يُخيلُ إلي أن رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، لم يأنسوا الاستقلال، إلا انتصارا لفكرة الإيمان بارتفاعاته الروحية العظائمية، أو التحاما مع حالة قدرية اصطفى الله من عباده من اصطفاهم إليها، فأنزلهم منازل النصر أو الاستشهاد، قبل أن يودع أمانة ذكرهم وإلقاء التحية عليهم بالرحمة والرضوان، لوطن كان الله في يوم، قد أودع أمانته إليهم.. وليس هنا أعدل من قسمة الرحمن. ففي حتمية التاريخ، كان لا بد للعروبة أن تواجه فيه بعض مراحل هشاشتها. وفي مقتضيات السنين كان لا بد من تموز يستقرأ النازلات اللاحقة، ليجُب بذكراه حزيران الذي يطاردنا بنكسته كل عام. وفي فقه الكفاح كان لا بد من إرث، لا ينمو إلا من سُقيا دم، ولا يكبر إلا بإباحة الروح، باندفاع وتبسم ثم اللاندم.. وفي الحالات الثلاث، كانت الجزائر فينا، تؤصل ما يجب كما يجب، برسمها الحالة الكفاحية العروبية التاريخية، كما أطلقت بذلك عنانها للسنين، قبل خمسين عاما، يوم الاستقلال المجيد. كواحد من أهم حواضر العرب الزمنية في القرن العشرين، كان في يوم الاستقلال الجزائري، في الخامس من تموز عام 1962م، ما استحق أن يُدفع على طريقه ولأجله وفي سبيله، كل عزيز على النفس، انتصارا لضحكات الصغار، ونهدات الثكالى وصمت الرجال، وذلك جهادا واجتهادا، لإعادة كتابة التاريخ بحروفه العربية دونما تحريف، كما أريد لثورة الجزائر أن تكون، في مصاف البواقي الخالدات، لا في قائمة الطوارئ الزائلات. وكما كانت الثورة الجزائرية المجيدة، مهمازا ومحركا أصيلا، استفز الكرامة العربية، للانتصار في مكان آخر، عنوانه فلسطين، التي داومت من جانبها على العناد، وهي تأنف الاحتلال الإسرائيلي وتلفظه كل حين، فقد عجل يوم الفرح العربي العام، باستقلال الجزائر بعد الاستفتاء الأشهر المعمد بالدم من قبل، والدموع من بعد، عام 1962م، من أهلية الاستعداد الفلسطيني، والاقتداء على طريق التحرير، بانطلاق الثورة الفلسطينية، بشفاعة الله في التيسير، الذي أمر الإنسان في كتابه بالأوطان جهادا وإحسانا. لعل الذكرى الخمسين التي تحمل في طيات مناسبتها، فروقات الأشهر والأيام، التي فصلتنا عن رحيل أول رئيس لما بعد الاستقلال للجمهورية الديمقراطية الشعبية الجزائرية، أحمد بن بلة، تختصر من ناحية أخرى، طريق النزوع إلى الأصل والتجذر، عند التشديد على الجمع بين فكرتي الوطنية والقومية، في أزهى حللهما الانتمائية، وقد كان يردد الراحل الكبير دائما؛ أنه مجرد مواطن جزائري، وقد كان هو أيضا أحمد العربي، الذي صادفت فيه القصيدة بطلها فيما بعد. من موقع فلسطينيتنا، نحتفي باستقلال الجزائر بوصفه استقلالا فلسطينيا مؤجلا، التزاما برابطة أخوة، وميثاق دم، وشراكة مصير، ووحدة آلام وآمال وأحلام، وانسجاما مع الذات العربية التي لا تنفصم نضاليا، مع حالة هي قدوتها، دون أن نبالغ إذا ما قلنا، أن للفلسطيني في حب الجزائر، حظ العربيين الإثنين، أو لأي عربيين آخرين في حب الجزائر حظ الفلسطيني الواحد، من غير أن يكون الحظ فتنة كما يردد الشعراء، وإنما هو نصيب معلوم.. ألا لا ريب ولا تثريب.