوذ، تتواجد في كل الأماكن، تعمل على استغلال الأطفال والمسنين دون خوف وتردد، معطية للنشاط توسعا وانتشارا بات يفرض التدخل العاجل للحد من الممارسة المقيتة، باعتبارها انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان وجريمة لا يمكن السكوت عنها. لهذا قامت ''الشعب'' باستطلاع ميداني للوقوف على التسول الخطر الداهم للمجتمع الجزائري المشوّه لملامحه معطيا الإنطباع الخاطئ عن غياب شبه كلي للعمل التضامني ومسعى دمج فئات عريضة في سوق الشغل وتأدية وظيفة تؤمّن الحياة الكريمة دون السقوط في التهم الملصقة بالفرد صاحب الشأن وملاحقته بنظرات حارقة. وحسب من حاورناهم في الموضوع خلال الجولة الميدانية بمختلف الأحياء العاصمية التي يتفشى فيها التسول، فإن الظاهرة من الظواهر الأكثر تعقيدا لكل من يحاول وضعها تحت النظر أو قيد الدراسة أو تحويلها إلى مادة إعلامية. وربما ما يوقعك في كل ذلك، انقسام المتسولين إلى فئات ليس من السهل تصنيف كل متسول في الفئة المناسبة لكثرة التعقيد والضبابية، واعتبار المسألة من «''الطابوهات'' يصعب الولوج إليها ومعرفة أدق التفاصيل عنها. وقال لنا أكثر من متحدث محاولا الغوص في التسول وأنواعه ومن يقومون به: ''هناك متسولون محترفون، ومتسولون بالفطرة، ومتسولون ظرفيون يتولون هذه المهمة حسب الاحتياج الطارئ بعد غلق الأبواب في وجههم يعتقدون أنهم ينشطون في هذا المجال لفترة قصيرة، لكن لا يخرجون منها''. ... ينحدرون من 38 بلدية يستغلون القصّر والشيوخ وإن اختلفت هذه الفئات حسب ظروف كل متسوّل إلا أنه يلاحظ في الآونة الأخيرة عدد كبير من الأشخاص الذين يحترفون التسول بهدف سلب أموال المواطنين بحيث ينحدرون من 38 بلدية بولاية الجزائر ومداخليهم اليومية تتعدى 9 آلاف دج. هذا مضمون تحقيق ميداني لوزارة التضامن، كشفت من خلاله تسجيل في العاصمة وحدها ما لا يقل عن 490 متسول يوميا ينحدرون من 38 بلدية، حيث تدر عليهم ''الحرفة'' ما بين 2000 دج و9000 دج في اليوم. وأثبتت التحقيقات والخرجات الميدانية لأعوان الأمن هذه السنة، أن شبكات منظمة تحترف التسول تنشط في مختلف بلديات العاصمة وتستغل 150 شخص مسن و18 طفلا لاستعطاف قلوب المحسنين. هذا ما أكده وزير التضامن الوطني السيد سعيد بركات خلال آخر تصريحاته، مذكرا بوجود شبكات منظمة يقل نشاطها في المناطق الريفية وتنتعش في المدن الكبرى على غرار العاصمة، وهران، قسنطينة، عنابة والتجمعات العمرانية المشكلة لمناطق عبور لمختلف جهات الوطن. وحسب الوزير، فإن هذه الشبكات تستغل الأطفال والمعاقين والعجزة والنساء في عمليات التسول أمام المساجد وفي الشوارع، وتعمل على نقلهم إلى أماكن محدّدة تجني فيها أكبر قدر من الأموال قبل جمعهم مساء وإعادتهم إلى ديارهم. لكن طالما أن للوزارة والمصالح المختلفة كل هذه المعلومات الدقيقة عن المتسولين وكيف ينشطون ومن أين جاؤوا، لماذا لم تتخذ الإجراءات لتطهير الشوارع وحماية الكثير ممن يوظفون في هذه الحرفة من عصابات تستخدمهم لجمع الأموال الوفيرة؟ وكيف السبيل لوضع حد لهذا النشاط ومرافقة المتسول، الحق في اندماجه الاجتماعي ومساعدته في الحصول على وظيفة والتشغيل تجعله بحق مواطن يساهم في خدمة المجتمع والنمو والثروة.؟ حسب بركات، فإنه من الصعب تطبيق القوانين على المتسولين لاعتبارات اجتماعية دينية، موضحا أن القانون الجزائري يمنع التسول، وأشار إلى أن الحكومة تخصص منحا لمساعدة 720 ألف محتاج وتقيم 40 مركزا لمساعدة الطفولة. مع ذلك تستمر ظاهرة التسول في الانتشار، تكشفها حالة تواجد الأفراد والجماعات المكثفة بكل مكان في العاصمة حسب ما رصدته ''الشعب'' في جولتها الاستطلاعية التي قادتها إلى ساحة الشهداء، شارع أودان، أول ماي، الأحياء الراقية والشعبية على حد السواء، ببن عكنون وعين النعجة وتجمعات سكنية كبيرة أخرى. لاحظنا خلال استطلاعنا أن العديد من المتسولين يتحججون بالفقر والإصابة بأمراض أو عاهات مصطنعة كالتظاهر بفقدان البصر، الشلل والرعشة وتعذر عليهم العمل الأمر الذي يجبرهم على الخروج إلى الشارع لضمان لقمة العيش من أجل البقاء. هكذا اسمعنا البعض من سألناهم في الموضوع. ووجدنا صعوبة منهم في الإجابة. يتحججون بالمرض والإعاقة ومن بين الحالات التي وقفت عندها ''الشعب'' عجوز التقينا بها على الرصيف بساحة أول ماي رفقة طفل لا يتجاوز سنة، وعند محاولتنا التقرب منها والاستفسار عن سبب التسول بهذا الرضيع الذي يظهر في حالة يرثى لها، خاصة وأنه بأمس الحاجة إلى الراحة والنوم لكي ينمو نموا سليما، تعرضنا إلى محاولة اعتداء من طرف ابنتها الكبيرة. وهذا ما صعّب من مهمة مندوبة ''الشعب'' في مواصلة رصد حقيقة الأمر. منيرة البالغة 41 سنة اختارت أن تتشرد وتعرض حياتها وابنها الذي لا يتجاوز الثامنة من العمر للخطر، خاصة عندما يحل الليل، حيث تعرضت إلى محاولات عديدة من الاعتداء ولو لا تدخل الشرطة وبعض المواطنين أحيانا لإنقادها لكان مصيرها ومصير ابنها الهلاك. وما زاد استغرابنا أن منيرة تملك منزلا يحتوي على غرفتين بشارع ''لافونتان'' بالعاصمة ومتحصلة على شهادة إعلام آلي إلا أنها تفضل التشرد بابنها والتسوّل لجني المال، متحججة بأنها مصابة بمرض السكري وفقر الدم. وبعد تحقيق دام عدة أيام، أكد لنا أصحاب المحلات التي تعودت التسول أمام بابهم واتخدت منها مبيتا لها، أن منيرة تقوم بكراء المنزل الذي تحصلت عليه بإعانة من أحد إعلاميي القناة الثالثة، وهذا ما اكتشفناه خلال الزيارة التي قادتنا إلى عين المكان . وبالصدفة التقينا عجوز مسنة بشارع القبة وهي تتشاجر مع شاب يسألها بطريقة فظة لماذا بارحت المكان بهذه السرعة، ولم تجني إلا هذا القدر الزهيد من المال، وبعدها لا حظنا عودتها إلى نفس المكان لاستكمال عملية التسول. إضافة الى امراة تتسول برفقة طفلة صغيرة وهي تبدو فاقدة للبصر لاستحسان الناس، إلا أن البنت استطاعت أن تفضح المتسولة عندما قامت بضربها من شدة الوجع. وعندها بدأت البنت تصيح وهي هاربة ''إنها تبصر وليست عمياء تريد استعطاف الناس'' . ومما رصدناه أن أكبر عدد من المتسولين نجدهم في أرقى الأحياء كسيدي يحيى بأعالي العاصمة بالقرب من حي سعيد حمدين، الذي أصبح مليء بشبكات منظمة للتسول، إضافة إلى اختيارهم لمحطات المسافرين الذين باتوا يلتمسون عصابات تحترف النشاط تصعد إلى القطار. والوضع يختلف بالنسبة لآمال بن مرزوقة التي لا يتعدى عمرها ثلاثين سنة وتقطن بحي بلوزداد، وجدناها جالسة على الرصيف بشارع ''حسيبة بن بوعلي''، حيث أكدت لنا أن الدافع الذي أدى بها إلى التسول بدل العمل، كونها عندما كانت خادمة في منزل إمراة لم ترد إعطاء التفاصيل عنها، كانت تتلقى منها مختلف أشكال الإهانة والشتم بقليل من المال رغم المجهودات الجبارة التي تبدلها مضيفة أنها اعتادت على التسول ومن الصعب ايقافه كونها منذ شروعها في هذا العمل أصبحت تجني مالا أكثر. وذكرت بن مرزوقة انها الوحيدة في اسرتها التي تتسول وجل اخوتها يدرسون في الجامعة. ونتساءل من جهتنا، هل يمكن أن نحكم على هذه الفتاة بأنها مظلومة والظروف الاجتماعية القاسية أدت بها للخروج إلى الشارع للتسول أم أنها مذنبة كونها تستغل استعطاف المارة واستحسانهم بلباسها الرديئ الرثّ من أجل كسب المال. ونحن نواصل جولتنا الاستطلاعية وجدنا امرأة مفترشة الطريق بشارع العربي بن مهيدي اسمها زوليخة ولها 4 اولاد، تقطن لدى امراة منذ 5 سنوات ببلدية القبة بعد وفاة زوجها الذي تركها تصارع غلاء المعيشة مع أبنائها. قالت زوليخة ردا على استفسارنا ما يلي: ''أنا قديمة في التسول. كنت في السابق أجني أموال كثيرة من هذا النشاط إلا أنه في الآونة الأخيرة قلّت مداخيلي لأن الظاهرة تزايدت بكثرة، حيث بات المتسولون يستعملون أبناءهم والمعاقين، ما أثّر في مهنتي وهي التسول''. وأضافت زوليخة في عرض شهادتها: ''إني أستنكر بشدة توظيف الأطفال والمعاقين لاستعطاف الناس من أجل الحصول على المال. لا يمكنني الخروج رفقة أبنائي وتعليمهم مهنة التسول بل أن كل أماني هو إدخالهم إلى المدارس وتربيتهم تربية صالحة''. وتجدر الإشارة، أن البلاغات تتهاطل يوميا على مراكز الشرطة جراء سرقة وخطف للأطفال، والأكثر طلبا هم من يملكون موهبة نادرة كعين عوراء أو قدم كحساء لاستغلالهم للتسول. يمتلكون عقارات وأرصدة.. من جهتهم أكد لنا أكثر بعض المواطنين، أن من يتأمل لباس هؤلاء المتسولين الذين يثيرون الشفقة يقسم أنهم والحاجة خطان متوازيان، إلا أن الواقع يثبث عكس ذلك لأنهم يملكون المال أكثر من العامل العادي الذي يكدّ ويشقى ويصارع غلاء المعيشة من أجل كسب قوت يومه. في هذا الإطار أكدت لنا المواطنة سهام أنها تعودت على رأي أحد المتسولين سنويا في نفس المكان وهو في حالة يرثى لها. وأضافت في شهادتها أنها وجدت المتسول في إحدى الأيام وبالصدفة يقود حافلة من نوع ''هيونداي'' اكتشفت أنه تمكن من اقتنائها بفضل المداخيل التي جناها من التسول. وأكد حكيم أنه خلال تجوله بحي ''8 ماي'' بباب الزوار، لاحظ تواجد عدد كبير من المتسولين بمحاذاة مسجد ''عمر ابن الخطاب'' رغم أنه يبعد ب50 مترا فقط عن مركز الشرطة، مضيفا أنهم لم يرصدوا أي تدخل من طرفهم للحدّ من الظاهرة، بل بالعكس ففي كل عام تشهد تزايدا أكثر. وأشار محمد في تصريح لنا بعين المكان، إلى أنه هناك أشخاصا يقدمون بسيارات مليئة بالأطفال والنساء المسنين، وبحوزتهم هواتف نقالة يتركونهم أمام المساجد وبمحاذاة المقابر للتسول طيلة اليوم. وعند انتهاء المهمة يقومون بمهاتفة وسيلة النقل لإيقالهم إلى ديارهم وكأنهم شغالين عندهم بالأجرة. وأضاف آخر أنه في العديد من الأحيان تصادف متسول مرتين أو ثلاث مرات في اليوم وينسى طبعا أنه حدثك ويطلب منك بنفس الأسلوب نفس الطلب. وقال لمين أن هناك متسولين يملكون عقارات وأرصدة ومشاريع، ومع ذلك لم يحيلوا أنفسهم على التقاعد.