··إن ميلاد نزار قباني ليس بحادث وفقط، حمل عرضي، غريزة تكاثر وطبيعة توالد، نزار ظهر على حياتنا العربية في قرنها الفائت حتى يكون للقرن هذا قرين في البلاغة والظهور والتشكيل·· يشعرني آذار بالضوء، ضوء كله تركه بين يدي نزار قباني، محبة وشغف وارتطام بالورد يتكرر فيّ، شيء خافت خفي مزروع في كل مكان وفي الخاصرة، لا أحب أن أعاود فيه الرثاء والكلم الحسن، لا أحب في نزار المرثية وضجر المناسبة وثرثرة الشرق، لا أحب في نزار قباني الجمل المفتولة العضلات والفقرات التي تولد كي تموت والمتحدثين الذين ولدوا على المنصات كي لا يقولوا، نزار علامة مسجلة، أبدية، مختوم عليها بالحديد والشمع والياسمين، سيد أبجدية عربية مدموغة بدمغة اللاتقليد واللاتكرار واللاَءات أجمعها... كانت دواوينه تصدر مذ الأربعينيات والخمسينيات فتتصدر بغلافها الأنيق، بتصميمها البديع، بفلتاتها الجريئة في النظم والكلام والناموس، لم تبق لغة نزار قباني سكونا أو تساكنا إلا وراحت تهدمه، تجهز عليه وتفرض عليه حصار الحصارات·· أصدر وأبرق وجدد وخلق الأسلوب وصنع اللغة الثانية منزوعة من قشدة أكاذيبها، منزوعة من امبرياليتها وسلفيتها وحداثويتها، لغة رياضية، رشيقة، تصهل وترقص، تصدح، تصدح وتغني، تغني وتتمايل، تهز الخصر والقلب والوجدانات، مبتكرا في أسلوبه وفي مشاغباته وفي إطلالاته وفي كتاباته النثرية، من لحظة طفولة نهد وقالت لي السمراء وسامبا، حتى قاموسه المميز، قاموس المحبين في الرسم بالكلمات وقصائد متوحشة ولا غالب إلا الحب حتى تنويعاته الطافحة الصادمة الداعسة على النظام السياسي العربي في توتاليتارياته وصعلكته العقائدية، خبز وحشيش وقمر، السيرة الذاتية لسياف عربي، متى يعلنون وفاة العرب، المتنبي وأم كلثوم على قائمة التطبيع·· الدواوين عنده كانت هي القصائد، القصائد عنده هي المغناة حقا، المغنَّاة عنده هي مغناة ومأساة وملهاة، هكذا تأسست الشعرية النزارية العربية على نسق، ثورية الطباع، هادرة هائجة غير مترهبة ولا متوارية، ديمقراطية شعبية، أنيقة تعرف كيف تختلي بمجالس الأرستقراطيين وتلبس أحذية الألدو وشارل جوردان.. سيقول الناس إن هذا العصر هو عصر في المراجع النووية وحروب النار والبرد والثلج والعاصفة، عصر السلاح والجغرافيات المتهالكة والتفككات، عصر كارتر وريغن وبوش والبوشيين، عصر تشرتشل وتاتشر ويلبر، عصر ناصر وبومدين والقذافي، عصر عمر الشريف وعادل إمام ونجوى فؤاد، عصر الشعراوي والغزالي والبوطي والقرضاوي، لكنه العصر الإسرائيلي بملامحه ونظرياته وجيوش مفكريه وحفنة مطبليه ومزمريه·· وسط ناره والاحتراقات، وسط لفحه والإرهابات، أطل نزار إبن الأرض الآذارية والربيع، وسط هذا العصر أطلَّ. يوم ولدت في 21 آذار، مارس 1923 في بيت من بيوت دمشق القديمة كانت الأرض هي الأخرى في حالة ولادة وكان الربيع يستعد لفتح حقائبه الخضراء، الأرض وأمي حملتا في وقت واحد ووضعتا في وقت واحد، ولدت أنا الدمشقي في حارة لها باب، الباب به الشعر ووجه أبي وطيف أختي وصال، باب الحارة الدمشقية المتعدد في إسرائه ومعراجه مفتوحا على الأخضر والأحمر والليلكي، سمفونية الرخام الأملس ووهج الضوء الناعس وظل الزاوية المعطوفة على الجانب والجنبات.. إن ميلاد نزار قباني ليس بحادث وفقط، حمل عرضي، غريزة تكاثر وطبيعة توالد، نزار ظهر على حياتنا العربية في قرنها الفائت حتى يكون للقرن هذا قرين في البلاغة والظهور والتشكيل، حادث كحادث نزار قباني لا يماثله إلا البحتري أو المتنبي أو ابن خلدون أي الكفة الراجحة للأم العربية التي أخرجت إلى الربيع فطاحلها وهواميرها وهوميروساتها·· فمن منكم أيضا تخيل عصرنا هذا عصر المحيط والخليج والدين والديناميت وإسرائيل الكبرى وعصر السادات وعبد الحميد كشك وخالد الإسلامبولي وشادية وفيفي عبده من دون نزار قباني، والحقيقة مستحيل ذلك فهو من جاء ودخل وأدلف ودلف ولم يستأذن ولم يطرق في الطرق ثلاث مرات ولم يتهاد الهويني في مشيه وسعيه، كان سعيه القداس، شعره السرقة الموصوفة الشرعية، وديوان كلمه مواضع للَّهو وشرب الجعة وأكل المازات اللبنانية والدمشقية، طلبته الأرض، احتج لوجوده الربيع، وتنادى لشعره القاموس المحيط والبحر المحيط ولسان العرب·· جاء نزار قباني إلى حداثته المخصوصة به، فهو من صنعها ودبجها من شطارته ومن قماش متجره المتواضع الفخم الرخيم، إن مشكلة التيار اللاَّنزاري مع قباني هي مشكلات، منها السلفي الإخونجي، الصوفي الطرقي، العلماني الماركسي الطبقي، الاجتماعي العرفي، الذوقي اللساني، الحسّي الإباحي، الديني العقائدي، الشعبي النخبوي، العاطفي النسائي الذكوري، السياسي الديكتاتوري السلطوي العسكري. ففي موضوعاته تتسيد الرؤية وتتضح الإستراتيجية، إذ كان الشاعر الثائر الدمشقي محارب الحداثة ومقتدرها في البر والفج والبحر، محارب الحرية الذي تنقل في المواقع الحياتية الشخصية والشعرية النثرية الكتابية تنقلات محسوبة لنسقه وسياقه - كما قلنا- وربما كانت المشكلة هي في الثقافة العربية على الأجمل والأعم، فعباس محمود العقاد هو من قال في نزار وأنكر وتكاذب، من هو هذا نزار، مجرد بائع صور عارية، مراهقاتي صغير، الشيخ علي الطنطاوي لم يسامحه ولا تلطف مع شعره فقد ذهب هو الآخر مذهبا معه في القسوة والشماتة وواصل معه هكذا مجايلوه ومعاصروه، محاربين لا محازبين لهم صليل السيوف والعقد الفرويدية اللاشعورية ولهم جرح الأقران ومزاعم التعديل النقدي، فكانت الثورة، النقد، الكتابات، الملاحم الرّديّة والردعية، الدين والردة والتجديف، حماية الحمى والبيضة والوطن، المجاذيب والمسطولين ومحترفي الشعر العمودي الطويل جدا، فترات صاخبة واضطراب واضطرام ونار غيرة، لكن نزار صار ينتمي إلى عصره، العصر النزاري، الأحلام والرغبات، المعاني التي تلبس ما قل ودل، الملابس القصيرة المؤاتية للنزول إلى البحر والنزهة والإصطياد أيام الجمعات والآحاد. إذا اختير لنزار العصور ومن بينها كثيرات، أين سيعيش، وحيث سيسكن فإنه سينحاز إلى عصره المسمى به وعليه، المتناسب على ذوقه، مساحة موته ولون عينيه، إنها الحقيقة تسطع في الليل تتكشف، إن نزار قباني في نازلته الشعرية العظمى تقدم أكثر وبإقدام على الخرائط والجغرافيات والموضوعات، المرأة والسياسة، الدين والجنس، الحاكم والملاَّ، الراهب والفاجر عاكسا بذلك مرآة صقيلة للفرد العربي ومجموعاته العرقية والمذهبية والطوائفية والمناطقية، يقين جمالي قضى عليه، نظريات نقدية متكلسة حفر عليها اسمه ونبوغه، طهر أكاديمي دنّسه نزار بمائه الشعري، ماء بُقين الدمشقي والنيربين وماء ضهر البيدر وضهر الشوير وماء كل البحور. أتراني لا أقدر، لا أتماسك، فأرثيه كغيري، لكني لا أفعل فلكل نزاره وأنا لي نزاري، نزار قباني المخلوق الشعري الجميل، المخلوق النثري الجميل، المخلوق الجمالي الجميل، يرسم بالكلمات يُغنيها ويغنيها له عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة، وفيروز الست وشادية وكاظم الساهر وأصالة نصري وعاصي الحلاني، يصير نزار كائنا غنائيا منصرفا إلى طربه ورنين جوامعه، يدخل نزار بكاستياته وأشرطته السمعية إلى البيت العربي، يقتحم في الصولة وفي الجولة، يدعس، يعفس النقاد ومنحنياتهم البيانية وتجريحهم الفني المتخاذل كان منهم كثير، كثير، علي الطنطاوي، عباس محمود العقاد، محي الدين صبحي، عبد الكريم نجم، أحمد القطان، خطباء الوهابية، الأخلاقيين، الإسلاميون العالميون، عرب لندن الصغار، يدخل نزار البيت وغرفة الاستقبال والطعام والنوم والتخت، وإذا ما خرج فإنه لا يخرج إلا على صهوة وردة أو حضن فراشة أو أذرع أحبة يسيّجونه على شغف وعلى رفق وتوؤدة ومهل ويصلون عليه صلاة أخيرة ليست هي الأخيرة.. شيخ الطريقة النزارية ليس في تعاليمه أشياء في العقائد والنبوات لا يلقي في الناس شعره ويرحل، يقول سجعا غير موزون وغير مقفى ويرحل، بل إنه بارع في المعادلات اللغوية الأخرى، مكان حائزه غير خاسر في النثر والأدب السياسي والمقالة الصحفية والأوتوبيوغرافيا وأدب الرسائل والرحلات والخواطر الذاتية وتقارير الدبلوماسيين، فنون يزاولها نزار فكأنه خريج من معاهدها، متمرد على أسوارها وأسوار مدرسيها، عنده الكتابة عمل انقلابي نثري، إذ السلطة نثر عام، بلاغ عسكري عام ونثر نزار قباني هو نثر احتجاجي شرس ضد السلطة القمعية، ضد الدولة الأعرابية، ضد المذاهب الباطنية والفكر السري الوبائي القومجي العروبي الساقط في البركة الصهيونية ''الكتابة الحقيقية، هي نقيض النسخ، نقيض النقل، نقيض المحاكات الزنكوغرافية أو الطباعية''، الشرط الإنقلابي ضروري، فريضة عين لا كفاية، إعلان العصيان على كل الصيغ والأشكال الأدبية التي أخذت بحكم مرور الزمن شكل القدر أو شكل الوثن·· أن تكون كاتبا عربيا، في هذا الوطن الخارج لتوه من غرفة التخدير والعمليات، دون أن تؤمّن بالشرط الإنقلابي معناه أن تبقى حاجبا على باب السلطان عبد الحميد في الآستانة، أو عضوا في حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا، أو وزيرا بلا حقيبة في حكومة المحافظين في إنجلترا. إنه الشرط النزاري يبدو في الحاضر الشعري والنثري العربي مغيب، مبني للمجهول والمجهول هو من له مصلحة في التغييب، انتهت المعارك النبيلة للشعراء وللحرافيش في المقهى الأدبي وتكسرت نصالهم على النصال، انتهى الشعر الذي يدكّ، يفقأ، يفقس، أو يشدو، يرنم في الداخل ويرقص حافي الوجدان والأقدام، صارت الكتابة عجينا وخلطة وأكذوبة سلطوية، إذ الكتّاب صاروا وزراء في حكومة التناوب على الإفلاس·· كان نزار قباني يرسم بالكلمات ويعلم ويلقن الحكم، يسرق من السياسة مقالة الحب ويسرق من الحب البهار الحارق ضد الديماغوجيين.. الشاعر بيني وبينه القصة والحكاية والقنديل الأخضر·· قنديل أخضر سلمتني إياه امرأة ورحلت قبل صفير قطار الضواحي !!!