تعليق على العنوان ''خبر كان'' عنوان لا يعني أنّ '' كان '' فعل ماض ناقص بل خبر كان هو يحمل أركان الزمن الثلاثة من ماض وحاضر ويتعداه إلى ما يتجاوز به إلى المستقبل . يتوزّع ديوان '' خبر كان '' للشاعر الشعبي الجزائري توفيق ومان كما وضع الشاعر على صفحة من أوله تعريفا '' ما قاله في الوطن والسياسة والهجاء '' ولعل الشعر الشعبي الجزائري عند أكثر شعرائه يعنى كثيرا بالوطن نظرا للتضحيات العظيمة التي قدمها هذا الشعب على مدى أكثر من قرن وربع القرن متوجا هذه التضحية بثورته العظيمة التي قامت في كل أنحاء الجزائر وأجبرت المستعمر الفرنسي أخيرا على الجلاء عن أرض الجزائر وعلى الاعتراف باستقلالها بعد أن فاقت التضحيات وبلغت رقما قياسيا تجاوز المليون ونصف من الشهداء من هذا الشعب المجاهد البطل، وقد التقيت بمختلف المثقفين من كتاب وشعراء جزائريين ، ولم تخلُ جلسة من ذكر الثورة ومن انتصاراتها وشهدائها ، ويتبين من عمق الجرح والألم الذي عاناه هذا الشعب في سبيل الجزائر وسبيل الحرية أن الذاكرة الجزائرية إن في الأدب عموما وفي الشعر الفصيح منه والشعبي ما زالت هذه الذاكرة مثخنة حتى جذور الروح بجراح الماضي وبدم الشهداء ، وإن اختلفت أساليب الكتابات التي تنهل من مخزون هذه الذاكرة ، وقد يكون كثير من الشعراء لم يولدوا بعد حين نالت حريتها الجزائر في أوائل الستينات من القرن الفارط ، كالشاعر توفيق ومان الذي بين يدي أحد دواوينه الشعرية ، ولكن الشاعر توفيق ومان ابن وفيّ لبيئته وبلاده منغرس في روح تاريخها الماضي والحاضر ثقافة وانتماء تنعكس في شعره بوعي والتزام مجسدا بذلك استمرارا للشعر الشعبي في شتى أغراضه وعلى رأسها قضية الحرية حرية الجزائر، مستحضرا ذاكرة الناس وآدابهم وقضاياهم في شعره، ولكن لم ينحصر شعره في هذا فقط بل ككل شاعر حقيقي تعددت الأغراض في شعره ما بين هموم الوطن وهموم الحياة المجتمعية التي تحمل هموم المواطن ومشاكله اليومية أو همومه وطموحاته السياسية، وكذلك في هجاء الأخطاء والأعداء أعداء الشعب ، ودون أن يكون ذلك في شعره حكرا على الهم القطري للجزائر فالشاعر توفيق ومان له العديد من القصائد التي حملت هموما قومية سواء هم القضية العربية المركزية أي قضية فلسطين كما في قصيدته التي عنونها ( غزّة يا لولي ملألئ ) وما حوت القصيدة من تعاطف إنساني وعربي لصمودها في وجه العدوان الهمجي من قبل العدو الصهيوني مدعوما من أميركا ومن تآمر بعض الأنظمة العربية عليها، أو من بعدها الهم العراقي، أو بقصيدته التي عنوانها بيروت وفيها ما فيها من التعاطف مع المقاومة الباسلة لشعب لبنان الذي يتصدّى لأعتى سلاح همجي متماهيا مع الموقف القومي للجزائريين : هذي صرخة حق من مهد الشجعان ضربه حرّه مصاوبه من سيف ذكير قلبي ينزف من جراحك يا لبنان شعب بلادي ديما يسعى للخير نغمه يا بيروت غنّاها ومان واعذري خيبتو إذا خان التعبير وذلك بنفَسٍ عروبيٍ أصيل يؤكّد أن الشعوب العربية فوق التنظيرات الإقليمية من تآلفها ووحدتها في المشاعر والآلام فضلا عن الثقافة والتاريخ وغيرها من موروثات في العالم العربي . فقد بدأ الشاعر ديوانه في قصيدة '' جزائر لمجاد '' قائلا : هذا لكلام منظوم من شاعر أكتبها على وطن '' جا '' بسيف حداد برغم الفقر والجهل زاد عذبها وشعبها ثار بعزيمة وعناد حتى يقول فيها : بالدم والقلم اللوحه بخطّو اكتبها والله أكبر فِ العروق تمداد لبه بجنين حر حملت أحملها والفحل ف شهر نوفمبر زاد حتى يقول : ايه يا فرنسا احجارك مان ذوبها والسيل زلال روى لنداد وانسيم جويليه رطب سمايمها والطير في سماه رجع زغراد بإسرار ودم ودموع الحلق قايلها الجزائر فخري وعزي وامجاد وحق له أن يكرس موهبته وشعره لقضية بلاده وحريتها وذاكرتها المثخنة وبالرغم أن القصيدة التي افتتح بها الديوان ليست سوى قصيدة تقليدية إن من حيث التزامها بالشعر الشعبي الكلاسيكي وإن من حيث المباشرة فيها والتي لا تضيف كثيرا للشعر الشعبي في الجزائر ولكن الشاعر برأيي وضعها كعتبة أو هوية والهوية تلزمها هذه المباشرة والوضوحية، ولكن توفيق ومان لا يُمسح شعره بهذه المباشراتية حتى ولو كان موضوع القصيدة الوطن . فقد كانت أولى قصائد الديوان برأيي هي قصيدة ( يا السايل عن غصني ) ولعمري هي من القصائد الرائعة التي حلّق الشاعر فيها بالصورة والمعنى وبالمجازات إلى حد أن يحار القارئ بين المُراد الخفي تحت كلمات كل مقطع شعري وبين ظاهره ، فالشاعر منذ العنوان يقول : أيها السائل عن غصني، وكأن القصيدة هي إجابات للسائل عن ماهية غصنه وتبقى القصيدة هكذا تتبارى لتفوق نفسها في كل مقطع متجاوزة ما قالته في المقطع الذي سبق بحجج وصور فنّية أخرى لا ليتحدّى الشاعر قارئه بسعة موهبته الشعرية وباعه الطويل في الفن الشعري بل أيضا ليتحدّى نفسه بأن يأتي بالأمتن والأعمق في روعة القول ويظل هكذا متنقلا من أبيات إلى أبيات أخرى برمزية وصور تأخذ بعضُها بأعناق بعض والقارئ يتداعى فهمه ما بين الغصن ومعانيه الكثيرة وما بين ما يريده الشاعر إلى أن يسكب الشاعر في ختام القصيدة ماء المعنى على قلب القارئ بأن غصن الشاعر هو : غصني نايا هي قلبي حبي وعمري الجزائر . ولعلني أتحدث عن معنى تمييل الكلمات بهذه الطريقة التي كتبها الشاعر والتي كانت الخاتمة وأقول إنها تتماهى مع موضوع القصيدة المتمثل في الغصن والغصن له هذه الطبيعة طبيعة الميول ، وهذا من دواعي التأكيد على ما أطرحه دائما من أن الشعر الشعبي أو المكتوب باللغة الدارجة لم يعد ذلك الشعر رهين الشفوية بل أصبح كالفصحى يتجلى في التدوين والقراءة مثل ما يتجلى الشعر عموما في الإلقاء ، ولكن كيف لسامع مثلا أن يدرك هذا المقطع الأخير في القصيدة بأنه كتب مرسوما على الورقة بهذه الانفرادية لكل كلمة في سطر ولها هذا الميول ميول التمثيل البصري دون أن يكون ذلك مدوّنا على ورقة ، والشاعر بحسه ومن خلال الرؤية الحداثية التي يتمثلها كتب القصيدة وفي ذهنه تلك الرؤية التطويرية للقصيدة الشعبية ورفعها من مصاف الشفاهية إلى مصاف التدوينية موظفا كل تقنية في الشعر الحديث ليكون مقروءا أكثر مما يكون مسموعا ، إذ أنّى لشاعر أن يصل في كل شعره للقراء من خلال السماع فقط ، بينما ديوان منشور ورقيا يجعله بين يدي كل قارئ يهتم بالشعر وفي ذلك ترقية للشعر الشعبي عموما وترقية له في التواصل ليس مع بيئته فحسب بل مع كل قارئ له مع الشعر تلك العلاقة الوثيقة . وبالطبع لا أميّز هذه القصيدة بتلك الخاتمة التشكيلية البصرية ولكن التقطتها مخافة أن تذوي كفكرة من الذهن إن دخلتُ في عوالم القصيدة : تبتدأ القصيدة كتوطئة بمخاطبة السائل عن غصن الشاعر بقسم معروف قائلا ( بحق الرب المعبود ) ولكنه يضيف قسما جديدا غير مألوف بقوله ( والصباح المنشود ) مضيفا قسما آخر ( وليلي اللي راح ما يعود ) وكم في القسَمين الأخيرين من هوية شعرية للشاعر الذي يدل على أعماقه كإنسان وكشاعر ما بين الأمل باستقبال كل صباح منشود منتظر وبين ليل الشاعر الذي أمعن ماضيا في مجاهل الزمن الماضي ومحال أن يعود وما في ذلك من الحسرة في الأعماق التي تقلق الشاعر ، وبالرغم من أن الشاعر قدّم الأمل بالصباح المنشود على الزمن الذي ولّى إلى لا عودة وقد وصفه بالليالي سواء كانت هذه الليالي ليالي السمر مع الأهل والأحبة أم ليالي السهر والأشواق أم ليالي الظلمة التي كان يعيش الشاعر في حلكتها تائها دون نار دليل . . فإن برأيي تقديم الصباح المنشود أتى بتناسق شعريّ أن كل ليل مهما طال لا بد أن ينجلي بالإصباح ، والشاعر '' أتصور ذلك '' في أعماقه آن يكتب القصيدة وقدّم هذين القَسَمين مخاطبا سائله عن غصنه ليخفّف السائل على الشاعر قائلا له بحق الرب المعبود وما خلق من آيتين تخصّني كإنسان أعيش تحت ناموسيهما '' الصباح والليل '' لا تلحف عليّ بالسؤال وتجعل لحني يتمرّد على العود الذي يصدر منه اللحن وهذه من الصور الجميلة العميقة التي تشي بتمرد الشاعر عن المألوف وأنه من الممكن له أن يتمرّد على الواقع وعلى طبيعة الأشياء وكأنه يقول إنني كشاعر سأقول لكم في شعري ما لم تألفونه من الغناء المتمرد على سياق الغناء المألوف لكم فيما سبق ولو شئت ذلك لفعلته . . فهل فعل ذلك؟ يقول الشاعر : يا السايل عن غصني خبرني عن هبال الروح راها القوافي عمرتها جروح والقلم على ورقي مذبوح وشيطان فكري على جناحي ينوح يبدأ المقطع برد السؤال بسؤال قائلا لسائله أنت أيضا أيها السائل هل تعرف معنى أن تكون الروح في هبل فإن كنت تدرك ذلك فإني أخبرك أن الشعر هو نزف الجروح العميقة في الفؤاد وإن كنت تظن أن القلم يكتب بالحبر فأنت لا تعرف الشعر فالقلم مذبوح وما يسيل من وريده دم وليس مدادا ولعل هذه الصورة لها من الأبعاد النفسية للشاعر كفرد في المجتمع وكمواطن يعبر بلاوعيه عن الذبح الذي تعرض له هذا الشعب سواء من المستعمر في الماضي أو من الفتن التي مر بها الشعب فيما بعد فكان هذا القلم ترجمانا لما كمن في المشاعر بأنه بهذا الذبح حقق ما تمليه عليه الذات بأن سطّر على ورق الحياة خلوده وانبعاثه بعد كل موت يراد له . . ولعل شيطان الفكر أو شيطان الشعر وجد نفسه أنه أقل من الشاعر وليس بمقدوره اللحاق به وقد حلّق الشاعر بجناحيه فرضي أن يكون تابعا للشاعر باكيا على عجزه أمام سبق الشاعر له خيالا وشعرا فبكى من ذلك ورضي بقدرة الشاعر التي تفوق إلهاماته كشيطان للشعر ، وبتقديري أيضا هذه الفكرة سابقة للشاعر توفيق ومان ربما لم يأتِ بها أحد بأن عكس الفكرة المتعارف عليها تراثيا بأن الشاعر هو من يقع تحت سيطرة شيطان الشعر ويستجديه كي يمن عليه بالإلهام لينجز قصيدته . وهكذا كي لا أثقل على القارئ بالملل فإن القصيدة تنتقل بأبياتها من أفكار إلى أفكار كلها تتشابك في وحدة الموضوع يصور كما أسلفت فيها من الجدّة والجمال بآن معا ما يجعل القصيدة لوحات فنية قد لا يدركها ذو بصر قصير فيخال أنها ألبوم من الصور المختلفة ، بينما جوهر القصيدة كما وصلتني هي لوحات لها بداية وطريق ظاهرة للسائر وكذلك طريق خفية يدركها الذوق المتمرس بالشعر فتتوحد لدى المتلقّي طريق ظاهرة بالكلمات المكتوبة بتجريديتها وتنطوي تحتها على دلالات قد يكون ألفها المتلقي وقد يكون خمّن معناها فأصاب أو أخطأ . . وهذه اللوحات هي في الاخير مؤطّرة بإطار قصيدة ذات وحدة موضوعية لتشكّل اللوحة الكاملة للقصيدة الواحدة ( يا السايل عن غصني ) وما ظنّي بالغصن سوى أنه الغصن الذي يكون مع الأغصان التي بجملتها تعطي صورة للشجرة الغنّاء وكأن الشاعر لم يحِد عن موروث الحياة الفكرية البعيدة الغور في النفس العربية من التفاخر بشجرة النسب للقبيلة سابقا وبتطوير هذا المفهوم عند العربي إلى التفاخر بشجرة النسب الوطنية الكيانية ممتدا إلى النسب الأشمل قوميا للحضارة التي هو فرع من فروعها . ولست أقول إن قراءتي هذه مقيّدة للقصيدة بالمعاني التي فهمتها أو بالذوق الشخصي الذي حاولت فيه مزج المتعة باستشراق ما وراء الظاهر في كلمات القصيدة فقد يرى غيري فيها من الجمال ومن المعاني ما لم يخطر لي ببال . وفي الديوان قصائد عديدة نحت المنحى السياسي وأراني متجاوزها لا للتقليل من شأن الشعر السياسي بل لأنني على مسافة من هذا الشعر في الاهتمام وأصرف جل اهتمامي بالمنحى الفني من خلال ذاتية الشاعر أكثر ، على الرغم من أن الديوان يحتوي على قصيدة سياسية ساخرة جميلة والديوان غنيّ ويحتوي على ألوان متعددة من التوجهات الشعرية ما بين الذاتي والوطني والسياسي ولكن الشاعر أيضا وضع في ديوانه عديدا من قصائد الغزل التي نحت منحى الشعر الرومنسي من التشكّي ومن العفاف في مناجاة المحبوبة . . . ومما أعجبني قصيدة نظمها الشاعر توفيق ومان بالاشتراك مع الشاعرة الشابةالجزائرية مي غول بعنوان ( لحبيب ما يرجعش عدوّ ) وهي قصيدة حوارية رائعة تدل أيضا أن مي غول شاعرة غير عادية وتحمل إضافة إلى جمال الوصف بهاء الصورة وجدة الفكر والخيال الشعري المدعوم بالمعنى العميق ، كقولها : لوما حبّك ما نقول اليوم اقعد حدي . . كلّي غرب طامع في شرقو قاع الهدره ما تحط وما ترفد شوف لغصني طاح وردو من فَوْقو وتجفاني هاذ المخدّه ما نرقد كلّي شاعر جرحو في ورقو وتوفيق ومان في مقطع من القصيدة الحوارية يقول : هاذ الحب حلاوتو تزيار ومد ما لامش الورد شوكه في خدّو يا ربي ذا الأرض للغلاّت تمد ونحل البر يمد عسلو من شهدو أنا الروح وإنتي الصوره والقد وكي تجملَت لرواح في الجنّه والخلد لقد كُتبت القصيدة بمشاعر قوية ولكنها لم تطمس هويتهما الشعرية بل دلت القصيدة على أن لكل منهما صوته وأسلوبه وللشاعر توفيق ومان كل الأصالة الشعرية بوضعه قصيدة يشترك فيها مع شاعر آخر في ديوانه . وهكذا لا يمكن لمقالة بهذه العجالة أن تمر على كل قصائد ديوان '' خبر كان '' للشاعر توفيق ومان وما مقالتي هذه سوى قطف بعض من شذرات الزهور الشعرية في الديوان بتعدد أغراضه الشعرية وتعدد مواضيع قصائده ، ولست ممن يطلبون من الشاعر أن يكتب ما يروق للقارئ ولكني أؤؤكد على وجود النفَس الحداثي في شعر الشاعر توفيق ومان وهو كما بدا لي قادرا على التجديد في هذا المضمار لو شاء وبإمكانه أن يتحرر من القالب الشعري التقليدي للقصيدة الشعبية كما فعل في عدة قصائد في ديوانه هذا ولكن هو صاحب الإرادة فيما يذهب إليه إنما هي منّي بمثابة دعوة تحديثية للشكل مع التأكيد على الجوهر المضمون برؤية حداثية للشعر العامّي كما حال الشعر العربي الفصيح الحديث . . مع تأكيدي أن حداثة القصيدة لا تزيدها شعريةً لا بشكلها ولا بمضمونها إن لم يتصدّ لها شاعر موهوب حقيقي ومبدع ومثقف ، كالشاعر الجزائري توفيق ومان ، وأستطرد مضيفا إني تواصلت مع الشعر الشعبي الجزائري فيما حملت معي من الجزائر وأعتقد أن الشعر الجزائري ( الشعبي ). سيعطي الأفضل والأفضل إن بالرؤية الحداثية للشعر وإن بإبداع يعاصر الحياة بأصالة الشعر الشعبي الموروث .