كم يتمنى المرء لو أن الدكتور محمود حسين، الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، لم يدلِ بتصريحه الذي قال فيه إنه بإعلان فوز الدكتور محمد مرسي بمنصب الرئاسة انتهت علاقته التنظيمية بجماعة الإخوان وبحزب الحرية والعدالة، وإنه كان أعد استقالته أصلا وتقدم بها للجماعة وللحزب فور إعلان فوزه بالرئاسة. فمثل هذه التصريحات لا تبدو غير مقنعة فحسب، بل تعطي مبررا لاتهام ''الإخوان'' بأنهم استمرأوا سياسة التحايل، أو في أسوأ الأحوال محاولة الضحك على الناس بكلام أبعد ما يكون عن الواقع الذي يرونه أمامهم. فلا يمكن تصور أن التصريح سيقنع أحدا بأنه هكذا وبجرة قلم ''انتهت'' علاقة الدكتور مرسي بالجماعة وبالحزب، خصوصا أن الكلام جاء أصلا بينما كانت الجماعة قد حشدت أنصارها واعتصمت بميدان التحرير للضغط وللتهديد قبل وأثناء إعلان نتيجة الانتخابات، ملوحة بمواجهات إذا لم يصدر إعلان بتأكيد فوز مرشحها ومرشح حزبها، مما دعا كثيرين للتساؤل عما كان سيصبح عليه الحال لو أن النتيجة لم تأت بفوز الدكتور مرسي. التصريح يعيد إلى الأذهان ما كان قد ردده مرشح الجماعة الأول، خيرت الشاطر، عندما سارع إلى القول إنه استقال من منصبه في الجماعة لأنه يريد أن يكون رئيسا لكل المصريين ولن يكون تابعا للمرشد أو ممثلا لحزب الجماعة. الغريب أن الشاطر قال ذلك الكلام في ذات المؤتمر الصحافي الذي تم فيه الإعلان عن ترشيحه لانتخابات الرئاسة على لسان المرشد الذي جلس إلى جواره، بينما جلس على الجانب الآخر رئيس حزب الحرية والعدالة محمد مرسي قبل أن يدفع به الحزب للترشح احتياطا وخوفا من أن تؤدي الطعون إلى إسقاط ترشيح خيارهم الأول، وهو ما حدث بالفعل. يومها أيضا لم يبدُ الكلام مقنعا للناس، بل بدا وكأنه محاولة مفضوحة للتذاكي، تأتي بعد محاولة أخرى تمثلت في الإعلان عن أن الجماعة ستتفرغ للعمل الدعوي ولن تكون هناك علاقة تنظيمية بينها وبين حزبها الجديد، بينما كل قيادات الحزب هم في الواقع من قيادات الجماعة، ومن الصعب إقناع أي إنسان بأنه بمجرد إعلان حزب الحرية والعدالة لم تعد لهم علاقة تنظيمية وعضوية بالجماعة. هذه التصريحات تزيد في شكوك الناس من طريقة عمل ''الإخوان'' في الساحة السياسية ولا تبددها، وتوحي بأنهم يمارسون التقية في السياسة، ويحاولون إخفاء حتى ما لا يمكن إخفاؤه بسبب ما هو واضح ومعروف، وبسبب التصريحات الكثيرة المتداخلة بين مسؤولي الجماعة ومسؤولي الحزب في الأمور السياسية. فطوال الفترة الماضية كان من الصعب الفصل بين تصريحات مسؤولي الجماعة وقادة الحزب، بل إن وسائل الإعلام حفلت بالكثير من التصريحات التي يتحدث فيها مسؤولون من الجماعة عن شؤون حزب الحرية والعدالة حتى بدوا وكأنهم المتحدثون الرسميون باسمه الذين يخوضون معاركه نيابة عنه، ولا يبتعدون عن السياسة رغم كلامهم في الآونة الأخيرة عن أنهم سيتفرغون للعمل الدعوي ويتركون العمل السياسي لحزب الحرية والعدالة. خذ على سبيل المثال تصريحات مدحت الحداد، عضو مجلس شورى الجماعة ومدير مكتبها الإداري في الإسكندرية، التي نقلتها عنه ''الشرق الأوسط'' عقب إعلان فوز الدكتور مرسي، والتي قال فيها: ''إن القوى الثورية سوف تظل في كل الميادين للتأكيد على المطالب الشعبية بضرورة إلغاء كل القرارات التي صدرت في الأسبوع الأخير بإرادة منفردة من المجلس العسكري وعلى رأسها الإعلان الدستوري المكمل الذي يمنح صلاحيات واسعة للمجلس العسكري''. ولوح الحداد بعدم مغادرة الميادين إلا بعد أن ينال مرسي كافة صلاحياته كرئيس للجمهورية. هذا الوضع الملتبس الذي كان يمكن تسويقه في فترة العمل السري، لا يمكن فهمه في فترة أصبحت الجماعة تتحرك بحرية، ويفوز ممثلو حزبها بالأكثرية في الانتخابات البرلمانية، وينتخب رئيس حزبها رئيسا للجمهورية الثانية، ومحاولة إنكار العلاقة بين الطرفين أو طمسها بالتصريحات المطاطة، لن تؤدي إلا إلى استمرار نظرة الشك والريبة من قبل الكثيرين إزاء ''الإخوان''، وإلى اتهامات الازدواجية وعدم الوضوح. وإذا كانت مصر قد تغيرت بعد الثورة والانتخابات، فإن الجماعة تحتاج إلى أن تتغير وتنهي حالة اللبس والغموض، بأن تحسم أمرها وتختار بين أن تكون حركة دعوية متفرغة لهذا العمل ومنصرفة عن السياسة ومنازعاتها، أو أن تقول للناس بوضوح إنها تريد أن تعمل بالسياسة لأن هذا من حقها، ولأن لديها برنامجها الذي تريد أن تنفذه، وتعلن بالتالي حل نفسها والاندماج مع حزبها في كيان واحد يعمل في وضوح ببرنامج واحد أمام الملأ. وفي المنطقة اليوم نماذج كثيرة لحركات إسلامية تعمل كأحزاب سياسية من غير مواربة أو ازدواجية، مثل ''النهضة'' التونسية، أو حزب العدالة والتنمية المغربي، أو حزب العدالة التركي، ولا يجد الناخب نفسه في حيرة مع من يتعامل، وهل عندما ينتخب يختار مرشح الحزب الماثل أمامه أم أنه يعطي صوته بالوكالة لمرشد لا يظهر اسمه في بطاقة الاقتراع. ''الإخوان'' سيكونون تحت المجهر في الفترة المقبلة لأن الكثيرين يريدون اختبار نياتهم ومعرفة كيف سيتصرفون إزاء الكثير من القضايا، وعلى رأسها معركة الدستور المنتظرة، ومعركة حل البرلمان، ومسألة العلاقة مع الجيش ودوره في الفترة المقبلة، وقضية حقوق المواطنة وحقوق المرأة. إضافة إلى كل ذلك هناك الوضع الاقتصادي الذي يحتاج إنقاذا سريعا لأن الناس ينتظرون برامج توفر لهم السكن والعمل والعلاج والتعليم وكل الخدمات الضرورية، فمصر اجتازت عقبة انتخابات الرئاسة ونجحت في إبطال ألغام كثيرة أحاطت بها، لكن لا يزال أمامها الكثير من التحديات التي سيكون ''الإخوان'' وكيفية تكيفهم مع الأوضاع الجديدة وتعاملهم مع السياسة، جزءا منها. ويبقى السؤال هو هل سيتغير ''الإخوان'' ويمارسون العمل السياسي العلني بوجه واحد، أم سيواصلون الغموض والتقية ويبقون على سياسة الوجهين؟