اصرة تلك الكتابات التي تختص الحديث عن الجزائر في مقالة سياسية أو موضوع اقتصادي، تطغى عليها اجتهادات فردية أو قراءات أحادية لمشهد تمتزج فيه وقائع التاريخ بمستويات الذاكرة التاريخية ذات البعد الثوري التحرري والرؤى الاستراتيجية بالرهانات الاقتصادية ذات الديناميكية الواسعة. وقاصر هو حديثي أيضا، لأن فكرة الحديث عن الجزائر فلسفة عميقة عمق تاريخها وكبيرة كبر بطولاتها. موضوع اليوم متميز لأكثر من اعتبار، متميز من وجهة نظرالتاريخ العام للعلاقات الدولية، إذ يعطينا فكرة عن طبيعة الروابط التي تربط المجتمع الدولي بالجزائر من جهة، نظرا للخصائص والأهمية التي تتمتّع بها المنطقة ليس على المستوى الجيو سياسي فحسب، وإنما على المستويين الاقتصادي والحضاري، مما أدى عبرمختلف المراحل التاريخية إلى تواجد علاقات صراعية عدائية قائمة على الغزو والاحتلال تارة، وعلاقات سلمية تعاونية قائمة على التجارة والمصالح المشتركة تارة أخرى. كما يسلّط الأضواء على مواقف وسلوكيات و أفعال سياسات هذا العالم الخارجي تجاه المنطقة التي كانت بالأمس مستعمرة فرنسية تناضل من أجل حريتها وسيادتها وأصبحت اليوم متعاملا تجاريا من جهة أخرى، وما يتبع ذلك من تأثير على مستوى العلاقات الدولية والنظام الدولي عامة. هذا العالم الذي تمثّله اليوم أساسا الولاياتالمتحدةالأمريكية التي ترمي إلى إعادة بناء النظام الدولي، تبعا لقيم وأسس جديدة كرائد وحيد لا منازع له، والكتلة الغربية التي تمثلها أساسا فرنسا التي تطمح إلى آفاق عالمية. المتتبع لمجريات الأوضاع الدولية حاليا يلاحظ التفرد الأمريكي في إدارتها، إضافة إلى التهيمش شبه الكلي لباقي الدول، فبعد انتهاء حرب الخليج أعلن البيت الأبيض عزمه للاضطلاع بمهمة الزعامة في نظام دولي جديد يكشف مدى شمولية الاستراتيجية العالمية الأمريكية خوفا من صعود دولة أو مجموعة من الدول إلى صف القوى العظمى، خاصة في المجال الاقتصادي، ذلك أن الصراع أصبح على المستوى الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي بالدرجة الأولى، فحلفاء الأمس كدول أوروبا الغربية واليابان أصبحوا هم الذين يشكّلون الخطر الذي يهدد الهيمنة الأمريكية اليوم، ولمعالجة هذا الخطر تقوم و.م.أ بعقد اتفاقات تجارية عن طريق خلق سوق كبيرة من ألاسكا إلى أرض النار. في المقابل، فإن استكمال بناء المؤسسة الأوروبية ونجاحها في مواجهة ما يتهدد الإتحاد وما يهدد بناءه، خاصة بعد استكمال نظام العملة الأوروبية الموحدة أدى إلى إقامة سياسة خارجية موحدة توازي قوته على المستوى الاقتصادي، ليس هذا فحسب، بل خلق رأيا عاما أوروبيا متحمسا لهذه الوحدة، وذلك بسعيه إلى التوسع شرقا واستيعاب دول أوروبا الشرقية في عضوية الاتحاد من أجل إقامة منطقة للتبادل التجاري الحر ونظام أمن واستقرار في حوض المتوسط، بيد أن طموحات أوروبا الاقتصادية والسيايسة وسعيها الحثيث للقيام بدور فعال على المستوى الدولي، من أجل أن توجد لنفسها موقفا فعالا في إطار النظام العالمي الجديد وممارسة أكبر للتعامل مع المسائل المتلعقة بالقضايا الساخنة الإقليمية والدولية، فشمولية الإقتصاد العالمي يكرّس النفوذ الأمريكي المتزايد، وهذا ما أدى الى مخاوف الأوروبيين من إمكانية تهميشهم على الساحة الاقتصادية العالمية. لذلك نرى تنافسا حقيقيا يتجلى في استراتيجيات ورهانات كل من الأوروبيين والأمريكيين في المتوسط، هذا التباين يتضح جليا من خلال أهداف ومصالح الأوروبيين لأسباب جغرافية وحضارية، أما بالنسبة لواشنطن فهي تعتبرحوض المتوسط جزءًا من مجموعة جيوسياسية تمتد حدوده من فرانكفورد بكندا إلى فلاديفوستوك بروسيا، وبالتالي استراتيجيتها لايجب إلا أن تكون شاملة. وحوض المتوسط لم يغِب يوما عن بؤرة الاهتمام العالمي عبرالتاريخ، والجزائر تمثل جزءًا مهما من الضفة الجنوبية للحوض، فلقد اعتُبرت منذ القدم و كمنطقة عبور لعمق القارة الإفريقية بماضيها الدولي وحركتها الخارجية وإمكاناتها الطبيعية وأهميتها الجغرافية التي تشكل بلادا متعددة الأبعاد، فمساحتها الواسعة وطول سواحلها يعطيها أهمية استراتيجية متميزة على المستويين الجهوي والعالمي. أحد الميكانيزمات الرئيسة للسياسة الفرنسية في إحتلالها للجزائر من أجل الحفاظ على مكانتها في العالم (وما تبعه من نضال شعبي جماهيري يشهد له العالم بأسره و يشهد لثورتنا التي صنعها رجالنا ويشهد لرجالنا الذين صنعهم التاريخ)، نفس السبب الذي دفع فرنسا للإسهام بعد قرن ونصف في حرب الخليج. الواقع أن أحد محرّكات تأثير الثورة في الشباب اليوم، يجب أن يكون مرتبطا بتخطيط استراتيجي يعكس التوافق بين ما قام به رجال الثورة بالأمس وبين ما يجب القيام به اليوم، خاصة وأن نسبة الشباب هي الطاغية. ففكرة التوافق هذه يجب أن تكون نموذجا جزائريا ذا بعد ثوري تحرري بناء متحررمن كل الأفكار الهدّامة، يشعر الفاعل فيه بأهميته وروحه الوطنية وهويته، مدعما باعتقادات أساسية يبقى فيه فريدا من نوعه ويفرض نفسه على أساس أكثر مناعة، هذا هو الانتصار الدائم وامتداد لفكر يخطط فنمتثل. وفي زمن العولمة، هذه الوضعية التي لم يسبق لها مثيل والتي تجبر تسوياتٍ يصعب التحكم فيها لأن ما يجعل التدخل الأمريكي في شؤون العالم غير قابل للتراجع، شيء لايخضع للمخططات التقليدية للسياسة الدولية، فالشبكة المتعددة لمؤسسات و.م.ا ومجموعات مصالحها والعلاقات الشخصية التي صنعها مواطنوها عبر العالم تجعل أمريكا الآن مرتبطة بالعالم أكثر مما تفعله تحالفاتها أو حساباتها الاستراتيجية لزعمائها، والنداء للطبقة المثقفة المفكرة الباحثة لخلق نوع من الأخوة الثقافية، بحيث يسهل الانتقال البيني للمعلومات وبالتالي التعديلات المتساهلة، بشكل آخر الالتفاف من أجل مشروع ديمقراطي يعبر عن هويتنا فيصبح الفرق الذي يميزنا عن المجتمعات الأخرى أكثر بروزا لا يمكن تجاهله. فكيف يمكن للجزائر أن تجد التوافق الضروري مع قوى التغيير السائدة اليوم، وتحديد إمكانيات التعامل مع هذه الفواعل الرئيسية، علما بأنها إذا قامت بذلك وارتبطت بهذه القوى فإنها ستعرف الرخاء والتطور والعكس صحيح، وذلك بطرح تصور حول استشراف الوضع الجزائري سياسيا وأمنيا واقتصاديا، داخليا وخارجيا على أساس التجربة التي عاشتها وطبيعة التغيرات التي تعرفها على كل المستويات. لا أحد منا ينكر أن الجزائر تعد إحدى أكبر دول المنطقة وأهمها،اجتازت أزمة معقدة، متعددة الأوجه أدت إلى سقوط ضحايا واختلالات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وعزلة على المستوى الاقليمي والدولي، إلا أنها حاليا تصبو الى مستقبل أفضل وأكثر استقرارا، وبالتالي فهي تخرج من أزمتها لتنتقل الى مرحلة ترسيخ المبادئ الديمقراطية وسيادة القانون وتطبيق الإصلاحات الاقتصادية وضمان الاستقرار على المستوي الاقليمي، على الرغم من المؤشرات المسجلة كارتفاع البطالة، أزمة السكن، إشكالات ونقص في الشفافية والوضوح بخصوص العقار والأراضي الزراعية وضعف القطاع البنكي والمصرفي.. وعلى خلفيات التحولات السياسية والاقتصادية التي باشرتها الحكومة منذ جانفي ,2000 فإن الجزائر حاليا تعيش مرحلة انتقالية هذه العوامل وغيرها، تدفع بالولاياتالمتحدةالأمريكية ومن منطلق حرصها على حماية وترقية مصالحها، إلى تشجيع كل تطور إيجابي لضمان الاستقرار في المنطقة، وذلك ضمن إطار إعادة انتشار الديبلوماسية الأمريكية اتجاه القارة الإفريقية وضمن استراتيجيتها للدولة المحورية، إذ أنه في الوقت الراهن تعد الجزائر دولة محورية، ذلك أن احتمال الرقي والتطور فيها واحتمال نشوب المخاطر أكبر منه من دولة أخرى تجاورها، وأن ازدهار وانهيار هذه الدولة كفيل بالتأثير على مجمل دول الإقليم المحيطة بها، ومن ثم التأثير على المصالح الأمريكية، علما بأن الجزائر تعتبر من أبرز المتعاملين الاقتصاديين لأمريكا في المغرب العربي، هذه الأخيرة التي عادت بقوة الى الساحة الإفريقية مع إزاحة الفرنسيين عن أهم قلاعهم الفرانكفونية، وإذا كانت فرنسا قد فقدت نفوذها ومواقعها التقليدية ففي المقابل انتهزت أمريكا الفرصة لتعيد ترتيب أوراقها وتثبيت وجودها في أهم بلدان الضفة الجنوبية لحوض المتوسط بعد أن وجد الأفارقة في و.م.أ بديلا مهما وسندا قويا. إن التواجد الإقتصادي الأمريكي في الجزائر منذ الاستقلال يعد من اهتمامات و. م أ خاصة في مجال المحروقات، وهي مستعدة للارتقاء بعلاقاتها الاقتصادية الى مستوى يتعدى الاستثمار في هذا القطاع، وهو ما تأمله الجزائر، وتجدد على لسان الرئيس بوتفليقة أكثرمن مرة على بقاء قطاع المحروقات مفتو حا لرؤوس الأموال الأمريكية، شرط أن يبدي الأمريكان اهتماما موازيا للفلاحة. هناك عدة رهانات إقليمية ومحلية ودولية تؤثر على الجزائر وتجعلها مضطرة للتأقلم والتكيف معها، أولها نسبة الشباب وطبيعة هذه الفئة إنها تصبو إلى التغير، أما ثاني رهان تواجهه الجزائر بعد خروجها من العزلة فهو تغير مفهوم الجغرافية وسرعة توسّع الاتصالات وضرورة إرساء شبكة علاقات على المستوى الاقليمي والدولي، فخلال العشرية السابقة أضاعت الجزائر فرصا كثيرة، لذلك يتعين عليها للخروج نهائيا من الأزمة والعزلة إنجاح إصلاحاتها الاقتصادية، مع تطوير وسائل الاتصالات وقطاع البنوك واستغلال الظرف الحالي مع تسجيل ارتفاع في أسعار النفط. اختلفت طبائع الصراعات من عصر إلى عصر، لكنها اتفقت جميعا على ظاهرة واحدة: أن الجزائر تنتصر حين تدافع عن نفسها داخل وخارج حدودها بكل الصيغ، هذه الحقائق والمعطيات تفرض على صنّاع القرار ضرورة العمل على صياغة وتنفيذ سياسة خارجية جديدة قادرة على صيانة أمنها وبناء اقتصادها، لمَ لا وهي تتمتع بكل هذه المقومات وهي التي يراهن عليها الجميع ويجب أن تكون بلدا ذا رأس ليث ودم الفرائس على فمه.