المكتبة الوطنية الفرنسية BnF تحتفل بمئوية الشاعر والمجاهد مفدي زكريا، وهو للتذكير صاحب نشيد "قسما" الذي تقشعر له الأجسام كلما أنشد أو عزف لحنه. ولله في خلقه شؤون. * * المكتبة الوطنية الفرنسية BnF تحتفي بمئوية شاعر الثورة الجزائرية في أيام يحتفل فيها الشعب الجزائري بذكرى مجازر 08 مايو 1945. * في أكبر مؤسسة ثقافية فرنسية، أعني المكتبة الوطنية الفرنسية BnF، التي لا يكاد ينتهي نشاطها اليومي من محاضرات وعروض سينمائية ومعارض للفن التشكيلي ومعارض الكتب والموسيقى وعروض الكتب، ها هي تحتفي يا ربي بمئوية شاعر الثورة مفدي زكريا. * ماذا يا ترى سيقول الشهداء في السموات من هناك، من ملكوت عرشه؟ * وماذا يقول المجاهدون الذين ما بدلوا تبديلا، من هنا؟ * يحتفل جيراننا، في تونس، هذه السنة بمئوية شاعرهم أبي القاسم الشابي صاحب "إذا الشعب يوما أراد الحياة". لأجل إنجاح هذه المئوية الاستثنائية تتجند البلاد جميعها بمؤسساتها الثقافية والتربوية والبحثية وهياكل المجتمع المدني لأجل استذكار شاعرهم الكبير، احتراما لذاكرته وذاكرة الإبداع في هذا البلد الشقيق. * أما عندنا فمؤسساتنا ساكتة، صائمة عن شاعرنا الكبير صاحب "قسما بالنازلات". * سبحان الله كيف لا نحزن لواقع ترحل فيه مئوية شاعر الثورة إلى بلد كان بالأمس المستعمر الذي لا يزال المثقفون والنخب الديمقراطية على اختلاف توجهاتهم في بلادنا يطالبون ب "اعتذار" هذا الأخير عن الجرائم التي ألحقها بهذا البلد وبإنسان هذا البلد، عبر قرن وثلث القرن. بل إن هذا الموقف يشاركنا فيه المثقفون النزهاء في فرنسا نفسها. * إننا حزانى، إذ نشهد احتفاء المكتبة الوطنية الفرنسية BnF بصاحب "قسما" وبمشاركة من رئيسها ومديرها العام أيضا. * المكتبة الوطنية الفرنسية BnF تحتفي بصاحب إلياذة الجزائر، الموقف كاريكاتوري ومثير للتساؤل والاستنكار. ليس استنكار الآخر الذي يحتفل بمئوية الشاعر ولكن استنكار صمتنا نحن الذين لم نستطع أن نكون في مستوى شاعر الثورة ولا في مستوى هذا الموعد الثقافي. * عاش الشاعر مفدي زكريا المنفى والسجن أيام الاستعمار. وظلم الاستعمار مفهوم، لأن الاستعمار خاصيته هي كذلك. * مات الشاعر في المنفى والجزائر مستقلة، فلم تكن بلاده به رحيمة. ظلمه العدو وظلمه الأخ أيضا. * أذكر يوم وفاة الشاعر مفدي زكريا حين تم التعتيم على ذلك إذ اكتفت جريدة "الشعب" آنذاك بنشر خبر نعيه في صفحة من صفحاتها الداخلية خبر ضائع، في بعض سطور ضائعة. * اليوم والمكتبة الوطنية الفرنسية BnF تحتفي بمئوية الشاعر ولا شيء يتحرك لذلك في بلادنا ألا يمكن تسمية هذا الحال بالموت الثاني لأكبر شاعر جزائري على الإطلاق، * في مئويته يموت الشاعر مرة ثانية وهو الذي ظلم حيا، قدر الشعراء الكبار أن يظلوا يحملون طوال حياتهم منفاهم على أكتافهم كأعواد الصليب أو قماش الكفن. * بدا لي الاحتفال بمئوية مفدي زكريا من قبل المكتبة الوطنية الفرنسية BnF كأنما هو منفى ثان يزج فيه الموتى من العظماء. * هل سيتحدث المتحدثون في الاحتفالية في رحاب المكتبة الوطنية الفرنسية BnF عن فرنسا التي عذبته، عن فرنسا التي سجنته، عن فرنسا التي نفته؟ * ولله في في خلقه شؤون. * هذا هو المنفى الكبير يلاحق الشعراء والمثقفين لأنهم رسل في زمن انتهى فيه زمن الرسل. * واسمحوا لي أن أفتح قوسا صغيرا لأذكر بأن المكتبة الوطنية الجزائرية (بالحامة) كان قد دشنها ذات منتصف التسعينيات الدكتور سليمان الشيخ إذ كان وزيرا للثقافة آنذاك، والدكتور سليمان الشيخ المثقف والمؤرخ الذي أحترمه كثيرا هو بكل بساطة ابن الشاعر مفدي زكريا الذي تحتفل بمئويته المكتبة الوطنية الفرنسية Bnf. * ما هذا يا ربي؟ * في تونس تقوم القيامة الثقافية هذه السنة احتفاء بمئوية أبي القاسم الشابي، الجميع في حالة استنفار: المثقفون والمسؤولون والمؤسسات والأحزاب لأن الشاعر والاحتفاء بالشاعر هو الذي يقتل الأحقاد ويصفي الضغائن ويرفع الخطابات الثقافية عاليا. وحين أقول الاحتفال بمئوية الشابي فليس ذلك عن طريق "الغايطة والزامر والبندير"، إنما بتنظيم برنامج يحتوي على عشرات الندوات والمحاضرات والعروض وإعادة نشر كتبه وتوزيعها على تلاميذ المدارس والثانويات وقراءة نصوصه في المسارح ودور الثقافة. الاحتفالات بالشابي ليس في تونس العاصمة بل في مدن أخرى وفي بلدته أيضا. * من طبع الشعراء التسامح، فحتى لو ظلم مفدي زكريا في حياته فإنه وجد من يحترمه في مماته، فإنه قادر على النسيان، لأنه، أولا وقبل كل شيء، منتج الجمال ومنتج فرح الشعوب. * سبحانك يا رب؟ * وإذ تحتفي المكتبة الوطنية الفرنسية BnF بمئوية الشاعر المجاهد مفدي زكريا تذكرت الشاعر جان سيناك، وهو صديقه الذي أسس معه اتحاد الكتاب الجزائريين، والذي قال يوما: أجهد نفسي وأجاهد ضد جهلي كي أتعلم اللغة العربية لا لشيء إنما أولا وقبل كل شيء لأترجم نشيد "قسما" إلى الفرنسية. * فهل قرأ الفرنسيون هذا النشيد يا ترى؟ * هل سيقرأ نشيد "قسما" في المكتبة الوطنية الفرنسية BnF بمناسبة الاحتفال بمئوية مفدي زكريا؟ * وسبحان الله الذي هو على كل شيء قدير. *