أ- أصل الحضارة فكرة دينية: إجتمعت دوافع الإصلاح والحاجة إلى التجديد لدى الشخصيتين، أمام وضع المسلم المزري دينيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، بسبب التخلف والاستعمار، وأمام روح إسلامية مهزوزة ومهزومة وروح غربية غازية، بكل ما تملكه الروح الإسلامية من قيم وتراث ومبادئ قوية وسمحى، وما تملكه الروح الغربية وحضارتها من قيم ومنتجات مغرية وبرّاقة، وأمام محاولات إصلاحية داخل العالم الإسلامي، بعضها يقلد الغرب ويدعو إلى الانغماس في جديده، وبعضها يعرض عن ذلك ويطلب الحياة على القديم، وبعضها يسعى إلى ضمان التوفيق والانسجام بين القديم والجديد، كل ينقد الآخر ويبحث عما يبرّر موقفه وينشر دعوته. ولما كانت نفس الدوافع والأسباب دفعت الشخصيتين إلى التمسك بالإسلام، والاطلاع على الفكر الإسلامي القديم والحديث، والاتصال بالغرب وبحضارته والإلمام بالفكر الغربي وفلسفاته، والنظر إلى واقع الإنسان المعاصر، المسلم والأوروبي، فهي الظروف التي جعلت كلا منهما يفكر في الإصلاح والتجديد، ويقيّم عالم الفكر وعالم الواقع، وينتج فكرا وفلسفة، وهي التي جعلت المحاولتين الإصلاحيتين للفيلسوفين أكثر تشابها وأكثر تماثلا، والنقاط التي تجمعهما أكثر من النقاط التي تفرقهما. فعالم الواقع في نظر المحاولتين مريض يحتاج إلى العلاج، فواقع المسلمين مزري والواقع الأوروبي تسيطر عليه حضارة ذات طابع مادي، وذات فكر إلحادي أفقد الحياة معناها، وأفقد الوجود الإنساني قيمته، وصار المسلم ضالا بسبب تخلّفه وانحطاطه، وصار الأوربي شاردا بسبب طغيان الاتجاه الإلحادي المادي على حياته، فالاستعمار والتخلف والطابع المادي للحياة الأوروبية الغربية التي انتقلت إلى العالم الإسلامي... كل هذا صنع نظرة المفكرين الواحدة إلى عالم الواقع، وصنع الحاجة إلى الإصلاح والتغيير والتجديد. أما عالم الفكر فهو واحد في النظرتين. فالفكر الإسلامي القديم وما تميز به من قدرة على الاستيعاب ومن دقة وعمق ويقين، سواء تعلق الأمر بالفلسفة الإسلامية بمختلف فروعها أو بعلوم الدين، وعلوم الطبيعة والإنسان، كل هذا شيّد حضارة إسلامية زاهرة كانت دون شك رافدا رئيسيا للفكر الغربي الحديث، وللحضارة الغربية الحديثة. إن الازدهار الفكري والنماء الحضاري الذي شهده المسلمون قديما لم يعد لهم في العصر الحديث ما يجعلهم قادرين على فعل أدنى مما فعله الأولون، نظرا لظروفهم المزرية وأوضاعهم الفاسدة، حتى أن الفكر الإصلاحي الحديث في العالم الإسلامي لم يكن قائما على رؤية فلسفية دقيقة وواضحة وسليمة إلى تاريخ والحضارة والإنسان والوجود، وتعدد مذاهب واتجاهات الإصلاح والتجديد، والأحادية في الحل والمعالجة لدى الاتجاه أو ذلك، يدل على قصور المحاولات الإصلاحية التي شهدها العالم الإسلامي الحديث، وعجزها عن تقديم منهج متكامل، وأسلوب كاف لإنقاذ المجتمع الإسلامي من أزمته الخانقة، ومحنته العميقة، لذا حاول كل من إقبال ومالك تقديم رؤية فلسفية للتاريخ ووضع نظرية إصلاحية تعالج الأوضاع وتقضي على المشاكل، لم تكن تلك الخطة مستمدة مما وصل إليه الغرب الأوروبي من أفكار وعلوم ومناهج في الإصلاح والتجديد، لأن الفكر الغربي في نظرهما قصوره الروحي جعله ينتج حضارة ويصنع إنسانا خاليا من القيم الروحية المثلى، تسيطر عليه الغرائز والشهوات والأنانية، إنسان لا يفكر إلا في بهيميته، ولا يعطي وزنا إلا للمادة خارج القيم الأخلاقية العليا الشرف والكرامة والعدل التي لم تعد تهمه، في حياته الفردية أو الاجتماعية، أو في تعامله مع غيره. أمام ضعف الفكر الإصلاحي الحديث في العالم الإسلامي، وأمام قصور الفكر الغربي وقصور الحضارة الغربية عن بلوغ مبتغي الإنسان والحياة ومع وجود الإسلام وقيّمه وتعاليمه السمحة، قامت الحاجة عند إقبال ومالك إلى الإصلاح والتجديد، و إلى السعي نحو النهضة والحضارة والتقدم. يقول محمد إقبال في ضرورة قيام المحاولة الإصلاحية، والظروف مناسبة لقيامها: “أحاول بناء الفلسفة الدينية بناء جديدا، آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطوّر في نواحيها المختلفة. واللحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لعمل كهذا". ويؤيده مالك بن نبي قائلا: “فلما دخلت إلى المدرسة اللاّسلكي... لم تعد تجذبني أحلام الآفاق البعيدة، ولم يستملني مركزا اجتماعي مرموق... وأصبحت أشعر كأنني حُمّلت جميع أثام مجتمع يبحث عن الخلاص من بؤسه، كأنني بالنسبة لذلك المجتمع كبش فداء، شاعر بثقل ما حمّله من مسؤوليات ومحن وآمال لتحقق له الخلاص بفضل دراسته". ويقول كذلك حول دور الحركة الإصلاحية في الجزائر، كنموذج في العالم العربي والإسلامي: “فالحركة الإصلاحية، والحركة الوطنية قد ظهرتا إلى النور في هذه الفترة بالذات. وقد بدأت غشاوة الأوشاب التي سادت ما بعد عهد الموحدين في الانفراط والتفتت، تحت تأثير جهد هذا النشاط الأخلاقي والسياسي المزدوج، الذي حررّ الوعي الجزائري، ورده إلى جادة التاريخ. كما بدأ تاريخ النهضة الجزائرية، في هذه الفترة بالذات، مع تزايد ضغط الاستعمار الذي كان يرمي إلى استبقاء الطاقات المستيقظة تحت مراقبته". إن التخلف حسب إقبال ومالك، ظاهرة أملتها ظروف عديدة، وأسباب كثيرة، بعضها موضوعي وبعضها ذاتي، وهي ليست طبيعية في الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية جمعا. لما يملك الإنسان من قوة وقدرة على التغيير والتجديد والنهضة والتحضر، فالمجتمع الإسلامي عرف في وقت مضى كل مظاهر الازدهار الثقافي والحضاري ، وهو يعيش في العصر الحديث ظلمات الجهل والتخلف، لأنه فقد أسباب النهضة والحضارة، وتقيد بعوامل الضعف والانحطاط في المجال الفكري والديني والاجتماعي. وسبيل النهضة هو القضاء على أسباب التخلف من خلال مناهج ووسائل ثقافية وفكرية واجتماعية تكفل الوعي السليم والعمل البنّاء في مختلف قطاعات الحياة وفي شعوب أوروبا الحديثة القدوة والعبرة، وفي شعب اليابان المعاصر المثال الحي لذلك. فالحضارة من إنتاج الإنسان لا غير، لها شروطها وأسبابها، وهي شروط وأسباب كامنة في الإنسان وفي محيطه، فهي ليست هبة من الطبيعة، أو تنشأ بفعل الصدفة، فهي عالم يبنيه الإنسان ويشيّده من الطبيعة، ويضاف إليها، وبما أن الإنسان كائن عاقل فيه جانب الروح وجانب المادة، ومتديّن له صلة بالوجود والذات الكلية، فإن شروط النهضة والحضارة ترتبط بكل ما يتصل بالإنسان وبحياته ككائن نفساني، عاقل، اجتماعي، روحاني، ككائن له شيء من الدنيا، وله في العالم الآخر. فالحضارة في فلسفة إقبال تعني بناء الإنسان أولا، الذي يبني حياة في عالم الدنيا، ويكون العالم الآخر استمرارا للحياة الدنيا. وشروط بناء الإنسان ذاتية، وفردية، ونفسية، وروحية، بناء للعالم الداخلي للذات وفق معايير روحية، ثم بناء المجتمع والحياة والتاريخ وفق المعايير نفسها، وتكون الحياة برمتها تخدم المبادئ والغايات التي لأجلها تقوم الحياة، وهي مقررة، وبدقة وبعمق كبيرين في روح الإسلام والنصوص القرآنية. فالحضارة الحقة، أساسها روحي، وطابعها روحي، ومقاصدها وغاياتها روحية، وما الجانب المادي فيها إلا لخدمة الجانب الروحي. وينبذ إقبال أي نهضة وكل حضارة تعبد الجانب المادي من الحياة وتستبد بالروح، والإسلام في نظره هو الذي “يكفل له للمسلم آخر الأمر الفوز على مجتمع يحركه تنافس وحشي، وعلى حضارة فقدت وحدتها الروحية بما انطوت عليه من صراع بين القيم الدينية والقيم السياسية". ويكاد يتفق مالك بن نبي على نفس المفهوم والمعنى، فالحضارة عنده هي: “مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه". فالانطلاق والنهضة والحضارة كل هذا يتم بالتغير الذي يحصل في ذات الفرد، وفي حياته، وفي مجتمعه وفي العالم، لغرض الوصول إلى السمو الروحي والأخلاقي والفكري، وهذا يشترط معايير أخلاقية فضلى، وهي ذات أصل روحي، وبلوغ الازدهار الاقتصادي والانسجام الاجتماعي يشترط مناهج وأدوات متطورة لبلوغ التوازن بين المجال الروحي والمجال المادي، ويشترط هذا التوازن تطور العوامل الروحية والمادية وتكاملها. يتفق محمد إقبال ومالك بن نبي اتفاقا تاما على أن أية حركة نهضوية في التاريخ، وأية حضارة يشهدها الإنسان في مرحلة تاريخية ما تكون حاصل فعل التغيير أو التغيّر الذي يطرأ على الإنسان باعتباره الكائن الوحيد الذي يتحضر، وكتب له “الله" الاستخلاف في الأرض. والتغيير له طابعه الخاص، كما له مجالاته، فطابعه روحي في الأصل، ومجاله ذات الإنسان ونفس الفرد، أولا، ثم المحيط الطبيعي والاجتماعي ثانيا، وتلك سنة سنّها الله في مخلوقاته، ويعبّر عنها القرآن في قوله تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ويقول محمد إقبال في هذه السنة: “وفي هذا المنهج من التغيّر التقدمي، لا يكون الله في عون المرء على شريطة أن يبدأ هو بتغيير ما في نفسه". ويؤكد مالك بن نبي ذلك بقوله: “هذه حقيقة علمية يجب أن نتصورها كقانون إنساني وضعه الله عز وجل في القرآن، كسنة من سنن الله التي تسير عليها حياة البشر". والتغيير في داخل النفس يمس المفاهيم والتصورات والمعاني، معنى الإنسان ومعنى الحياة ومعنى الوجود وواجبات وحقوق البشر، كما يمس أنماط وطرق التفكير، ومناهج وأساليب العمل، ويمس القيّم والدلالات التي يؤمن بها الإنسان والمبادئ التي تقوم عليها حياته والغايات التي لأجلها يحيا، هذا يخص التغيير في معطيات الذات الإنسانية، يجرى التغيير بعد ذلك في الواقع الاجتماعي والطبيعي، ومتى كان التغيير سليما ومتوازنا كانت الحضارة، ودخل صاحبها التاريخ، ومتى كان التغيير ضعيفا ومختلا فسدت الحياة، وازداد الإنسان انحطاطا وتخلفا. فالتغيير بالنسبة للفرد هو تبدّل في الفكر والثقافة والأخلاق، أما بالنسبة للمجتمع فهو تحوّل في النظام الاجتماعي العام، بعاداته وتقاليده وقوانينه، أما بالنسبة للطبيعة فيتجسد في تسخير ظواهرها وتحويلها من صورة غير نافعة إلى صورة نافعة، بواسطة أدوات ومعارف ومناهج معينة، والتغيير في هذه المجالات ككل متحدة هو تغيير في حياة الإنسان ككل، بدونه لا نهضة ولا حضارة ولا تقدم. يتبع