قبل أن تدق الساعة الأخيرة، على حائط الكون، قبل فوات الأوان بشاعر واحد، تأتي يا حفيد امرئ القيس. يا من نحرتْ له حوريات الشعر نوقهن البيض، على ضفاف بحيرات السماء. قصيدة مرئية تأتي، وأغنية مرتفعة بقامة دجلة، أنت الذي عرفت الوردة وهي فكرة في بال الحديقة، قبل أن تصيّرها الردّة العربية رمادا. أنت الذي فهمت الأفق وهو مُضغة في مشيمة الرؤيا، ها هو الآن وقد مسخه هذا العصر الرديء سياجا. أنت يا حفيد امرئ القيس، يا أمازونا من النايات، أيها الصريح كالحياة، البليغ كمطرقة تناقش سندانا، يا قانئ الصمت والبيان. كم من نجم تفحّم على حطب القرد المفكر، المدبر، المدمر؟ وكم من شهاب داخ من مزاولة العُلو، في هذا الزمن العربي المقيت؟ لمْ يمشوا منذ الأزل كلاّ، سوى خطوة أو نصف خطوة، لا غير، فمن أين لهم بكل هذه الكدمات، والتشوّهات، من أين؟ أنت أيها القرصان النبيل الذي يدس البحر في جيبه الأيسر، والجهات طيّ جبينه. يتعرى الشمال في حُجرة يديك أيها الجنوبي الكادح، يا من روّض الجنة والناس، وأدخلهم فهرس وردة الثلج، من عطره الواسع. يذوي الشمال ويسقط من أعلى القصيدة على أم ّ رأسه، هكذا استحالت بك الأرض مثلثا للحياة. أسمعك الآن تهمس: القصيدة هي القصيدة، حُزمة من أعشاب اللحن، قبصة من بهارات اللون، وحفنة عطر من براري الروح، تقطفها أصابع القلب، يذوب الإكسير في بوتقة الحرف بنار الصلصال ونوره. وتتساءل: ولكن لماذا كلما نضج قمرٌ على نار الليالي، تناهبته سكاكين الهباء وشوكاته؟ أنت يا حفيد امرئ القيس، لأن يرتشف العاشق قدحا واحدا من شِعرك، أسكر له من أن يحتسي كل حانات العالم. أنت الذي قبل البدء كنتَ، بعيدا عن السماء الأولى، وعن الأخيرة أيضا، هل تذكر؟ لما كانت الكلمات تجري من تحتك أنهارا، وأنت تعد على أصابع القصيدة عمرك. وتواصل الهمس: نحن نعيش بحصتنا من الشعر، بزوّادة المعاني، ونسيلُ الهوينى إلى قصائدنا الأقل صمتا، حتى يجف ما في ينبوعنا من ماء الاستعارات. أيها القرصان الكوني، أيها المسافر الأبدي، كفاك أشرعة فقد صرت أنت الريح عينها، وتغريبة كونية ليست للآخرين بل فيهم، لحنا يعزفه ناي كل جسد، بشفاه كل غريب... كفاك فذات صباح ستكون سعيدا، ستستيقظ لتجدك كالفرات وحيدا وفريدا وسعيدا. *** تأبى إلا أن تغني: وِشلُونْ عيني، وِشْلُونْ هذا الأمَلْ ينساهُم؟ راحوا ما ودّعونا يوم النّصِرْ نلقاهُمْ وِشلونْ عَيني، وِشْلونْ!