يعد الأديب المرحوم عمار بلحسن قامة أدبية متميزة جمعت بين الإنشاء الإبداعي وبين الممارسة النقدية ذات المرجعية السياقية التي تسعى إلى جعل العلاقة بين النص المبدع والنص القارئ له (النقد) من جهة، وبينهما معا وبين المعيش وما ينضح به من علاقات ومن صراع حول المصالح من جهة أخرى، علاقة تلازمية تكاد ترقى إلى مستوى الإجبار، حتى جاء نصه الأدبي بحق، في شقيه الإبداعي والنقدي، يتسم بالعمق والأصالة والتميز. وبعد، بدأنا نلاحظ على مجموعة ''حرائق البحر'' عدم وجود قصة ضمن هذه المجموعة تحمل اسم ''حرائق البحر''، بل نجد عنوان المجموعة عتبة شاملة لكل ما توحي به مجموع القصص حين كان فضاء البحر هو السمة المشتركة والعملة المتداولة بين مجموع القصص. ولعل ذلك ما أراه إحدى خصال المبدع، حين نستشف من ذلك رغبته في إضفاء اللحمة الدلالية والبعد الجمالي على كل قصص المجموعة وعدم تحديد ذلك على قصة واحدة كما يفعل كل القصاص في هذا الجنس الأدبي، وتلك ميزة لا يبغيها، من المبدعين، إلا من كان يسكنه، مع الهم الإبداعي، هم وثقل الحمولة الإيديولوجية التي ينبغي لها أن تكون حصنا وصونا لكرامة إنسانية الإنسانية وتاجا يزيّن بها ناصيته أمام غوائل الدهر واتقاء لصولات وجولات المحن. من هنا، يبدو لي أن معالجة النص الأدبي الذي يبدعه المرحوم ''عمار بلحسن'' تحتاج إلى تأنٍ ودقة في الإلمام بكمّ هائل من المرجعيات وبسبل متعددة تعدد التشظي النصي المبدع نفسه. ومن هذا المنطلق، وأنا أحاول أن أقدم قراءة لمجموعته القصصية آنفة الذكر، أجد نفسي مضطرة للاقتصار على زاوية محددة ودقيقة، رغم تعدد وتنوع وثراء انفتاح نصوصه وحبكة بنائها، وتلك الزاوية أفترضها في مضمون الرغبة الجموح التواقة إلى البحث عن ذلك الرابط الشفاف فنيا والقوي وجوديا بين فضاء المعيش وبين ما يزرعه هذا الأخير في النفس الإنسانية من أوجاع وانكسارات وأحزان. وعليه، فإن قراءة هذه المجموعة قراءة متأنية ودقيقة تجعلنا نلاحظ هيمنة الفضاء بكل جزئياته وتمفصلاته وتداخلاته على حياة شخصيات النص، كما نجد ذلك الفضاء موصولا بمجموع الانفعالات والتصورات والأحاسيس التي تشعر بها تلك الشخصيات. ذلك الفضاء الذي نجده في المجموعة كلها تارة ينحصر في مجمل المدن والتجمعات ذات الكثافة السكانية الكبيرة (فيما يطلق عليه المدينة)، وتارة أخرى نجده منفتحا على الفيافي وعلى القرى وعلى المداشر، وتارة ثالثة نقع عليه منبثا في تلك المواجهة التفاعلية الحادة بين اليابسة (الأرض / البر) وبين البحر، الذي استطاع عمار بلحسن أن ينجح في إخراجه من وجوديته المتعارف بها عند الناس قاطبة إلى الإلقاء به في خضم الذاكرة الانفعالية لدى كل إنسان، تلك الذاكرة المتخمة بهالة التقديس تارة، والمفعمة بوهج التوهان والضياع، تارة أخرى. ولعل أكبر دلالة جمالية وأبين عمق في الارتباط بالممكنات الفلسفية ذات الصلة بالفضاء في شقيه، المعيشي والفني نقرأها بدءا من العنوان ''حرائق البحر'' وبخاصة في مصطلح ''حرائق'' المنزاح عن الدلالة الاصطلاحية المعجمية إلى حمولة منفتحة على إحالات تنبئ عن كمون حرقة وجودية تكابدها شخصيات النصوص تجاه المكرس اجتماعيا وسياسيا ووجوديا، تلك المكابدة التي ترشح بها كومة من التراكيب اللفظية مثل ''الولادة خارج المدن'' و''هموم صغيرة في يوم قائظ جدا'' و''زمن الجري في الاتجاه الصحيح'' و''الجوع'' و''الجراد'' و''الحب في عز الغربة''... لتترسخ بعد ذلك في الكينونة المعيشية وفي خفايا النفس وفي مخبآت المكبوت في ناصية المجموعة بالقول الصريح: ''.. شوارع هذه المدينة.. حزينة.. حزينة.. والشمس داخلها رجل مغترب، يحمل الحقائب نحو المجاهيل تكدر وجهه متاعب الشيخوخة..'' (ص 7). أما الدلالة الثانية في تبيان عمق ذلك الارتباط، فيمكننا قراءتها في تاريخين مركزيين في إنجاز هوية هذه النصوص؛ الأول منهما نجده ممتدا خلال سنوات السبعين، وثانيهما نجده ممثلا في سنة 1981؛ حين بات مكرسا في الذاكرة بأن فترة سنوات السبعين كانت قد عرفت زخما أيديولوجيا يعلي من شأن الطبقات الكادحة في المجتمع؛ وهي الفئات الفقيرة والعمال والخماسين وكل المهمشين في المجتمع الجزائري الذين كان لهم الفضل الأكبر في ثورة التحرير.. (زمن الجري في الاتجاه الصحيح..)، وكأن حال النصوص تقصد، ضمنيا، إلى طرح السؤال الافتراضي التالي: ''.. إذا كانت هذه الفئات والطبقات ما زالت على الحال التي كانت عليها قبل ثورة التحرير، فما فائدة هذه الثورة إذن؟ أما سنة النشر لهذه النصوص (سنة 1981) فدلالاتها الإيحائية قوية جدا تبرز وتتجلى في مرور ثلاث سنوات على موت الرئيس الراحل هواري بومدين الحامي الفعلي للأيديولوجية الحامية لمصالح الطبقات المسحوقات التي لم يتحقق لها شيء على حياته، فكيف سيكون مصيرها من بعده؟ كما بدأت، في هذه المرحلة، تبرز أيضا الخطوط العامة للتحوّل الإيديولوجي للدولة الجزائرية من الاشتراكية إلى التوجه شبه الرأسمالي الذي بدأت معالمه تبرز بتخلي الدولة تدريجيا عن دعم الطبقات المسحوقة التي كانت تستفيد من دعمها في مقتنيات احتياجاتها اليومية وفي توفير الشغل وفي بناء المساكن.. وبعد ذلك يلاحظ القارئ هيمنة الفضاء المديني على أكبر قدر من الفضاء النصي؛ ذلك الفضاء الذي نجده متمثلا في المدينة وملحقاتها من شوارع وفنادق ومقاه وأماكن وساحات عمومية، تلك الهيمنة التي كانت متخمة بالعناصر السلبيات التي كانت تساهم بقوة في تكريس أوجاع الذات وفي تبديد كل أمل في فتح كوة اطلاع على أجمل وأنعم ما فيئالحياة، ولعل اللقطة التي تقول: ''.. المدينة قنينة خمر رديء على امتداد الزمن.. الرب.. هذه المدينة ما عادت تساوي فلسا..'' (ص 126) لأنصع برهان على هذه الإلماحة. أما الفضاء النصي المناقض للمدينة فنجده متمثلا في القرية، الريف، البادية المستغلة من طرف مكونات المدينة'' السلطة، سواء على العهد الاستعماري أو على العهد الحالي (الاستقلال). وعلى أنقاض هذا التضاد الفضائي داخل النص يبني المرحوم ''عمار بلحسن'' جدله الوجودي وعلياءه الفني، حين نجده يقيم جدلا فلسفيا اجتماعيا ووجوديا بين الفئات البانية للهرم الاجتماعي في الجزائر، فيؤكد على قوة الصراع وديمومته بين الفئات الكادحة الفقيرة وبين الديناصورات والنماذج البشرية التي تبني مجدها ومستقبلها وثروتها على أشلاء الفئات الأولى، وأجد بأن أرقى مراحل هذا الجدل الفقرتان التاليتان، الأولى تقول: ''.. كان القصر فسيحا ومغلقا.. ولكن البشر الأنجاس يضحكون ويسخرون.. حين يمر البوحميدي الأعرج.. كان مجنونا.. ودرويشا..'' (ص 48)، أما الفقرة الثانية فتقول: ''.. اجر يا مح صالح يا وجه الهم.. فالعمر جري دائم.. طيف يتسرب في أنفاق الزمن تجرفه مياه النتانة..'' ( ص 33). ولتكريس أقصى مستويات هذا التضاد داخل شرايين العمق الاجتماعي نجده ينغم نصوصه وفق سمفونية تشرذم البؤس والشقاء والضياع داخل زوايا مكونات الفضاء المديني حين يعجز بطلاه في قصة ''الولادة خارج المدن'' عن العثور على فندق في الجزائر العاصمة يقضيان فيه ليلتهما حتى يضطرا إلى المبيت على الشاطئ في العراء تحت لسعات ملح الأمواج الصاخبة، ونعثر عليه كذلك في هيمنة الألوان الداكنة وبخاصة الأسود (مصنع أسود) (آلة سوداء) (الغراب) والرمادي والألوان المنعدمة المتميزة بالتناقض وانعدم الانسجام (الغراب المدثر في اللون الأبيض الملائكي) في كل نصوص المجموعة، كما تلمز إليها أيضا اللقطة التالية: ''.. يا وليدي أرفق به.. إنه كبير ومريض.. ألا يستحق سريرا كغيره.. يزمجر الغراب المدثر في اللون الأبيض الملائكي: قلت لك يا عجوز.. المستشفى ملآن.. عودي بعد أيام..'' (ص 133). أما عندما نقرأ قصة ''البحر'' فنجدها قد عبرت بصدق وفنية وروعة عن قمة مستويات هذا التضاد في حال تغلغله وسط الكينونة وفي عمق المسير اليومي والمتخيل.. ولعل تحت تأثير قوة ذلك الوجع الذي ظل يقضم كل رشيم ينسل من ثنايا أحشاء تربة الأرض وينفلت من تصلب الصخور، يلاحظ القارئ تدفق هذه المعاناة حتى إلى عمق القرى والمداشر حين يقرأ مثل الأنساق السياقية التالية: ''.. فهو يرافقني منذ لفظتني أمي إلى العالم في ليلة قرية فقيرة تحيط بها أشجار التين الهندي..'' (ص 140). و''.. عشت في حي فقير.. أخاف الفضيحة.. جائع حتى العظم..'' (ص 101). و''..زعق في وجهك.. ثم.. الكلب دوت صفعة فوق صدغك.. أمك واقفة.. عندها أصبحت لا تعي شيئا.. دارت بك الدنيا.. سوداء.. ضبابية متوترة.. مصحوبة بالدم والبرنوس الأسود والنصل واللحية الخبيثة..'' (ص43). أما قائد أوركسترا هذا الوجع، فقد كان دائما فضاء البحر بما أسبله على مجموع هذه النصوص من فعالية بدء من العتبة الأولى ''حرائق البحر'' وامتدادا على كل الوقائع والأحداث، بل وتغلغلا حتى في صميم عمق الهوس اليومي للشخصيات، فهو تارة ملجأ لإفراغ شحنات القلق وأخرى معبدا للناسك المتعبد السابح في ملكوت الخالق وفي جلالة قدره، وثالثة يألفه القارئ فسحة لإطفاء حرائق اليوم في صحبة قنينة خمر أو علبة جعة، كما يتبدى البحر كمصدر لتوفير سبل العيش لآلاف من الصيادين الذين يكسبون أرزاقهم من بين تلاطم أمواجه الشرسة ومن عمق ظلماته وأهواله الأسطوريةئ. إن فضاء البحر، إذن، يشكل معادلة أساسية في بنية المعمار النصي لهذه المجموعة حين نجده: ''.. يندلع غضبا عند ثغور المدينة..'' (ص 133)، وحين نقرأ: ''.. الريح تصفع البحر، والبحر يزمجر غاضبا، هادرا بالرغبات المذبوحة، والأمواج تندلع..'' (ص 114)، وحين تظل إحدى الشخصيات وهي تردد: ''.. كنا في الميناء والمرسى.. لا نملك إلا عطشنا..'' (ص 82)، وكذا حين تصر ''رفيقة'' على القول بأن: ''.. بحرنا طيب كحقولنا..'' (ص133)، إلى غير ذلك من الأقواس المفتوحة على أقوال نصوص المجموعة وحمولاتها الدلالية.. وعلى الرغم من أن نصوص المجموعة القصصية كلها كانت تعج بأكوام متعددة جدا من الأوجاع والآلام التي كانت تعمق شروخها نفسيا ووجوديا عبر أبطال هذه القصص وترسم لوحاتها وأيقوناتها فنيا عبر الأنساق اللغوية والأسلوبية، إلا أن عبقرية المبدع عمار بلحسن المتوجة بأيديولوجية وطنية تأبى الخنوع والخضوع، استطاعت أن تفتح وسط هذا الزخم من الأوجاع المتدفقة عبر مساحات النصوص كلها فجوات ليستشرف منها على الآفاق المستقبلية الواعدة، وأحسب أن أبلغ أيقونة على كل ذلك ''رفيقة'' بطلة قصة ''البحر'' التي نجدها تقول لأمها، على الرغم من أنها تحت تأثير صدمة الفاجعة: ''.. أوه لكم أنت طيبة يا أماه .. بحرنا طيب كحقولنا.. سترين..'' (ص 133)، ثم نجد النص، على لسان المبدع، يؤكد على أن الطفلة رفيقة: ''.. ستصبح امرأة ناضجة.. يستشهد تحت نهودها العربية الأحباب.. ثم يبزغون شموسا دائمة الدفء..'' (ص 136)، ليبقى التفاؤل وتبقى أبواب المستقبل مفتوحة للتغير لصالح الوطن تحت نغمات تدافع الأمواج بعذوبة الملح والحرق اللذان يصنعان معجزة البحر في رتق الجراح وفي التئام الترهل. ولعل فضولية بعض القراء يجد نفسه أمام سؤال جريء ومحير مفاده: ما دوافع عمار بلحسن الأديب المرهف الحس والرطب الوجدان، وهو يعيش أزهى مراحل الدولة الوطنية المستقلة وهي ترسم معالم البناء والتشييد في فترة السبعينيات، في أن يجعل نصوص هذه المجموعة سكرا بأوجاع اليومي تحت قهر نتوءات الفضاء المعيش، ومغرمة بارتداء لبوس الحزن والبؤس والشقاء على مرأى ومسمع هوس المخططات والقرارات الثورية؟ أتصور بأن سؤالا مثل هذا، وربما غيره مما يفترض طرحه، قد لا يتوافر أي قارئ أو ناقد على أجوبة دقيقة ومحيطة عن الإشكالية التي يطرحها، لكني أحسب أن أقرب إجابة يمكن تقبلها، والحال كذلك، هي تلك التي قد نجدها تنحصر حول تلك الفكرة القائلة بأن: ''.. الأديب الحق، والفنان الموهوب، والشاعر الصادق، قريب من الوحي..''، بمعنى أن شفافية ونقاء النفس المفعمة بالوهب الأدبي قد تنفتح أمامها مغالق المستقبل، وتنكشف أمامها مكان الخفاء، فتستطيع أن تقارب ما يمكن حدوثه مستقبلا أو تلامس شواطئه، وأتصور، كذلك، بأن كثيرا من تلك الأوجاع والآلام والمعاناة التي أتخم بها المرحوم عمار بلحسن نصوصه في سنوات السبعين قد اكتوت بنارها فلذات أكباد الذات الجزائرية بداية من مستهل التسعينيات، حين باتت واقعا يوميا للمواطن الذي كانت تتدفق دماؤه في شوارع المدن والذي كانت ترتج الأرض، بين الفينة والأخرى، تحت أرجله إثر كل تفجير انتحاري، ولامس وشاهد بكل جوارحه رعب القرى والمداشر، حتى أضحى الخوف والقتل والتفجير هو الثابت في زمنية لزجة لا تثبت على حال..