(تابع).. وحدها العمة حورية أخذت تحرث الشّارع الرئيسي تُنصت إلى ذلك الصوت الذي أنهكه الخوف ..تلتقط النحيب ..صوتا بصوت لتجمع حرارته مرة واحدة لقد وجدت الشقة التي يرتحل منها الأنين ..لم تكن فخمة ..تعرف صاحبها جيدا ..شقة قديمة ترقد في حديقة صغيرة تزيينها أشجار الزيتون وورود الياسمين ترجع هذه الشقة إلى زمن الاستعمار ..قرميدها الأحمر الفاقع وجدرانها المزينة بنبتة الهبَّالة التي تغطي كل المنزل .. اقتربت من الدار ..دفعت باب الحديقة ..وجدته مفتوحا ..مشت ثلاثة أمتار ..لم ترحمها السنوات التي أثقلت وجهها بالتجاعيد وطوقت رأسها بالشيب.. حولتها هذه السنوات إلى عجوز لم يبق لها من الموت إلا رفع السبَّابة .. وجدت قُبَالتها سبعة أدراج ..صعدتها بجهد ..فتحت باب الشقة ..ارتبكت كاد قلبها يقع من شدة الخوف ..حسبتهم ما زالوا هنا .. التفتت عن اليمين و عن الشمال .. أخذ صوت الصبي يغريها ..يرتفع أكثر ..يإن أكثر ..ويحضن الرحمة أكثر ..كانت لنبراته استفزاز من نوع خاص ..كان يتكلم بلغة القلوب ..بلغة الرحمة ..كان يقول : إنني أصبحت يتيم ..يقولها بقهر .. دفعت العجوز باب الحمام ..وقعت على ركبتيها ووقعت معها كل الشكوك ..ضمت يديها إلى فمها ..وجدت الطفل ومعه تلك الكارثة ترقد في حضنه ..التقطت هناك صورة بشعة ..نظرت إلى الطفل بأمومة و نظر إليها ببراءة قالت لها عيناه .. أنقذني عمتي من هذه الفوضى ..اسْلَخِي عنِّي آثار الكره ..احضنيني ، قبليني .. وشعر هو بأنها تقول له بلهف الأمومة .. لا تخف ولدي ..إبك ي ثم إبكي ..اغسل قلبك وعقلك ..حتى يمكنك أن تعيش بسلام .. سأعوضك عن كل سنوات الحقد و الكره و سأفيض عليك بالأمومة وحدي قبلة للعشق .. ولدي تعال ..حضني كله لك ..لك وحدك ..يعوضك عن الحرمان.. يصنع منك شابا متلهفا للحياة ..شابا صنعه حضن امرأة .. غاصت العمة حورية في مصائب الفتي ..أتراه سينسي ..أيقدر أن يلعب لعبة النسيان ..و يتغلب على قدر الكره الذي غرسه هؤلاء مرة واحدة ..أتراه سيذكر هذه الليلة المجهدة البائسة ..أتراه يسترجع صورة تلك الليلة اللقيطة التي قتل فيها والديه ..أأقدر أن أنزع منه كل هذا الغل الذي دخل قلبه .. استفاقت العمة حورية من قدر اللحظة لتسرع إلى الصبي تخبؤه في حضنها تحرسه من المستقبل ..تُعدُّه إلى الغد الجميل ..لتصنع منه السّلام ..تكتبه بين الحقيقة و النسيان .. تعود و تطوي الآفاق ...لتشرق شمس الغد وقد كانت شاهدة على زمن نحتنا فيه الحقد و يوم جديد أعددناه للسلام . *** فتي صغيرا كنت أحثو الخطي نحو الأسواق أبيع الطين ،أشياء تصنعها أمي لأبيعها في سوق المدينة..تعلمت كيف أنتق الطين و كيف أروض الجسد ..قصصي مع ترويض الطين كثيرة بين الخيبة و النجاح.. تشكلت مهارتي مع النحت ... فما بين ترويض الطين و الخيل مساحة تعلمت فيها كيف أحرِّك يدي ..فالنحت لغة اليد ..صارت هناك موسيقى خاصة بيني و بين الطين ..لا أتكلف حتى يستقيم بين يداي ..يُظهر لي عن مفاتنه و يكشف لي عن عوراته ..لأغزوه بخيباتي و أفراحي ..بل لأملأه إما حزنا أو فرحا ..أحدِّثه عن فرحتي فيشق لي كل تعاريجه ..فللنحت مسالك وعرة لا يتقن التخلص منها إلا من يجيد تحريك الجسد .. هل نسيت حين قلتِ لي ذات مرة .. إن في يديك هاتين لغز خاص ..حين أشعر بهما على جسدي ..تسارع كل جوارحي الطاعة فتتهافت نحوها السعادة و تلتصق بهما و فرحة رهيبة تغمرني .. قلت لك : للجسد لعبته و لليد عشقها ...حين تصعد اليد نحو جبال الجسد عليها أن تُدلِّك بقوة لتهرب حرارة الجسد نحو مناطق البرد السنوي ، لتترك البادرة للإنزلاق قليلا فتمارس الكر و الفر حتي يكتمل الترويض و إلا لا داعي لفن التدليك أصلا .. سيبقي الجسد لعبة النحاتين، يبارزنا بأعضائه ، و الحزن ملامحنا الدفينة ..و الغيرة هواجسنا الرهيبة .. هكذا أشعر كلما مررت على ذلك التمثال الذي يتربع على قلب المدينة تاركا محاسنه تفيض ألما و دمعا .. للتمثال سلاحه الخاص .. بعد الاستقلال نسي الناس الثورة ..لأنها أصبحت جزءا من الماضي ..و أصبحت أيتها العائدة من الذكريات ..باقي الانسان داخلي ..ينخرني على البقاء ..على الرغم من أن كل شيئ حولي لا يدعوني إلا لشيء واحد أن أكتب ذاكرتي و لكن بالنحت ..أن أعزف كما كل الناس تفاصيل الهوى الغريب الذي مازال يصارعني إلى الآن .. مرات كثيرة فكرت أن أجرى عليك أبحاث ..لأعيد إكتشافك من جديد غير أني خشيت ..أن لا تكون أنت ..فاخترت أن أحتفظ بك كما أنت ..من أول نحت .. هاهو نحتك يساوى عمري ..له تاريخ بحجم الدموع التي فارقتها آخر مرة ..حين قرر والدك إرسالك إلى فرنسا ..و أبقي آدم دون حواء .. لم يبق لي من هذه الدنيا غير ترويض الطين لأعود إلى سيرتي الأولى ..دارت الأيام لتعود إلى سيرة نحتك الطويلة ..شكلت كما لم يشكل أحد حبه ..وحدي أمارس العمل الذي نسيه الناس ..اليوم و بهذه الإعاقة أقيم معارض كثيرة ..أتخيل أنني كل مرة أشاهدك فيها .. بالنحت حاولت أن أفك رموز الخرص الذي أصابني منذ أن فقدتك ..أحسست أني بحاجة ماسة إلى تعذيبك وقهرك على الطين .. مئة نحت كلها تتخذ إليك طريق العرفان ..هذا ماكنت أخشاه ..تذهبين و يبق دخانك مشتعلا ..هكذا نحن العرب ..نحب لا لننسي و إنما لنتعذب ..كم مرة الأيام على هواك فرنشيسكا ..إلى الآن و بلغة أنا ..أبدا لن يساوى حبي لك زمن الدنيا ..وحده القلب من يجرأ على تشكيلك على زمن خاص .. النحت صراع بين الصخرة وروحها الغائبة ..الصخرة أنا والروح وحدك فرنشيسكا ..أردت أن أفضح هذا الجسد الذي طالما عيَّرني بتوبته ..أن أنزع عنه ثيابه الخشنة ..أن أؤثثه من جديد ..أن أدثره من أن يأكل غير القناعة.. النحت فن نقتل فيه خيباتنا .. آهاتنا آلامنا ..نصارع به حواشي الفناء ..حتي نبقي كتمثال بوذا نصنع مصائر غيرنا ها أنا أنحتك يا ذاتي بالكلمات ..أحررك من غضب الحجارة ..نفضح كرهنا ..ننفض عنا غبرة المخلوق الثورى ..ننتزع منه سلطاننا ..نجرده من عمامة الشام ..بشرط أن نخفي مراكز الجنس فينا .. نترك عوراتنا لنعيد تجديد مجاري التاريخ داخلها .. أما أعضائنا ..نلاعبها بأيدينا ..نعبث بها ..حتي تستنفذ كل قدراتها ..كل قواها ..كل ذكورتها ..كل أنوثتها ..بل ماضيها و حاضرها ..لأنني و فقط أنحت مستقبلا بلا أعضاء ..بلا ملامح ..فأنا أعمل على تشكيل مخلوق فوق الحيوان و تحت السماء ..مخلوق يفهم الفكرة و يقدر الحب ..يمشي كما في طفولتي لا يجيد فن المكائد ..طفل يتعرى من ثيابه عند كل مشكل ..تماما مثل أمي تنزع عنها همومها بأمطار دموعها ثم تعقد مع العالم صفحة جديدة توقع فيها بامتياز حداثة المخلوق الذي ولد فيها و بامتياز طهر ملفاته القديمة .. الأنا ليست الأنا ..المنفي وحده بات يشكل الحضور ..حين أعود إلي ذاكرة نحتك فرنشيسكا ..أتننفس شهقة طويلة بل شهوة نفس عميقة ..أنسلب عن كل هذا الجنون الذي زاحم الرؤوس ..وحدك أمامي ..كالماضي دوما بل أبدا ..حتى حين أضع رأسي على وسادتي لا أعارك غير الماضي ..لأنني رجل صنع في التاريخ ..