منذ اعتلائه عرش قصر المرادية ارتدى الشاذلي بن جديد عباءة الرئيس المؤمن، وكانت الرسالة واضحة، وهو استقطاب قوة اجتماعية وسياسية صاعدة ممثلة في الإسلاميين.. لقد حاول الإسلاميون منذ الساعات الأولى للإستقلال الإعلان عن وجودهم وبقوة، عندما أعلن الرجل الأول في جمعية العلماء المسلمين الشيخ البشير الإبراهيمي عن انزعاجه من حل جمعية العلماء المسلمين التي لعبت دورا حاسما في يقظة الوعي الوطني والإسلامي إبان الفترة الإستعمارية على يد نظام أحمد بن بلة الذي أقام نظام الحزب الواحد وانتهج الإشتراكية الشعبوية كطريق واختيار، وكان البيان الذي أذاعه البشير الإبراهيمي آنذاك، بمثابة الصاعقة التي أقلقت أول رئيس للجزائر المستقلة، مما جعله يقبل على وضع زعيم جمعية العلماء المسلمين تحت الإقامة الجبرية، وهذا إلى غاية وفاته عام 1964.. لكن موت البشير الإبراهيمي لم يثبط من معنويات المجموعات الإسلامية المبكرة التي اعترضت طريق السلطة آنذاك، سواء في فترة أحمد بن بلة الوجيزة والممتدة من 1962 إلى 1965، أو في ظل حقبة هواري بومدين التي امتدت من العام 1965 إلى غاية وفاته عام 1978 نحو إقامة نظام الحزب الواحد، وتبني الإشتراكية كنظام سياسي واقتصادي وإيديولوجي.. فجمعية “القيم الإسلامية" التي تأسست في 9 فبراير 1963 كان هدفها الرئيسي حسب رئيسها الهاشمي تيجاني “ملء الفراغ الذي تركته جمعية العلماء المسلمين لكن أيضا القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنوير العوام بأركان دينهم وجلال أعمال سابقيهم وإيقاظ المثقفين من أبناء ملتنا" وكان المؤسسون الأوائل لهذه الجمعية وهم الهاشمي تيجاني وزهير أحدادن وعيسى قصار إلى جانب الأفواج التي تلت وكان من بين عناصرها الأوائل مختار عنيبة، المتصرف في طبع مجلتي الجمعية (القيم) و(التهذيب الإسلامي) وعباس التركي ومصطفى خاوي توفي عام 1984، وعبد اللطيف سلطاني ومصباح حويدق والعرباوي وأحمد سحنون والشاعر عبد المجيد مصطفاي ورشيد بن عيسى ورضا بن فقيه وعباسي مدني وغيرهم من الشخصيات التي كانت ترعاها بعطفها وتشجعها مثل فرحات عباس ومحمدي السعيد ومحمد خيضر، قلت أن مثل هذه الجمعية ظلت منذ الساعات الأولى للاستقلال تسعى إلى إعادة أسلمة الجزائر الخارجة لتوها من الحقبة الكولونيالية بحيث طرحت في برنامجها الذي أعلنت عنه في احتفالية بعيد نوفمبر في قصر الشعب وبدعم من محمد خيضر عن ضرورة استبدال ظهر الخميس ويوم الجمعة بظهر السبت ويوم الأحد وذلك من خلال بحث أنجزه رئيس الجمعية الهاشمي تيجاني حول (الراحة الأسبوعية) ونادت بإلزام التعريب التدريجي الكامل لكافة مستويات التدريس من الإبتدائي إلى قسم التعليم العالي الشامل للعلوم اللغوية والأدبية والتاريخية والفلسفية والإنسانية والطبيعية والتقنية، كما حثت الجمعية على ضرورة بعث اللغة العربية والعودة إلى التمسك بالأخلاق القرآنية والسنة النبوية وإقامة الشريعة الإسلامية في الأحكام والحدود ولقد جلبت الجمعية على نفسها بسبب الأفكار التي أعلنتها في قصر الشعب بتاريخ 5 جانفي 1964، متاعب وهجومات جمة من طرف عدد من المثقفين المحسوبين على اليسار، يسار جبهة التحرير الوطني مثل محمد حربي ومراد بوربون وفضيلة مرابط وأحمد زهوان الذين أمضوا بيانا، سمي بيان 24 شخصية، اعتبروا برنامج جمعية القيم “رجعيا، وحشيا ومغاليا بشكل فاحش في التمسك البدائي بأسطورة الدولة الإلهية التي ترتكز على التقاليد المتحجرة المشجعة للإقطاعية والرأسمالية دون التقدم"، كما لم يتوان هؤلاء الإسلاميون المبكرون المنضوون تحت راية جمعية القيم عن رفع احتجاجهم إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر عن طريق السفارة المصرية ضد تنفيذ حكم الإعدام على المفكر الإسلامي سيد قطب وجاء فيه “يسرنا نحن جمعية القيم الإسلامية الجزائرية، أن نتقدم بالتوسل إلى حضرتكم أن تتفضلوا بالعفو عن سيد قطب ورفاقه المحكوم عليهم من قبل المحكمة العسكرية التابعة لنفوذكم بصفتكم رئيس محكمة الثورة والرئيس الأعلى لكافة المصالح العسكرية بمصر أختنا الشقيقة الكبرى فتحولوا الحكم عليهم بالإعدام إلى الحكم بالسجن، ونحن إذ نتوجه إلى فخامتكم بهذا الرجاء، لا نعتبر أنفسنا أكثر من جمعية إسلامية ثقافية دينية، لا خوض لها في الشؤون السياسية لا المصرية ولا الجزائرية نفسها" وكانت النتيجة هي حل الجمعية من طرف نظام هواري بومدين والزج برئيسها في السجن، وفي المساجد ظلت أصوات الدعاة النقديين والمطالبين بأخلقة السياسة وأسلمة المجتمع والدولة مثل الشيوخ عبد اللطيف سلطاني ومصباح حويدق والعرباوي مرتفعة، وهذا ما جعل شيخ مثل عبد اللطيف سلطاني يؤلف كتابا، ينشره في المغرب تحت عنوان “المزدكية أصل الإشتراكية" انتقد فيه بلغة لاذعة وبالغة العنف السياسة المنتهجة من قبل الكولونيل هواري بومدين مثل تأميم الأراضي الفلاحية وإعطائها للفلاحين المعدومين، بحيث أفتى عبد اللطيف سلطاني أن الصلاة لا تجوز على أرض مؤممة، واعتبر الثورة الزراعية بدعة شيوعية، وصبّ أيضا نقده على ممثلي التيار اليساري مثل الشاعر والروائي كاتب ياسين الذي انخرط في نقد الدين ورجاله، وبالرغم أن هواري بومدين حاول التعاطي مع صعود التيار الإسلامي بأسلوبين، أسلوب الاحتواء والتطويق، بحيث شجع على عقد مؤتمرات الفكر الإسلامي التي كان من وراء فكرتها كل من المفكر الإسلامي مالك بن نبي والناشط الإسلامي الذي تحول من الماوية إلى الإسلاموية رشيد بن عيسى ليصبح في الثمانينيات أقرب إلى الفكر الشيعي، ومقربا من الإمام الخميني وكذلك غض هواري بومدين النظر عن انتشار الشرائط الدينية ذات الطابع الإرشادي والتحريضي، مثل أشرطة الخطيب المصري الإسلامي الضرير عبد الحميد كشك الذي ساهم في بلورة أفكار الإسلام السياسي عند الناشئة الجزائرية، وكذلك عن انتشار كتب سيد قطب مثل “في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" ومحمد قطب، وكتب أخرى لمفكرين إخوانيين ساهمت في الترويج للفكرة الإسلاموية مثل أعمال عبد القادر عودة وسعيد حوى وسيد سابق وأبو بكر جابر الجزائري وفي ظل مثل هذه الأجواء تطورت الفكرة الإسلامية إلى تنظيم سياسي سري تمثل في تنظيم الإخوان المسلمين تحت تسمية “الموحدون" وكان من بين مؤسسيه محفوظ نحناح، محمد بوسليماني وسلام عبد اللطيف، ومصطفى بلمهدي وقيراط محمد وعبد اللطيف سلام وبوجمعة عياد ومحمد قندورزي ورشيد كسوري، ونشرت جماعة الموحدين بيانا انتقاديا لسياسة بومدين، تحت عنوان “إلى أين يا بومدين؟" جاء فيه ما يلي (بعد أن سلب خيرات الشعب لفائدة بعض حاشيته من السياسيين والعسكريين بعد أن وجد الشيوعيون فرصة سانحة للعمل من أجل تحقيق الشيوعية طيلة حكم بومدين.. وبعد أن أعدم حرية التفكير والتعبير على كل المستويات الشعبية حتى وصل الأمر إلى المساجد، حيث منع الكلام إلا فيما يحبه ويرتضيه، وبعد أن دعا ليلة المولد النبوي الشريف رفيقه الشيوعي كاسترو، وليلة عيد الأضحى رفيقه “جياب" اللذين جاءا ليزوداه ويغذياه لمواصلة المسيرة الحمراء.. وبعد أن كوّن جهاز مخابرات لإرهاب الناس... وبعد أن شوه الإسلام بهواه وميّع التعريب في محتواه.. وبعد هذه القائمة السوداء كلها: نحن على موعد مع محكمة عليا نحن المجاهدين والعلماء لمحاكمته على فضائحه وجرائمه أمام الناس ومن غير مماطلة على حسب التعاليم الإسلامية... ونقول لا لإشتراكية بومدين ولا لغيرها لا للميثاق الذي كتبته عناصر معروفة بخيانتها وولائها للشيوعية لا للميثاق الذي جيء به لتثبيت نظام غير شرعي نعم للإسلام: عقيدة شريعة منهج حياة نعم للإسلام: دستورا نظاما اقتصادا نعم للإسلام: حقوقا واجبات محاسبة نعم للإسلام: شورى عدالة وحدة أخوة أما الأسلوب الثاني الذي تبناه هواري بومدين تجاه تنامي وتصاعد تيار الإسلام السياسي، فهو أسلوب يقوم على التشدد واستعمال العصا الغليظة، وعلى هذا الأساس تم اعتقال عناصر جماعة الموحدين عندما قامت بنشر بيانها المعادي لهواري بومدين وسياسته، وانخرطت في نشاطات تخريبية، بحيث حكم على أحد رجالاتها الكارزماتيين وهو محفوظ نحناح ب 15 سنة سجنا نافذة، واعتبر البعض أن هذا الحكم القاسي كان سياسيا في الأساس لأنه كان يريد أن يكون استباقيا وردعيا، لكن مع صعود الشاذلي بن جديد إلى سدة الحكم فتحت الأبواب في بداية الأمر على مصراعيها أمام الإسلاميين لما اختار الشاذلي بن جديد أن يحدث قطيعة مع سياسة بومدين وتوجهاته ويدخل في رقصة فالز مع قوى الإسلام السياسي المتصاعد خاصة وأن المناخ العام كان يشجع على ذلك بعد اشتعال فتائل الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت بالشاه عام 79 وفي الوقت ذاته غذت الآمال وفتحت شهية الإسلاميين العرب لأن يطمعوا بالإستيلاء على السلطة، لقد شدد الشاذلي بن جديد على رسم صورة مخالفة تماما لصورة بومدين الذي كان ينعته الإسلاميون بالشيوعي والعلماني، فالصورة التي عمل الشاذلي على رسمها في أعين الإسلاميين والمحافظين تعطي الإنطباع بأنه رجل قريب من الإسلاميين، وتجلى ذلك بشكل صارخ عندما دعا الشاذلي بن جديد صديقه الشيخ محمد الغزالي إلى الجزائر والذي أصبح يقدم حصة أسبوعية في التلفزيون الجزائري، كما وجدت دور النشر الخاصة مثل دار البعث والشهاب تشجيعا من قبل مؤسسات الدولة لإعادة نشر كتب الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي والترويج لها.. كما شجعت السلطات الإسلاميين خاصة في الجامعات على تنظيم معارض للكتاب الإسلامي، وفتح المدارس الثانوية أمام الدعاة المشارقة للاحتكاك المباشر بالجيل الصاعد من الطلبة، وإلى جانب ذلك، فلقد شجع الشاذلي بن جديد على إنشاء أكبر جامعة للعلوم الدينية، وكان الشيخ الغزالي رئيس مجلسها العلمي، وهي جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، وكان ثمة مشروع آخر مماثل لكنه لم ينجز.. وهو عبارة عن جامعة للعلوم الدينية تحمل اسم عبد الحميد بن باديس بوهران، كما تغاضى الشاذلي بن جديد عن تلك الجمعيات التي تكاثرت كالطحالب بشكل لافت، كانت وراء بناء المساجد الموازية لمساجد الدولة.. وسهرت وسائل الإعلام، منها التلفزيون الجزائري على تقديم الشاذلي، خاصة بعد أن توجه إلى البقاع المقدسة كرجل مؤمن أقرب إلى صورة أمير المؤمنين، ولقد تحولت العمرة لدى الشباب إلى موضة، وهذا من خلال سياسة تشجيع الشباب على أدائها، وذلك ما فتح الباب أمام الإسلاميين السعوديين لجلب الشباب الجزائري نحو التطوع “للجهاد" في أفغانستان وبالفعل ارتفع عدد المجندين الجزائريين في أفغانستان إلى حوالي خمسة آلاف متطوع، ولقد لعب الإخوان الجزائريون ودوائر في السلطة أدوارا مهمة لاستقطاب الشباب إلى الدرجة التي أصبح ناشط مثل عبد الله أنس، وهو أصيل مدينة سيدي بلعباس يترأس جماعة الأفغان العرب ويصبح صهر الزعيم الإسلامي الفلسطيني عبد الله عزام.. واعترف لي فيما بعد الإخواني الراحل محفوظ نحناح في حوار أجريته معه في مقر حزبه في العام 1993، أنه وجد تشجيعا من طرف السلطات في الثمانينيات لتجنيد المئات من الشباب الجزائري في الجهاد الأفغاني ضد الإتحاد السوفياتي، وكان التلفزيون الجزائري في نشراته يصف في تلك الفترة الأفغانيين بالمجاهدين والمقاومين ضد الخطر الشيوعي الأحمر... ووجود مثل هذه الأجواء دفع بالإسلاميين الجزائريين، خاصة بعد إطلاق الشاذلي سراح نحناح ورفاقه الذين سجنهم هواري بومدين لمدة تتراوح بين 10 و 15 سنة وإعادة إدماجهم في وظائفهم، وهذا تلبية لوساطة كويتية دفع بالإسلاميين لأن يجهروا بدعوتهم بشكل واضح وصريح بنشاطهم ويخرجون من السرية إلى العلنية، وذلك ما ترك محمد عثمان يبادر بإنشاء جماعة إسلامية، أطلق عليها جماعة الدعوة والتوحيد.. وكان مركزها الرئيسي في مدينة سيدي بلعباس.. ولد محمد عثمان في مدينة سيدي بلعباس عام 1948 وهو أب لسبعة أبناء، تخرج من المدرسة الثانوية الفرانكو إسلامية بتلمسان، وكان جده الحاج أحمد محمد عثمان أول من فتح كتاتيب القرآن بمدينة سيدي بلعباس، التي كانت تسكنها أغلبية من الكولون واللفيف الأوروبي الأجنبي، وكانت عائلة عثمان في الأربعينيات تنتمي إلى حركة الإصلاح التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس وترأسها فيما بعد الشيخ البشير الإبراهيمي، وفي 1969 دخل محمد عثمان معهد الترجمة بجامعة الجزائر العاصمة، لكنه لم يواصل دراسته ليعود في العام 1971 إلى وهران ويدرس بجامعتها مادة الأدب واللغة العربية وكان لقاؤه مع الداعية أبو بكر الجزائري في سيدي بلعباس، بمثابة المنعرج الكبير في حياته الفكرية والروحية والسياسية، فانخرط سنة بعد لقائه بأبي بكر جابر الجزائري في جماعة الدعوة والتبليغ إلى جانب الحاج بلقاسم بلقاسمية الذي سيلقى حتفه على يد الجي جيان الفرنسي داخل الحرم المكي الذي احتلته لأيام جماعة جهيمان وكان ذلك عام 1979.. في بداية السبعينيات انخرط محمد عثمان في النشاط الدعوي السياسي العلني إلى جانب أساتذة مصريين كانوا ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين وجعل من مسجد الفتح الكائن في قلب مدينة سيدي بلعباس بشارع ڤومبيطا معقله الرئيسي، يقول محمد عثمان الذي توفي عام 1998 بعد عودته من الولاياتالمتحدة والتي أصبح إماما في مسجد ناشطين إسلاميين بمشيغان، أنه في تلك الفترة (ركز على الجانب الأخلاقي لكن النقدي أيضا المتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدخول إلى الحانات والتحاور المباشر مع روادها، لأن يكفوا عن مثل تلك الآفات، بل ودخوله إلى بيوت الدعارة التي كانت منتشرة في سيدي بلعباس، في حي فيلاج اللفت وإسداء النصائح لبائعات الهوى)! ويضيف محمد عثمان، “أن الثمار التي جنيناها باتباع هذا الأسلوب في بداية الدعوة كانت كثيرة وطيبة، وجلبت لجماعتنا سمعة وأنصارا كثيرين، وهذا ما قادنا إلى بناء مسجد عثمان بن عفان الذي تحول إلى قلعة للدعوة"، وفي 1978 توجه محمد عثمان إلى المشرق، والتقى بناشطين إسلاميين في سوريا ولبنان ومصر ومن بينهم سعيد حوى وعبد الحميد كشك وأبو بكر جابر الجزائري ومحمد قطب، ثم استقر لوقت قصير في العربية السعودية رفقة بلقاسم بلقاسمية.. تطالعون غدا في الحلقة السادسة الرقص مع الإسلاميين (2)