هو أحد صباحاتي الباردة يتكوّم غيمه في روحي، أقف في المطبخ أعدّ القهوة، تربّت رائحتها على شيء بداخلي، تتسارع حركاتي وأنا أضع على المائدة الفناجين، علبة المربّى، علبة الزبدة، تصطدم يدي بيده وهو يضع طبق الجبن، تتغلغل نظراته في روحي، آخذ مكاني في المقعد المقابل له، ينحاز والده إلى المقعد الذي بجانبي، يكسرنا الصمت، ترتشفنا القهوة في غفلة منّا، يحوّل نظراته عنّي وتبقى نظراتي متسمّرة في شعره الكستنائي، في عينيه اللوزيتين، تشدّني أكثر تلك الزغبات تحت أنفه والتي بدأت تتطلّع إلى رجولته، قريبا سيصير رجلا بشارب، كلّها أيام ونحتفل بعيد ميلاده السابع عشر، ابني رشيد أصبح رجلا .تأنيبي له ليلة البارحة عن الفوضى التي يحدثها في غرفته كل يوم، ذكّرني بما قالته لي أمي في آخر زيارة لنا للوطن منذ سنتين: - هذا الطفل يجب أن يعاقب، إنه مشاكس جدا، لقد دللته كثيرا. قلت لها يومها: - ممنوع ضرب القصّر في البلد الذي نقيم فيه، قد تأخذ المساعدة الاجتماعية الأولاد من أوليائهم إن ثبت ضربهم لهم. الدهشة أسكتت يومها والدتي، وصراخه ليلة أمس في وجهي أسكتني، ويا ليته قالها بلغة عربية، قالها بلغة أجنبية: - هذا شأني، وهذه غرفتي، كفاك تدخلا في حياتي. عزائي الوحيد أنه فهم دموعي العربية، واعتذر .انتبهت من شرودي على أزيز الكرسي وهو يتحرك، يستعد والده للخروج، سيطبع على خدينا قبلة وينصرف، ثم ينسى بأننا موجودان. فهو مشغول بالعمل في الصباح وبعد الظهر أيضا، مشغول بما قد يحصل عليه من مال إضافي يعزز الأمل لديه بأن الفرج قريب يسقط عناء كبيرا عن كتفيه. أبقى وجها لوجه مع ابني رشيد، يقف وهو يركز نظراته عليّ، أقف لتقودني قدميّ إليه، أصلح وشاحه، أساعده في لبس قفازاه والصمت يغزل شيئا لا مرئيا بيننا، إنه يعتذر لي في صمت وأنا بحاجة إلى كل الوقت الذي ضاع مني هنا ليعتذر لي .حملت حقيبته، ناولته إياها، اقتربت منه أكثر وقلت له بكلمات متدافعة :يوم الخميس عيد ميلادك. ثم رفعت يدي بسرعة لأطبقها على فمه، لم أشأ أن أسمع رده، أدرك بأنه سيكون بلغة أجنبية، رد يشعرني بخيبة جيناتي .فهم إشارة يدي، ارتمى في حضني، احتضنته كما كان لا يزال صغيرا، كان فرحتي وتعويضا لي عن خسارتي بغربتي وفراقي لوطني .انسلّ من حضني، خرج مسرعا ليلتحق بدروسه وبقيت وحيدة على كف وقت لم يرحمني .انتبهت إلى أن والده لم يشرب فنجان قهوته كاملا، كالعادة النصف يكفيه، هو لا يريد تضييع الوقت، أو كما يردّد دائما :علينا أن نعرف قيمة الوقت، هنا من لا يعرف قيمة الوقت ينتهي. أرتمي على الكرسي، أتأمل نصف الفنجان الفارغ، أفكر في الهدية التي أقدمها لابني رشيد في عيد ميلاده، أفكر في والده وفي غربتنا .أغيّر ملابسي وأنزل إلى الشارع، هذا الشارع هو أكثر شيء يذكّرني بغربتي ووحدتي ويرسل أحلامي فراشات وأنا أتتبّع خطوات عازف الكمان المندس في معطف بال، ينتصب أنفه الدقيق وسط وجه نحيل تتسع فيه عينان زرقاوان بصفاء سماء هذه المدينة ..يقف كعمود كهرباء، فأقف وكأنّ الأرض توقفت عن الدوران لتصغي لموسيقاه وهو يذبح شيئا في الوتر ليحرّر سحرا خالدا يتدفق إلى أعماقي .لا أبالي بالبرد، بل إنه يزيد من متانة علاقتي بمعطفي الذي اتخذته صديقا وفيا، أتقاسم معه لحظات الاستماع إلى العزف على الكمان حين يتركني وحيدة ليجمع ما يكفي من المال، فقد حفظت ردوده كلما طلبت منه مرافقتي إلى هذا المكان: - الغربة صعبة، لم أتغرّب عن وطني لأضيّع الوقت، يجب أن أشعر بالفارق في المستوى المادي، أنا تركت بلدي لأنهم كانوا يعطونني مقابل جهدي الكبير دريهمات لا تسدّ رمقي، تحوّلت إلى كائن هاجسه الراتب الشهري وكيف يتدبّر أمر سكن لن يحصل عليه إلا إذا ولج الجمل في عين الإبرة. قد أكون الوجه الآخر لعملته هذه التي لم تشبع نهمه، أنا امتلأت بالكمان وكبّلتني أوتارها إلى هذه الشوارع المبلّطة وهذه السرج العتيقة وتلك الأشجار التي تعرّت من أفراحها كفيلسوفة تتأمّل ركضنا وقبضنا على الري..ي وكأني بها تتقاسم معي أصلي العربي، فهي العربية كانت في الأصً الرباب وجاءت إلى الأندلس لتصير كمنجة ظلت تبكي بنغم شارد عمرا تاه منها ومن الأندل¢ù. لقد حدّدت هذه المدن هويتها، أما أنا فلا زلت ها هنا أقف بجذوري على أوتارها بحثا عن وجهي الجديد المنسلخ عن ملح بحرنا الذي نأى عني ولم أعد أرنو إليه بعينيّ كلما مالت الشمس إلى المغ«ب. يستوقفني وجهي على واجهة محل، تطل أرنبة أنفي وقد ازدادت احمرارا من شدة البرد، أدسّها في فرو معطفي وأتساءل في أعماbي: - هل كنت بحاجة إلى كل هذا البرد لأطفئ نارا تتأجّج بداخلي؟ يحتويني معطفي متجاوبا مع نوتات سمعتها أكثر من مرّة، ولا زالت فراشاتها بنفس الألوان تدغدغ روحي وتنطلق عميقا بين ثناياها، تحبس أنفاسي وتستلّني من بلاط الشارع إلى غيمات مسافرة فوق جليد ذلك الجبل البعيد الأبيض الشاeخ. أنزع قفازي لأصفق للعازف، وأضع بعض القطع النقدية في قبّعته التي نزعها عن رأسه ليحيّي.»و. أتراني كنت جمهوره الوحيد وقد قضيت النهار كله هنا، سمعت كل المقطوعات التي عزفها، أم أن وجهي صار مألوفا لديه؟ أم تراني أكون الأكثر وفاء لبؤسه، مثلما صار معطفي الأكثر وفاء لحزني وغربتي، أو أنه آريون الليسبوسي أراد أن ينقذ نفسه من البحاQة بعزف لحن وفاته فأصغت إليه الكائنات جميعها، ولما قذف بنفسه في البحر تلقاه الدلفين وحمله على ظهره إلى الساحل؟ الفكرة خلخلت شيئا بداخلي، أعاده إلى توازنه رنين هاتفي المحمول، سحبته من جيب معطفي، لأجده يطلّ عليّ من هنالك بصوته مستغربا طول غيابي وتضييعي للوقت أو كما يقول لي في كل مôة: - مازلت وفية لوقت ممتدّ لا محدود في عالمنا المتخلّف هنالك في الضفة الأخرى، هنا لعُشر الثانية قيمته احفظي هذا جيَا. تباطأت في مشيتي، كنت بحاجة لأمتلئ بشعور افتقدته هنا، هو أنني أنا ملكة الوقت، لا شيء يلاحقني، وأنا مستعدة لتحمّل تأنيبه لي وتذكيره لي ككل مرة بأننا ممنوعون من تضييع الوقت، الذي يضيع الوقت هنا سيفشل ويعود إلى بلده خائرا. أخطو بخطواتي الرتيبة لأعبر عتبة الباب، أدلف البيت الخشبي، ابني رشيد يلتهم وجبته، يعيش في عالمه، تربطه به أسلاك ثبّتها في أذنيه ليعيش صخب الموسيقى وموت وقتي، وزوجي واقف متأهب للصراخ في وجهي، تحتويني عيناه ببريق لا أفهمه، أتوزّع بين رغبة في سرد حكايتي مع الكمان ومتعة أن نسمع ألحانها الشجية التي تشبه دموعنا ولها مذاق ملحها، وبين رغبة في الاعتذار عن حمقي، أو الاعتذار عن وضع جعلنا نهرب من اللامحدود الخانق في وطننا إلى المحدود القاتل هو