كلما عاودنا شهر كهذا مبهر، طلق، شهر محبة وشموس حيث كسل الظهيرة يتحرش بنا عند الصباحات، حيث الشعر يرقب موسيقاه، وحيث الموسيقى تطلب الوتر الثاني، كلما عاودنا /مارس/ الجميل فينا، الداخل فينا، استدعيناه، تذكرناه، ذلك الذي عشقناه والكتب، عشقناه في لغته، في نثره، في جنون ثورته وفي اكسسواراته ولوازم حبره وريشته، في الواحد والعشرين من الربيع انبعث نزار قباني حاضنا الطبيعة والناس، الحجر الصلد إذ تستنطقه شفافية الماء، البحر إذ يصخب بموجه وزبده·· كان ما كان نزار قباني، استعصى على التصنيف، استعصى على المذهب، استعصى على الرؤية، ملأ سماء دمشق، كان يرج ماءها الآسن بينبوع سلسلة فيها ومن تاريخها، وقبل كل شيء من الحياة اليومية في أقرب تفاصيلها إلى أشياء الإنسان، كان يٌعلم هذه الحياة كيف تتحول نفسها إلى قصيدة، على هذا النحو، بهذا التعريف كتب شيطان الحداثة ومهووسها الكبير أدونيس، بدا نزار قباني في المفترق الوعر آنذاك، أمام ذائقة مربعة لا تقبل بالمحاولين الجدد، ورأي عام أدبي ملازم لحضرة الحطيئة وتكايا أبو الأسود الدؤلي فضلا عن لا جهوزية تامة لتقبل الرجل بوصفه هو الأسلوب واللاعب بالنار ومغوي بالمرأة فلا تكون الدنس ولا تكون ملاكا ولا تكون بياضا بل هي سيرة على حبال الغسيل تتنظف من ما شاب بها ويشوب، أفعالا حوَّلها نزار إلى أسماء ورمزيات، بالكيفية التي تستعيد بها فرنسا رينيه شار وجاك بريفير وأرثررامبو نستعيده، هكذا يجب، نثر يؤوَّله وشعر ينوَّع على تنويعاته ومقاماته، لكن هذا الشغل الوضيء، المعمَّر، الناحت بإزميل يثقب ويتعرج يمنة ويسرة، هذا الشغل الاحتفائي لا يصير مع شعرائنا نحن العرب فنحن مقطوعون عن الوصل، مقطوعون عن ليلى إلا إذا غنيناها كما أرادت هي، مقطوعون عن جسارة مغامرات تواصل في الضرب على ارض بيقين، وتواصل هزم كل ما هو نظامي، حمائي، تحفظي ومثير للمخاوف مما كان يعلق في سماء العرب ولازال منذ دمشق الأولى، دمشق نزار قباني الأولى يوم كان يرج ماءها الآسن بينبوع سلسلة فيها ومن تاريخها وقبل كل شيء من الحياة اليومية في اقرب تفاصيلها إلى أشياء الإنسان· هكذا جاء مخلخلا للمواضعات، تالفا للأوراق القديمة ولكل فنون الغش البلاغي والصرفي والنحوي الذي ينقع مياه العالم العربي فلا يترك للصفاءات لمحة وحيدة وموجزة، وكيما يكتب عنه دائما بالتوصيفات ذاتها التي ظهر فيها قباني في مسلسل عنه، فذاك سهل غير ممتنع على أحد، كتابة صالون وآرائك، وسامة وطفولة نهد، ملوحة نساء ودخان، قلم باركر وعطورات نيناريتشي، جريدة ماجدة الرومي وستايلات كاظم الساهر، فبالكاد تلك كتابة سهلة تزن بمقادير الرأي الأدبي العام والذائقة التي لم تتغير، شعوبي، مراهقاتي، نرجسي، دون جواني، جماهيري، وله أوصاف أخرى من زمان علي الطنطاوي والشيخ أحمد القطان، إلى زمان أحمد مطر وما قاله فيه قبلا غالي شكري ورجاء النقاش· هكذا ظهر وتبدى وفعل نزار قباني، ما لم يظهر عليه ويتبدى من خلاله ويفعله سعيد عقل ويوسف الخال وبدوي الجبل وبدر شاكر السياب الذين حاموا حول الشيء ولم ينجزوا إتمامه، صنعوا الأقفال والمفاتيح ولم يدشنوا أبواب جديدة للتجارب والوقائع، ظل الشحوب مستمرا والوعي منقوصا حتى دبَّ ربيع نزار ودبت شمس نزار ولغة نزار، كانت كلماته رهيفات منزلقات كأية دخيلة تنزل أدراج المرمر تختال، كانت اللغة غير اللغة والزجل غير الزجل والتبدلات غير التبدلات في السياسة وفي الدين وفي الحب وفي الرغبة حتى جاء كحامل نبوءات وبطاقات خلاص وتعاويذ حكمة· في المقام الذي أحرص عليه الآن هو المخصوص في ذكر محطات شعره وشعريته، تمرحلاته، وانبثاقاته، متابعته نقديا وإعادة قراءته فلن يذكر فيه إلا محض مكرور نال من الحصص ما نال ومن الخطابات حوله ما ناله، بل إن زحف الربيع وخيلائه هو ما يلعب في بئر الذاكرة، إحياء غيابه، الاحتفاء به عاشرا وتسعة عشر كما تفعل فرنسا بشعرائها حيث تفعل ما تفعله بالنبيذ والاجبان والعطور والقبعات الشتوية· رغم ألبوم شعره الوسيم يتدفق بين الأصابع صورة بعد صورة، رغم المجادلة الحسنى وغير الحسنى التي تنكبتها دواوينه الصغيرة الأنيقة كالعقود وكالخواتيم وكالطفلات الصغيرات بين المروج والمعاني كان له في المقال النثري حظوة استباق لم يقدر عليها إلا قلة من الكتاب فإن النزيف الشعري لا يترك الإمتاع على حاله، والشاعر ضحية ربته، ملهمته، زائرته في آناء الهزيج، غير أن نزار قباني خرج من حديقة الشعر الفسيحة مهرولا إلى المقال النثري، إلى احتمالات النثر في ألوانه اللامحدودة برشاقة نادرة البروز عند الآخرين وقليل ما هم، كمحمود درويش وأنسي الحاج ومحمد القيسي ومحمد الماغوط، كان يقول عنها أنها عمل انقلابي هذه الكتابة، انقلابي ضد الماضويين وضد النوَّم الكسالى وضد الحداثويين الذين يكتبون بالحروف التي لا يفهمها البحر ولا تقوى على نشرها الرياح، ضد السياسيين التائهين في كل درب وضد الدروب المفضية إلى الآمال الكاذبة، كتب مقالاته عن دمشق وبيروت والجزائر والخرطوم وهو يسكب أقماره البنفسجية على ما هو سياسة وثورة ودراويش وقبيلة· حتى، حتى في السياسة يوشوش نزار بكلماته كأنه يغلف الهدايا، يوزع الفوتوغرافات وينظر خلف الغيمات مطر تعد به امرأة عربية من زمن الخنساء تأتي أو من زمن الجوكندا تأتي أو من زمن فاتن حمامة تأتي، هذا الذي يعبر عنه بالحب السياسي ابهر به نزار جمهوره إذ راح يلقي عليه لا الشعر كما هي أمسياته بل الخطابة وفنونها مثل سبحان بن وائل إذ كان في السياسة شاطر، شاطر لا يعمه في أقاويل ولا ينسخ غير أسلوبه هو، عادى السادات والساداتيين، لم يسره ذهاب المطبعين إلى أوسلو أو مثقفي الآفرواسيوية الذين ذهبوا إلى كوبنهاغن وكان منهم لطفي الخولي، مجَّد مرحلة من صدام -ولم يعتبر ذلك خطأ- فهو أحب بلقيس الرصافة والكرخ والدجلتين، أحب الرئيس الياس سركيس وشتم لبنانيين مجهولي الهوية طمعوا في سوريا وهي تدبر لهم شأنهم المنزلي وصحن تبولتهم وهكذا كان وظل· حتى في حواراته كان يجدد في نغمة التعبير ويعرف متى يعلي /الدوز/ ومتى يخفف ومتى يستعين بصديق ومتى يصمت ليترك جان كوكتو يتكلم /الكتابة ليست سجادة فارسية يسير فوقها الكاتب والكاتب يشبه ذلك الحيوان البري الذي كلما طارده الصيادون كتب أفضل/، في حواراته كان يهجر قناعاته قليلا كي يعاود التسديد مرة أخرى، في حواراته النثر المركز ذلك الذي يلبق بان يجمع، يؤرشف، يبوب، توضع له مانشيتات حديثة ويكتب عليه أصيل بخط نزار قباني الذي لا لا يقلد ولا يماهى ولا يشابه· إن المعنى الذي راح نزار يلاطفه في خبز وحشيش وقمر لم يكن غير مفتاحه للفجيعة العربية فكما كان يقول تماما أنه لم يأت إلا بما عنده عن ذلك العربي الذي يتعامل مع عربيته كجمعية للانتفاع العام وذبيحة في المولد النبوي الشريف أو مؤسسة استخارة وتنجيم وطالع كف هكذا كانت في الإرث المكتوب وهكذا أريد لها كي تتطابق مع الحالة السياسية وهكذا رغب الحراس في ممالك العقاب أن تظل شعرا ونثرا، لكن قباني لم يعجبه لا الحال في الناس ولا الحال في الدولة وأركانها· طلع على العرب بحرائقه، يستميلهم قليلا يلعب مع وعلى أعصابهم، يضع أرجلهم في محلول البابونج ويكذَّب كذبهم بعد إعجاز وحلقات تليفزيون وطلاء وطنين· نرافقه في غيابه ونحن نتواصل مع طربه الذي تركه في الأشرطة المعتقة مثل ذلك يتنزل علينا بصوته الاستثنائي على السيديات، نرافقه في اللغة الثالثة التي أوصانا بها ناكثا العهد مع الشعرية الأحادية، نرافقه إلى موعده في الغياب الربيعي هذا، نفتح بطاقاتنا، نتملى، نتفرج، الخط الشرقي، صورته والطفولة البعيدة، بيته ومخدته، رسائل الحب المدموغة بالأزرق الوحشي، مقالاته في جريدة الحياة، أبجدية ياسميناته، وآخرا مرثياته عن الموتى وعن بلقيسه وأخيرا نفتح أوراقا لهؤلاء الذين كتبوه عن موته لا الشعر شعرا كان معه ولا النثر نثرا، ولا هذا القصيد تمناه أحدنا أن ينتهي·