إلى عنترة الذي لم يعرفه أحد وأغض طرفيَ إن بدت ليَ جارتي حتى يواري جارتي مثواها... البيت لعنترة العبسيّ، الشاعرالخطير، والفارس المغوار الشهير، إنه البيت إياه الذي أرادت لنا هيمنة القراءة الفقهية السياسية ورقابتها أن نفهمه، على أنه أثرٌ باهر، لا يضرب إلا كشاهد نموذجي على دماثة الخٌلق وحسن العشرة والجيرة، للدلالة على أصول الحشمة والحياء العربيين، الأصول التي تختفي لتظهر وقت الحاجة إليها، فقد شاءت لها الحكمة السياسية العربية، المحنكة البالغة، أن تُحكِم البنية التفكيرية للمجتمع العربي لا بنيته السياسية، هكذا لتَحْكُم فكره، بطريقة مقحمة تثير شكوكا متعلقة بالديماغوجية، وبالحُقَنِ الدينية المملوءة بمخدرات السياسة وعقَاراتها، وهذا سر من الأسرار التي أفقدت الشعر قيمته عند العامة، ذلك أن الساسة والحكام العرب على مر العصور، إنما أطعموا الجوعى من شعوبهم بأشعار خبزوها في أفران فهلوتهم ودجلهم، كما وكسوا العرايَا منهم بلباس البلاغة البالي الفاضح. بيت عنترة أعلاه قُدِّر له أن يعيش قُرونا، بمعنى وحيد الخلية، كما أريد لمعنى حياة المواطن العربي الفكرية أن تكون، هكذا تُسيج المعاني، ليمنع التسلل إلى تخوم التفكير، كأننا نحن العرب لم نكتشف بعد أن هناك اختراعا اسمه العقل. جارة عنترة هذه التي يغض طرفه كلما رآها مُقبلة، أفكر أنها لم تكن ذات جمال وفتنة كافيتين، لتجعلانه يبحلق فيها، من يدري؟ وهذا هو السبب الذي جعله يغض طرفه أمامها، إن كان غضه حقيقة، أو لعلها كانت، فوق ذلك، بشعة، ذميمة، لا تصلح إلا أن تكون مادة خام لصناعة بيت شعري في الزهد الإبداعي، والعفة، وهذا أقصى ما يمكن أن تقدمه من كانت مثلها لشاعر، دأبه مطاردة المعاني البديعة حيثما حلت، وكيفما كانت. لعلها كانت متقدمة في السن، هذه الجارة، أو من أولئك اللواتي لا تَرُقن، وترقينَ لذوق عنترة، وهي في ذلك تستأهل الغض فعلا، على عكس عبلة، التي ألهبت مشاعره التي تفتقت عن قصائد طارت بها الآفاق، من قديم العشق وسالف العشاق. ولكن، أليست قضية عبلة هذه، فيها نظرٌ هي الأخرى؟ من الضامن أن كل ما كتبه عنترة، كان تغزلا بعبلة وحدها فحسب؟ مع كل ما تضمنه شعره من ذكر صريح لاسمها؟ فلعل عنترة كان يمتح من تجاربه الغرامية الملهِمة، حتى تلك التي كان يغض فيها بصره؟؟ مع هذه ومع تلك، لأجل إقامة هيكل مواضيعه الشعرية، ثم أليس الشعر عشقا للجمال الكلي؟ وهل يعقل أن يكون شاعرٌ ذواقة في قامة عنترة، كبير الغضاضين، يأخذَ عنترة شطرا من سلمى وسطرا من حزوى ومعنى من مروى وآخر من سعاد، ليستقيم له الشعر، على الأقل الشعر، ولو قراءة منه للأشعار التي كتبت عنهن. لو صحّ هذا فإن الخسارة ستكون فادحة، فذلك يعني أن عبلتنا المسكينة، لم تكن سوى علامة شعرية ليس إلا، على وزن علامة تجارية، مسجلة لعنترة استعملها رصيدا إبداعيا وأساسا ثابتا يبني عليه شهرة كتاباته لبنة لبنة، في زمن شعري كان عصر علامات اسمية مُسجلة بامتياز. عنترة، هل كان يغض طرفه إذا بدت له جارته لأنه كان شخصا متخلقا، فعلاً كما لقنونا في الكتب المدرسية؟ عنترة الذي كان يود تقبيل السيوف التي لمعت كبارق الثغر المتبسم، وإن كنت لا أجزم ولا حتى أصدق، أن الثغر اللامع المقصود، هو ثغر عبلة، وليس ثغرغيرها، فالثغر يحتمل كل الوجوه، كأن يكون ثغر جارته أعلاه مثلا، التي ربما، أقول ربما، وهذا احتمال آخر، كانت على مرتبة من الجمال عظيمة، لم يجد معها شاعرنا من حيلة للتغزل بها إلا باستفزازها بقوله إنها تجعله يغض طرفه، فليست العين وحدها التي ترى، فالأذن تعشق قبل العين أحيانا كما قال بشار بن برد... في حالتنا مع عنترة وجارته، العين تعشق قبل العين أحيانا. احتمال آخر، قد يكون سبب كتابة هذا البيت الشعري، الذي ربما كتب من دون سبب، إحساس عنترة بالملل من قول الغزل، والذي قد يكون قد أصابه، فأراد أن يجرب إذ ذاك شعرا في التعفف، لترميم سمعته الشعرية التربوية الاجتماعية التي لطخها التغزل، أو حتى على وجه التجريب والتغيير، وكسر الروتين لا أكثر، والشعراء وحدهم يعرفون ما يمكن أن يفعله الروتين في شعر الشاعر. يمكننا افتراض أن تكون جارة عنترة هذه شخصية متوهمة، مخلوقة شعرية مؤقتة بعمر البيت الشعري، ليس لها مِن وجود حقيقي، امرأة مفترضة، مهمتها خدمة صالح معنى القصيدة لا غير. أو لعل ذكر عنترة لها إنما كان محض خوف وخشية، كأن تكون أختا للحارث الغدنفر، أو بنتا لشيخ قبيلة ثري مُهاب الجانب أراد عنترة أن يأمن شره، وينال خيره بشعره، أو حتى قريبة لأحد الصعاليك المغاوير، أو حبيبة له ربما. ثم من يستطيع أن يقنع لنا الآنسة عبلة، بعد كل هذا أن جارة عنترة أخت زوبعة، لم تكن مشروع خليلة ينضج على مهل داخل قِدر القصيدة، ببهارات البدايات الغامضة المتعثرة؟ عبلة التي تعرف أن الشعر إنما يصنع حيواته الأخرى داخل القصيدة في الواقع، بأوهامه أول الأمر غالبا، قد تشك عبلة أيضا في قضية الغض هذه، فمَن منّا، أو من العالمين كان حاضرا شاهدا، ساعة غضّ عنترة، أو لحظة نظر من التحت إلى التحت كما يقال، نظرة العاشق المعجب الخَجِلِ، عبلة قد تعاتب عنترة كذلك كأن تقول له: ولماذا تأتي على ذكر جارتك في شعرك إن لم يكن في الأمر إنّة؟ كما قد تصل حد أن تقول له مخاطبة إن استُفزت أكثر وتمادت في نقدها مستفزة هي الأخرى: وهل ندمت لأنك غضضت بصرك، فذكرت ذلك؟ وأنا ممن يوافقها الرأي، ومن الذين سيرافعون دفاعا عن حقوقها في الشك إن استدعى الأمر. يقول عنترة: حتى يواري جارتي مثواها....، فهل كان يغض طرفه، فقط قرب بيته أما بعيدا عنه فإنه كان يفعل ما يحلو له؟ فالجوار وإن كان من الجيرة، فهو من الجور أيضا.... كثيرة هي الأفكارفي هذا العالم، تلك التي لا نفهمها إلا كما فسرتها لنا الرقابة المعنية، برغم أن هذه الأفكار تحمل جملة من حقائقها التي تعنينا في متناولنا، في سطحها، لذلك فأنا أعتقد أن قراءاتنا حتى تلك الخاطئة منها، لمعاني الحياة، هي صحيحة جدا، فقط إن هي استطاعت أن تفقد المعنى الواحد قداسَته، وتفرده بِحَبْك حبائل مصائرنا.