ما يحدث في العالم العربي منذ أكثر من سنة يعتبر فعلا مخبرا حقيقيا لمرحلة جديدة لما يمكن أن يسمى بالثورة·· فلقد عرف العالم ثورات كانت في الأساس أوروبية مثل الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية وانتهاء بالثورة الروسية الأولى في المنتصف الأول من القرن العشرين، ثم الثانية في 17 أكتوبر بحيث ترتبت عنها مفاهيم جديدة وأنظمة جديدة كانت بمثابة المقدمة لحركات التحرر الوطني التي اجتاحت قلب الإمبراطوريات الكولونيالية، وانقسم العالم القديم على أساسها إلى معسكرين رئيسيين·· معسكر مناصر للتحرر والاشتراكية والتقدم الاجتماعي ومعسكر موالٍ للنظام الرأسمالي بكل أشكاله ووجوهه في ظلهما انفجرت الحرب الباردة بين رؤيتين للعالم، وبين نظامين متناقضين ومتصارعين إلى أن دبّ داخل العالم ما يسمى بالاشتراكي تصدعات وصراعات انتهت به إلى الانهيار والاختفاء من المشهد الدولي ليعلن يومها منظرو الليبرالية الأمريكية ميلاد لحظة جديدة ونوعية وصفها فوكوياما بنهاية التاريخ المدشنة لانتصار القيم الليبرالية وتفوقها المطلق لكن سرعان ما تراجعت هذه النظرة الانتصاروية عندما طرحت في السوق الفكرية والإيديولوجية أطروحة صراع الحضارات لهيتنغتون والتي تألقت طيلة التسعينات وبعد أحداث 11 سبتمبر التي أفرزت موجة المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية الذين شجعوا على تدشين مرحلة جديدة، هي مرحلة الحرب على الإرهاب ومرحلة الاحتلالات المباشرة باسم الدفاع عن الديمقراطية وتعميمها في المناطق والبلدان التي يحكمها حب الإيديولوجيا الأمريكيةالجديدة المارقون مثل صدام حسين في العراق وأحمدي نجاد في إيران وغيرهما·· لكن هذه المرحلة سرعان ما كشفت عن حدود استراتيجيتها وعن قِصر منظريها لأن العالم بدا أكثر تعقيدا وتركيبا·· ومن هنا جاءت المفاجأة الكبرى، وهي نهضة الشعوب العربية ضد حكامها الذين كانوا يقدمون إلى الرأي العام الدولي من قبل الدوائر ووسائل الإعلام الغربية على أساس أنهم معتدلون ومن أنصار الإصلاح هذا من جهة، ومن جهة ثانية اعتبروا كحلفاء ضمن جبهة الحرب على الإرهاب، ومن هنا كانت لقاءات شرم الشيخ التي وصفت كلحظة تاريخية في محاربة الإرهاب الأصولي·· ولقد كانت هذه النهضة التي اندلعت كلحظة صادمة في تونس ضد مدلل الغرب زين العابدين بن علي لتتوسع رقعتها في أكثر من بلد عربي، مثل مصر وليبيا واليمن وسوريا، ووصفت وسائل الإعلام هذه النهضة أو اليقظة غير المنتظرة بالربيع العربي حينا والثورة حينا آخر·· وأثيرت حول مثل هذه التسميات سجالات وخلافات في أوساط ثقافية وسياسية، لكن لأن هذه الثورات انبثقت ضمن وضع إقليمي ومحلي ودولي معقد وجدت نفسها أمام تحديات شتى، عملت القوى العظمى والإقليمية على تطويقها وعلى تحريفها عن سيرها التاريخي، المتمثل في تحقيق هدفين أساسيين، الحرية والعدالة إلى جانب إنجاز كسر قيد التبعية للقوى المهيمنة وذلك من خلال استعادة السيادة على الصعيد الاقتصادي، لكن فيما يبدو أن المسألة لم تكن بتلك السهولة وذلك التفاؤل الذي ظهرت به انتفاضات الشعوب العربية في بدايتها، فلقد تحول الربيع العربي إلى ربيع للمحافظين من الإسلاميين غير الثوريين ولمن كانوا داخل الأنظمة المغضوب عليها، وفي كلمة حوصرت للثورة لإعادة إدماجها ضمن منطق الإصلاح الذي سوقت له القوى العظمى والذي يصب في نهاية المطاف في استراتيجيتها، وممن ساعدوا على ذلك هم الحكام أنفسهم الذين فضلوا في قمة الصراع مصالحهم وتشبثهم بالسلطة على حساب مصلحة أوطانهم وشعوبهم··