يعتقد عامة الناس أن المواطنة تتلخص في الحضور المادي في بلد ما أو أنها تتلخص في مجموعة من الحقوق التي لا يقابلها أي التزام، وهذا الاعتقاد خاطئ لسببين أوّلا لأنه يقوم ضمنيا على خلط بين المواطن والمواطنة. وثانيا لأنه يخلط بين المواطنة وأصناف الانتماء الأخرى سواء كانت ثقافية أو دينية أو إيديولوجية أو اجتماعية في حين أن فهم المواطنة يقتضي تحديدها في علاقاتها بالسيادة السياسية وبالديمقراطية وهو ما تفطّن إليه «أرسطو» عندما أقرّ المواطن كما حدّدناه هو على الخصوص مواطن الديمقراطية. الديمقراطية ليست شيئا آخر عدا سيادة الشعب للشعب، وهذا يعني أن المواطن هو عنصر فاعل في الحياة العامة، عنصر فاعل في المدينة، ذلك أن كلمة مواطن الفرنسية «Citoyen»مشتقة من كلمة«Civitas» اللاتينية والتي تعني المدنية أو الجمهورية، وبالتالي الدولة عنصر فاعل في المدينة وهذا يعني أنها عنصر فاعل في الاجتماع السياسي وبالتالي في الدولة التي يكونها الشعب الذي يمارس السيادة على نفسه، وفي النظام الديمقراطي المواطن هو من يشارك في السيادة الشعبية، فيمارس حقّ الانتخاب ويختار التوجهات العامة في تدبير شؤون الحياة السياسية، هذا الترابط بين المواطنة والديمقراطية جعل «جون جاك روسّو» "أقرّ بأنه حالما يوجب سيّد لا وجود بعد لشعب يتصف بالسيادة" فلا يمكن الحديث إذن عن مواطنة في إطار حكم استبدادي، وبالنسبة ل«روسّو» تسمح الإرادة العامة بالمصالحة بين الحرية الفردية والسيادة الجماعية ذلك أنّ كلّ فرد يتعاقد مع كامل الجسم السياسي، وكلّ فرد هو صاحب سيادة وبالتالي يشارك في سيادة الدولة من جهة كونه مشرع مشارك في الحياة العامة ورعية في ذات الوقت من جهة كونه خاضع لقوانين الدولة التي شارك في تشريعها، وهو ما يتحقق في الدولة الديمقراطية. المواطن مسؤول إذن عن الحياة المدنية، فهو من يمارس المواطنة التي تتحدّد في هذا المنظور باعتبارها علاقة ولاء للسلطة السياسية وحماية للمواطن من هذه السلطة بما في ذلك الحماية الدبلوماسية للمواطن في غير وطنه، فالمواطنة هي المشاركة في الحياة السياسية وهي ممارسة وضمان للحقوق المدنية والسياسية، والمواطن هو فردٌ ينخرط في سلطة الدولة وفي حمايتها، وبالتالي يتمتع بحقوق مدنية ويقوم بواجبات تجاه الدولة التي ينتمي إليها، وفكرة الانتماء هذه تحيل إلى كون المواطنة ترتبط عموما بهوية وطنية خاصة، وبالتالي ترتبط المواطنة بالتحيّز الإقليمي والتاريخي الذي يعين متغيرات انتماء الأفراد، وفكرة الانتماء هذه تمثل مصدر خلط عامة الناس بين المواطنة والحضور المادي في بلد ما في حين أنّ المواطنة تتجاوز محدود الحضور المادي مثلما أقر ذلك «أرسطو» في قوله "لا يكون المرء مواطنا بمحلّ الإقامة وحده"، كما أنّ فكرة الانتماء تربط المواطنة بثقافة وطنية تغذيها الذاكرة الشعبية، وهذا الرابط بين المواطنة والثقافة الوطنية يمثل مصدر الخطأ الثاني الذي يخلط بين المواطنة وأصناف الانتماءات الأخرى، خاصة وأنّ هذا الخلط يفتح على مخاطر قد تؤدي إلى الاستبداد السياسي، بما أنّ هذا الخلط يقضي على التنوع والاختلاف الخلاق، وهذا يعني أن المواطن بقطع النظر عن انتماءه الثقافي أو الديني أو الاجتماعي أو الأيديولوجي يمارس، وبطريقته الخاصة، المواطنة كما تحدّدها قوانين الدولة التي ينتمي لها، ومن هنا بالذات تتولّد ضرورة التمييز بين المواطن والمواطنة، وهكذا يمكن أن نستخلص مما تتقدم أن المواطنة تتحدد في ثلاث مستويات: - المستوى الأوّل تتحدّد فيها المواطنة باعتبارها مثالي «Ideal» بمعني قيم محفزة. وتتحدّد في مستوى ثاني باعتبارها مجموعة متمفصلة من المعايير السياسية والحقوقية، أي مجموعة من الحقوق والواجبات التي تضفي الواحدة منها الشرعية على الأخرى وتسهر السلطة السياسية على رعايتها بطريقة ما. - وهي في مستوى ثالث مجموعة الممارسات الفعلية التي يقوم بها المواطنون ليشاركوا بطريقة فعالة في تنشيط الحياة الجماعية في إطار الدولة. وباعتبارها قيم ومعايير وسلوكات اجتماعية فعلية لا يمكن القول بأنّ المواطنة طبيعية بل هي عنصر ثقافي يُبنى تاريخيا وبالتالي مكسب يُمرّر كي يتواصل ويتطوّر، ولذلك ترتبط المواطنة بالديمقراطية وبالتالي بالسيادة،غير أنّ ارتباط المواطنة بالسيادة يجعلها على كفّ عفريت إذ تكون وضعيتها حرجة للغاية ويمكن أن يفقدها الفرد كلما عمد إلى نسيان طبيعتها أو كلّما فسدت الديمقراطية فالسيادة عند «روسو» كما هو الحال عند «منتسكيو» غير قابلة للقسمة ثم هي مطلقة بما أنها فوق القانون، إذ هي التي ترسي القانون والخطر يتأتى من ربط السيادة بالدولة، إذ قد تتماهى السيادة مع الدولة مثلما هو شأن الخلط بين الدولة والمجتمع المدني وهو خلط حذّر منه «هيغل» عندما نقد نظرية العقد الاجتماعي، فالخلط بين السيادة والدولة والمجتمع المدني والدولة يؤدّي إلى ما سمّاه «سان سيمون» بدولة المجتمع «l Etatisation de la societe» أي سيطرة الدولة على كلّ هياكل ومؤسسات المجتمع المدني فنسقط في نوع جديد من الاستبداد السياسي، ولكن نوع خطير بما أنه استبداد باسم الديمقراطية سمّاه «توكفيل» بالاستبداد الناعم، ثم إنّ المماهة بين السيادة والدولة قد تؤدّي إلى تصوّرات تجزّئ السيادة مثلما هو الشأن مع «غروتيوس» الذي يحدّد السيادة باعتبارها مجموعة مهام يمارسها صاحب السيادة مثل سلطة "صكّ العملة"، سلطة إقامة العدالة وكلّ المهام التي تقوم بها الدولة والتي تسمى في السجلّ السياسي الحقوقي المهامّ الملكية التي تؤسّس قوة الدولة والتي يمكن التفريط فيها، والسيادة بهذا المعنى تكون قابلة للقسمة ولذلك كان «روسّو» قد انتقد تصوّر «غروتيوس» للسيادة وأقرّ بكون السيادة كاملة وغير قابلة للقسمة، ذلك أنّ السيادة في معناها الدقيق هي السلطة العليا، والذي يمارس هذه السيادة ليس له سلطة فوقه، فمهامه لا ترتبط بأي سلطة أعلى منه، وهو ما يتضمن كون صاحب السيادة حر بصفة كاملة و مستقل، وهذه الاستقلالية و الحرية للسيادة تظهر في مستوى الحق التأسيسي في الدول الديمقراطية، فالشعب حر في أن يشرع القوانين التي يريد، وحر في أن يراجع الدستور متى شاء، بل وحر حتى في تجاوز الدستور حسب بعض الحقوقيين، كما تظهر هذه الاستقلالية في مستوى القانون الدولي فكل شعب حر في تقرير مصيره ويتمتع بمساواة حقوقية مع بقية الشعوب، ذلك أنه إن كانت سلطة السيادة عليا فإنها بالضرورة غير قابلة للقسمة وهي حق غير قابل للتصرف إذ لا تستطيع أن تكون عليا وأن تتنازل عن جزء من سلطتها لفائدة أي جهة أخرى في الوقت نفسه، ومن هذا المنطلق يميّز المنظرون الثوريون في الحق التأسيس بين السلطة العليا "السيادة" وأجهزة الدولة، فبالنسبة ل«روسو» الدولة لا تمثل صاحب السيادة الفعلي فصاحب السيادة هو الشعب الذي لا يقاسم ولا يفوّت في إرادته، يقول «روسو» "إن السيادة التي ليست سوى ممارسة الإرادة العامة لا يمكن أبدا أن تكون محل تنازل"، أمّا الدولة فهي من يعطي القوة الفعلية لهذه الإرادة، ذلك أنّ «روسو» يعتبر أن الشعب هو صاحب السيادة من جهة كونه يمثل الإرادة العامة، وسلطات الدولة ليست إلا تعبيرات عن هذه الإرادة فالدولة لا تتكلم ولا تفعل إلا باسم الشعب وبالتالي تجد الدولة دائما حدا داخليا لفعلها، وإذا كانت السيادة غير قابلة للقسمة أو التصرّف فيها، فإننا لا نستطيع أن نقول نفس الشيء عن سلطة الدولة التي يمكن أن تقسم ويمكن أن يفوت فيها جزئيا، لذلك فإن كل خلط بين السيادة وسلطة الدولة يؤدي إلى النظم الكليانية وبالتالي تهديد المواطنة بما أن المواطنة لا تتحقق إلا في النظام الديمقراطي، لكن النظام الديمقراطي السليم الذي يسعى إلى تحقيق العدالة والمساواة. ويجب أن نلاحظ أنه ثمة اليوم عدو آخر يترصد بالمواطنة والسيادة معا،إنه هيمنة الاقتصاد والسوق الكوني على السياسي، هيمنة تتجلى في العولمة كادعاء للكونية، وأول تداعيات العولمة على المواطنة تتمثل في تحويل المواطن إلى مستهلك في سيرورة تحويل وجهة عندما لا يتعلق الأمر بتحويل مقصود ومعلن، وهذه العملية تنخرط في نزعة قوية تتمثل في الحط من شأن السياسة في مقابل إرادة الرفع من شأن السوق باعتباره المجال الكوني لسيادة المواطن، وهكذا تنحط المواطنة إلى أبخس تعبير عنها، وتتوقف حرية الاختيار لدى المواطن عند أنواع الاستهلاكيات في السوق، أما صناديق الاقتراع وبطاقات الانتخاب فتبدو في إيديولوجيا السوق تخلفا، و هذا الانزياح في معنى المواطنة الذي لا يكاد يرى، إذ يمرر باسم الديمقراطية ذاتها، يطرح مشكلا خطيرا على الإنساني، مشكل سلب عدد متزايد من الأفراد من مشاركتهم في السيادة، خاصة وأن الخيار الاستهلاكي لا يمثل خيارا عقلانيا بالنسبة للمصلحة العامة، لأن المصلحة العامة لا تختزل في مجموع المصالح الخاصة بكل فرد، وهو بالذات ما تروج له الفردانية في النظم الديمقراطية المعاصرة حسب «توكفيل»، وهكذا فإن الأفراد الذين ليس لهم الإمكانات المادية التي تمكنهم من الاندماج في المجتمع الاستهلاكي يجدون أنفسهم مستبعدين ومحرومين من حق التعبير في الحقل العام مثلما عبر عن ذلك «هابرماس»، والمواطنة التي كانت تمكن من تجاوز اللاعدالة في مختلف أصنافها و مختلف أبعاد الوجود الإنساني والتي كانت تمكن كل فرد من حق مساو في ممارسة السيادة الشعبية تركت مكانها للاستهلاك، ويبدو أن مجتمع السوق يعيد اليوم تأسيس نوع من حق الانتخاب الضرائبي في واقع تفشي الفساد السياسي في الديمقراطيات المعاصرة، وبما أن السوق لا يمكنه أن يعوض المنتدى الشعبي، إذ هو لا يمثل المجال الذي يستطيع كل فرد أن يمارس فيه اختيارا عقلانيا فإن الفرد المستهلك لا يمكن أن تكون له في السوق سلطة ديمقراطية، وتحوّل المواطن إلى مستهلك يعني نهائيا التخلي عن الديمقراطية الاجتماعية وظهور نوع جديد من النظام يسميه بعض المفكرين بالديمقراطية الشعبوية للسوق، نظام تختزل فيه السيادة الشعبية في علاقة تاجر ومستهلك، وهذا الواقع الذي شخصه «توكيفيل» في ما سمّاه بالاستبداد الناعم والذي حلله «أدورنو» و«هوركايمر» الذي جعل «ماركوز» ينتهي إلى رؤية تشاؤمية في نقده للمجتمع الاستهلاكي ذلك أن مجتمع السوق المحكوم بأوامر ماركانتيلية خاصة، أوامر اقتصاد السوق، لا يؤسس العدالة الاجتماعية خاصة وأن هذه الأوامر ليس لها ما يحدّها أو ما يعارضها في الوقت الراهن عدى بعض حركات المقاومة الشعبية المعزولة والتي تأخذ شكل مظاهر عنيفة أو مرضية وحتى لا عقلانية في منظور العولمة مثلما بين ذلك «بودريار» الذي يبدو أكثر تفاؤلا من «ماركور» بما أنه على الأقل يعتبر أن العولمة لا تستطيع أن تعلن نصرها طالما هناك مقاومة، غير أن الوضعية القانونية للمقامة تطرح مشكلا حقوقيا من وجهة نظر «كانت»، ذلك أنه ليس ثمة أي مقاومة للشعب ضدّ الحاكم المشرع للدولة تكون مطابقة للحق، فليس ثمة "حق عصيان" ولا "حق تمرّد"، و«كانت» يذهب إلى أبعد من ذلك إذ يعتبر أن "أبسط محاولة في هذا الشأن هي خيانة عُظمى ومن يكون خائنا من هذا الجنس، باحثا على القضاء على وطنه لا يمكن أن يُعاقب بأقل من الموت"، وفي هذا الإقرار يبدو «كانت» وكأنه يتكلم على لسان أباطرة السوق، أولئك الذين ينعتون بالإرهاب كلّ محاولة للتصدّي لنجاحات اقتصاد السوق المعولم، وربما ما يبرّر هذا التحامل الكانطي على المقاومة، هو كون المشروع الكانطي يندرج في إطار بحثه عن تحقيق سلم دائم، وشأن «كانت» كفيلسوف هو أن يتحرّك وفق خلفية أخلاقية تجعله يرفض العنف في كلّ أشكاله حتى وإن كان مقاومة للطغيان، وكأن به يسير على خطى «سقراط» عندما عرضوا عليه الفرار من السجن قبل إعدامه فرفض لأنه من واجبه احترام قوانين المدينة حتى وإن كانت جائرة. ولكن الفلسفة التي يمثل الاختلاف شأنها الملكي، جعلت «ماركس»ي عتبر أن العنف الثوري الذي تمارسه الطبقة الكادحة هو عنف شرعي، فعندما يجعل الاستبداد بعنفه محلّ الحق والعدالة يجب مقاومته، فالاستبداد عنف ومقاومة هذا العنف لا تكون بالنسبة ل«ماركس» بالخطاب فحسب بل وأيضا بالقوة خاصة وأنها تبقى دينامية يمكن التحكم فيها في مقابل العنف الذي يمثل دينامية مجنونة، ورغم إدانة «كانت» للمقامة فإنه ليس لنا أن ننسى إضافته في مستوى دعوته للكونية، إذ مكننا «كانت» من الربط بين مستويات المواطنة، بين مواطن الدولة والمواطن العالمي بطريقة تسمحُ بالمصالحة بين الحق وكرامة الإنسان، بين هوية وسيادة الشعوب وتآزر كلّ متساكني الكوكب بما في ذلك اللاجئين السياسيين الذين حرموا من حق حماية دولة خاصة، ذلك أن المواطنة العالمية عند «كانت» تقتضي الاعتراف بالآخر كآخر، فالآخر في هذا المنظور الكانطي ليس غريبا بصفة مطلقة وليس هو نسخة مطابقة للذات، والعالمية التي ينادي بها «كانت» تصالح بين خصوصية الشعوب والغيرية، تصالح بين الهوية والاختلاف، تبرز الكوني في الخصوصي والخصوصي في الكوني، ذلك هو شرط الحوار الأصيل الذي يمكننا من تجاوز المفارقة التي أحالت إليها «حنّا أرانت» بين الحقوق الكونية والتجمّعات الخصوصية، حسبنا فقط أن ننتبه إلى الاستبداد الناعم الذي شخصه «توكيفيل» والذي هو بصدد بسط سلطانه بخطى حثيثة في الديمقراطيات المعاصرة، ولكن علينا أيضا أن نحترس من العولمة والفضاءات الجديدة التي أنتجتها لتفعل فيما بعد الحدود الجغرافية وما قد تمثله من خطر على السيادة وبالتالي على المواطنة التي لا تتحقق إلا في ظلّ الديمقراطية، فالمواطنة تتكون عبر الحوار وتبادل الأفكار وهو ما يقتضي تفكيرا مناسبا حول دور الإعلام في المدينة، خاصة وأن الإعلام اليوم يتموضع في مشهد السوق ولا يهتم أبدا بتبادل الأفكار وإنما يهتمّ بخطابات الأوغاد والحمقى مثلما عبر عن ذلك «ميشال هنري» في كتابه "البربرية"، ثم إن دكتاتورية وسائل الاتصال تمنع كلّ نقد باسم حرية الصحافة، ونخشى اليوم من أن تهيمن الديمقراطية الاتصالية وأن تهيمن وسائل الإعلام فتغيب الديمقراطية، لذلك يجب استغلال العولمة لنعلن الواجب الملح اليوم، واجب رفعه «كانت» منذ الحداثة يتمثل في بناء مواطنة عالمية تتأسّس على الثلاثية: "حرية، مساواة، وإخاء"، لأنه أن يكون الواحد منا مواطنا عالميا هو أن يعرف وأن يفهم وأن يشارك في حوارات المدينة الذي تمثلها اليوم "القرية العالمية" واللاّتجانس ليس حاجزا وإنما هو مثلما بيّن ذلك «إدغار موران» عامل محرّر "إنه يجعل الإمبراطوريات القديمة والحديثة تنهار ويفضل التجارب والوضعيات الجديدة".